على مبعدة أيام من انتهاء الولاية الرئاسية للعماد ميشال عون تحلّ الذكرى الثالثة والثلاثون لتوقيع "اتفاق الطائف"، وهو الاسم الذي تُعرف به "وثيقة الوفاق الوطني اللبناني"، التي وُضعت بالتوافق بين الأطراف المتنازعين في لبنان برعاية سعودية - أميركية، في 30 أيلول 1989 في مدينة الطائف، وأُقرّت بتاريخ 22 تشرين الأول عام 1989 منهيةً الحرب الأهلية اللبنانية، وذلك بعد أكثر من خمسة عشر عاماً على اندلاعها.
الحديث عن أنّ الاتفاق أنهى الحرب الأهلية اللبنانية لم يعد مُغرياً وجذّاباً لشطر واسع من اللبنانيين الذين تتقدّم عندهم "الهويّة الطائفية" على "الهويّة الوطنية". وهذه "الهويّة الوطنية" التي استطاعت وثيقة الوفاق الوطني بناءها ليست نعيماً مضموناً في ظلّ تعاقب الانقسامات الأهليّة وتراكمها.
في ذكرى التوقيع لا يجد هذا الاتفاق من يحتفي به وبما تضمّنه من إعادة صياغة للنظام السياسي الذي كان قائماً ومتعارفاً عليه باسم "صيغة 1943" التي جعلت من إحدى الطوائف "طائفة مميّزة" في الجمهورية الأولى، لا بل "طائفة حاكمة" كانت تردّ على مثيلاتها الأخريات بأنّ ما تحوزه من "امتيازات" هو "ضمانات" من محيط ذي غلبة عربية وإسلامية. هذا الكلام كان ينطوي على شيء من نشدان لـ "حلف أقلّيّات" يمتدّ من فلسطين المحتلّة إلى سوريا وحكمها العلويّ مروراً بلبنان "المارونيّ" آنذاك.
غفلة اللبنانيّين
ما أحدثه "اتفاق الطائف" ويُغفله اللبنانيون هو خلاصه إلى ثلاث نهائيّات سياسية وميثاقية الجوهر والمضمون وكانت سبباً لانهيار جمهورية وفقدان قيمتها ولقتل عشرات الآلاف وفقدان المئات، فضلاً عن آلاف المعوقين والجرحى. النهائيّات هذه كانت في متن السياسة وليس في هوامشها، وجوهرها توقيع المسلمين والمسيحيين على شروط متعارضة. فكان أن ثُبتت هذه النهائيات في: الاتفاق على نهائيّة الكيان، وعروبته، وعيشه المشترك. ثلاثيّ العناوين هذا كان قبل الطائف سبباً حاسماً في ما رفعته الجهات المتقاتلة في مواجهة بعضها بعضاً منذ خمسينيات القرن الماضي وصولاً إلى مطلع السبعينيات حين وقع الانفجار الكبير الذي لم يُبقِ ولم يذر من البلد شيئاً.
ما ارتضته "الطوائف السياسية" مطلع التسعينيات اتّضح أنّه كان على مضض. الطوائف السياسية هذه تجلّت عند اثنتين: "الشيعية السياسية" و"المسيحية السياسية". الأولى عبّرت عن ذاتها منذ البداية وتستمرّ حتى اللحظة بأدوات قوّة هي "سلاح حزب الله". الثانية جزء منها قبل ليربح على خصمه داخل الطائفة نفسها، وأمّا الآخر فقد عاد وانبثق بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهو بالتعيين "التيار العوني" الذي يستعدّ لمواكبة خروج رئيسه ميشال عون من القصر الرئاسي في الـ 31 من الشهر الجاري.
الفشل من طبيعة "الطائف"؟
يبعث الراهن السياسي لهذه القوى على القلق من وضع البلد على شفا المجهول في ظلّ إصلاء "الطائف" حرباً لا هوادة فيها. وذلك يحصل من خلال إحالة كلّ فشل أو تعنّت سياسي إلى الاتفاق نفسه. في ظلّ وضع كهذا يستحيل الوصول إلى "وطنية سياسية" تتقدّم ما عداها من هويّات. ويستحيل أيضاً بلوغ "الديمقراطية" بما هي جوهر النظام البرلماني الجمهوري الذي أقرّه الاتفاق. في بلد ما زالت فيه مفردات "نحن" و"أنتم" سائدة ينبعث السؤال: كيف لك أن تبني دولة على المعنى الحديث لفكرة الدولة؟
المواصفات الثقافية للجماعات الأهلية المكوِّنة للبنان والمصالح الاقتصادية يمكن تطويرها عبر العيش الواحد الذي يتراجع عنه الكثيرون نحو غيتوات خبروها ماضياً وجرّبوا باختبار المآسي مضمونها ونتائجها الكارثية. صار الحديث عن الدولة الآن حديثاً عن حقوق للجماعات الطائفية الحزبية على الدولة والبلد، وما عاد النقاش عن الحقوق التي يحوزها الفرد ضمن دولة ـ أمّة. وإذ تفترض "الوطنية السياسية" تطوير وطنية غير شوفينية ولا عنصرية، منفتحة وتزيل مخاوف الأطراف الأضعف من الأطراف الأقوى، لكنّ ما يحصل هو العكس. فالأقوياء يحكمون ويتحكّمون باسم "مقاومة إسرائيل".
ما ينبغي التوقّف عنده هو الفرق بين ما يفعله حزب الله حين يأتي بالمقاتلين والأسلحة من إيران، وبين ما تقوم به الجماعات الأخرى حين تنفتح على تأثيرات ثقافية وفكرية ومكاسب اقتصادية تساهم في صياغة بطاقة تعريف للبلد وأدواره ووظائفه. حملة السلاح اليوم ومعهم من يغطّيهم يخوضون عن دراية عميقة حروباً أهليّة مقنّعة، ما عاد يُفيد معها الحديث عن أغلبيّة وأقليّة. الأغلبيّة وهمٌ سياسي. أقلّه هذا ما أثبتته غالبيّة سنّيّة في سوريا استحالت أقليّة لجهة الفعّالية في نظام أقلّوي مُتحكّم.
الاعتراض "الشيعيّ" على الطائف
سلاح حزب الله هو "السبب الأهمّ والأقسى" لِما يعيشه لبنان. سلاحه فئويّ ووظائفه إقليمية، ولا يتطلّب الأمر كثير عناء لإثبات ذلك. حاضره تتمّة لماضٍ قريب جداً، ذلك أنّ الطائفة الشيعية شعرت بأنّها تلقّت ضربة قويّة عندما نصّت التعديلات الدستورية للاتفاق على تجريد رئيس الجمهورية من صلاحيّاته وتجييرها إلى مجلس الوزراء الذي يرأسه مسلم سنّيّ، وذلك من دون أيّ مكسب للشيعة يجعلهم شركاء في الفيتو والاعتراض على قرارات السلطة التنفيذية، كما هو حال ما تبقّى من صلاحيّات لرئاسة الجمهورية المسيحية.
ولأنّ رئيس حركة أمل نبيه برّي آثر الصمت حينها انصياعاً واحتراماً لتحالفه مع سوريا حافظ الأسد، اكتفى رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين بتسمية الطائف "اتفاق الضرورة" لأنّه ينهي الحرب الأهلية، من دون مدح هذا الاتفاق أو ذمّه، مركّزاً على المسارعة إلى تشكيل هيئة إلغاء الطائفية السياسية كما ينصّ الاتفاق. لكنّ المفتي الجعفري الشيخ عبد الأمير قبلان حينها لم يحتمل أن تبقى الأمور على هذا الشكل من الغموض والتعمية فأعلن صراحة في أكثر من مناسبة ابتداء من اليوم التالي لتوقيع الاتفاق أنّ "اتفاق الطائف لم ينصف الطائفة الشيعية التي ضحّت وتضحّي بخيرة شبابها لتحرير لبنان من العدوّ الإسرائيلي".
تنقل صحيفة "النهار" في 6 تشرين الثاني 1989 بعد أيام من إقرار الاتفاق تصريحاً للمفتي الجعفري عبد الأمير قبلان ينعى فيه بند "إلغاء الطائفية السياسية" الذي ينصّ عليه الطائف ويتنبّأ بعدم تطبيقه، فجدّد طرح ما سمّاه "الهواجس"، موضحاً أنّ اتفاق الطائف لا يمحو مخاوف هاجس العودة إلى هذا الميثاق الثنائي الذي تمّ على حسابهم، والذي أوجد داخل المجتمع اللبناني طبقية طائفية وضعت الطائفة الشيعية في موضع الطائفة الدنيا لفترة طويلة من الزمن".
"المسيحيّة السياسيّة" تنبعث
حال المسيحية السياسية آنذاك لم يكن أفضل، فقد قبل به أيضاً رئيس القوات اللبنانية بعدما تحطّم الجسد السياسي المسيحي جرّاء انفجار الغيتو على نفسه بعد الحرب بين جيش قاده عون وبين القوات بقيادة جعجع الذي أراد نصراً سياسياً. القبول الفعلي كان من البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير الذي عاين التشوّهات التي أصابت الرحم المسيحي، وعبّر عنه خير تعبير في "الكنيسة والسياسة"، إذ قال: "لقد شهدت الكنيسة أبناءها يقتلون ويُقتلون ويتقاتلون". كان ذلك خلاصة دامية لِما آلت إليه الأحوال فكان القبول باتفاق الطائف تجرّعاً لكأس مرارات بقيت في الحديث المتواصل عن "صلاحيّات رئيس الجمهورية" التي كانت. وهي صلاحيات كان تجعل من النظام اللبناني السياسي قبل إقرار الطائف "نظاماً رئاسياً" فعليّاً.
"المسيحية السياسية" وإن كانت أرخبيلات سياسية متوزّعة، فهي ترطن بلغة سياسية واحدة. والحديث عن اتفاق الطائف بالنسبة إلى هذه القوى يأتي على استحياء، ذلك أنّ تركّزها السياسي ما عاد له حلّ إلا بأفكار اللامركزية والفيدرالية التي صار لها عناوين واضحة وتلقى قبولاً شعبياً، خصوصاً في الأرياف.
عون وجبران... على هدى "الشيعيّة السياسيّة"
لكنّ الأجرأ والأوضح هي مواقف عون من الاتفاق التي تراوح بين رفض ضمنيّ وتمنّي تعديله، حيناً برفع عقيرته عن "صلاحيّات الرئاسة" والتحشيد الشعبوي، وأحياناً من خلال "ممارسته أعرافاً" مسنوداً على حليفه حزب الله. وإذ قيّدت الرئاسة "أفكاره" ومناصبته اتفاق الطائف العداء فقد تولّى صهره ورئيس تيّاره المجاهرة بذلك. هذا الاشتباك أكثر ما كان يتجلّى في الصراع مع رؤساء الحكومات السابقين الذين ينتقدون ما يعتبرونه خروج الرئاسة عن نصوص الاتفاق والدستور في ممارسة الصلاحيات، وتحديداً في أزمات الفراغ الحكومي.
كان المُقلق في هذا السياق هو إعلان باسيل في مؤتمر صحافي عقده في 13 تشرين الأول الماضي (ذكرى إخراج عون من القصر الرئاسي من قبل الجيش السوري بعد اتفاق الطائف وانتخاب الهراوي رئيساً)، أن "لا إمكانية للعيش والاستمرار مع هذا الدستور النتن والعفن الذي أتانا بالدبّابة، وأكمل علينا بالفساد، وهلّق بدّو (يرغب) ينهينا بالجمود والموت البطيء". حتى عندما زار باسيل دار الفتوى للقاء مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان وبعدما ثبّتت المملكة العربية السعودية مع الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا "اتفاق الطائف" مرجعاً للاستقرار اللبناني، فقد كانت عودته مُرتبكة، وحمّل الطائف "إرباكات النظام السياسي"، وهي لغة رائجة في البلد وبين طوائفه، ولا تنبىء خيراً.
معرفة الخطر الذي يحيق باتفاق الطائف وحدها لا تكفي، خصوصاً حين يكون الاكتفاء بمعرفة تتعايش مع جهل كبير بمصدر الخطر الفعليّ، واستعداد أكبر لاستبدال الاتفاق بـ "لاشيء" حتى الساعة. والخطر ليس فقط في تصريحات، لكنّ هذه التصريحات صارت خطاب طوائف بعينها تنسى أنّ الجمهورية الثانية لحقت بالأولى قولاً وفعلاً، وما بقي هو "التحريض" والصواريخ و"سرايا المقاومة" بعدما خسرنا الجامعة والمصرف والمرفأ والنظام الاقتصادي والنقدي.
على مبعدة ثلاثين يوماً سيغادر عون الرافض لاتفاق الطائف، وسيبقى صهره مسنوداً على "حزب الله" ليصمّوا آذان اللبنانيّين بهواجس طائفية تحمي انتشار التوتر وتؤكّده، ولو عرفوا "وهم يعرفون" أنّ لا قدرة لأحد على ترجمة واقعية لهذه الهواجس.
*نُشر على صفحة أساس-ميديا