الحاجة لسياسات تمنح الأولوية للقيمة الاجتماعية للأراضي في لبنان

الحاجة لسياسات تمنح الأولوية للقيمة الاجتماعية للأراضي في لبنان
الاثنين 11 فبراير, 2019

هناك إجماع على أن لبنان يعاني من أزمة تتعلّق بالأراضي، لكن لا يوجد وفاق حول أسباب هذا الواقع.

 

بالنسبة لمطوّري العقارات والمستثمرين، والمصارف الخاصّة التي تموّل مشاريع الإنشاء، والبنك المركزي الذي ينظّم ويحفّز هذا التمويل، تتجسّد هذه الأزمة بتراجع القطاع العقاري، مما يؤدّي حتمًا إلى انهيار اقتصادي، بحسب اعتقادهم. كما يتوقعون أن هبوط أسعار العقارات، سيقود إلى هبوط اللّيرة اللبنانية، بالإضافة إلى ارتفاع معدّلات البطالة والتضخّم والفقر.

ويعتقد آخرون، أن أزمة هذا القطاع تعود إلى ارتفاع أسعار العقارات ممّا يجعل الحصول على مسكن، أو مكان عمل (مكتب، معمل، أرض زراعية)، أو حتى منتزه عام بمثابة حلم مستحيل. كما يرى هؤلاء أن أسعار العقارات المرتفعة حالت دون إنشاء السلطات المحليّة بنى تحتية اجتماعية ضرورية مثل الحدائق العامة، والمكتبات، والمشافي، و/أو حتى الأرصفة، كون تكلفة استملاك أصغر الأراضي تفوق ميزانية معظم البلديات.

إلا أن هناك مغالطة تكمن وراء كلتا الحجّتين، وهي أن تقدير أسعار الأراضي عبر التطبيق البسيط والمباشر لقوانين العرض والطلب بات أمر مسلّم به. ويرتكز هذا الافتراض على أن مساحة لبنان الصغيرة تجعل من الأراضي موردًا نادرًا مما يبرر ارتفاع أسعارها. في هذه المقالة، ندحض فكرة التسليم بسعر الأراضي، ونرى أن الأسعار الحالية هي نتيجة سياسات لبنان التي حفّزت وكافأت سلوك المضاربة.

فلنبدأ بالإشارة إلى أن أساس التناقض الراهن بين مفهومي أزمة الأراضي في لبنان يكمن في أطر التقييم المتباينة لماهية استخدام الأراضي: هل تعدّ الأراضي "أصول" للمستثمرين الساعين إلى تحقيق عائد أعلى على ثروتهم؟ أم هي مصدر الأمان الوحيد لمواطني ومواطنات دولةٍ لا تؤمّن خطط تقاعد آمنة أو مساكن عامة؟ أم أن الأراضي هي المكوّن الأساسي للسكن ومكان العمل والرفاهية والحركة ولا يجوز بالتالي التعامل معها كأي سلعة تجارية أخرى؟

يُظهر استعراض السياسات العامة الراهنة في لبنان ميلاً واضحًا نحو اعتبار الأراضي سلعة تجارية. فقد قامت هذه السياسات على أساس تسهيل امتلاك الأراضي وتداولها من خلال تنفيذ تدخّلات كبرى (مثل مكننة السجل العقاري وتخفيض جميع أنواع الضرائب وتسهيل امتلاك الأجانب للأراضي وتسهيل تجميع الأملاك العقارية والإعفاء من رسوم تسجيلها) بينما تمّ إمداد مطوّري المباني بحوافز من أجل زيادة التطوير الخاص لمباني سكنية متعددة الطوابق (كزيادة معدّلات الاستثمار، وتسهيل الحصول على التصريحات، وتقديم استثناءات)، ما أدّى في نهاية المطاف إلى توجيه رأس المال نحو القطاع العمراني على حساب ضرورات ثقافية واجتماعية وبيٍئية أخرى. في المقابل، إن غياب الحماية الاجتماعية (قانون ضمان الشيخوخة، وإعانات البطالة، وسياسات الإيجار المنخفض الكلفة و/أو المساكن العامة)، المقرون بالقروض التي تستهدف الطبقة الوسطى، جعلت من تملّك المساكن حلمًا من الصعب تحقيقه بالنسبة لأغلب سكان المدن. أدّت هذه السياسات إلى زيادة أسعار الأراضي نظرًا لأن مطوّري العقارات غالبًا ما يحدّدون أسعار الشقق بناءً على سقف القروض.

في المقابل، قد ترتكز أطر السياسات المتّسمة بوعي اجتماعي على منح الأولوية لقيمة الأرض الاجتماعية عبر عدد من التدخلات السياسية التي تشمل:

  1. حوافز كبيرة للمستثمرين لتوجيه رؤوس الأموال نحو قطاعات أكثر إنتاجية وخلق الوظائف مثل قطاع التكنولوجيا والتجارة الزراعية والتصميم وغيرها؛
  2. ضرائب مرتفعة على المضاربة العقارية من أجل خفض معدّلات الشغور واسترداد القيمة الزائدة لأسعار الأراضي وإعادة توزيعها عبر تمويل مشاريع البنى التحتية والمنتزهات العامّة؛
  3. إطار تخطيطي وطني يلغي المبدأ الحالي الذي يعتبر أن جميع الأراضي مخصّصة للبناء، ويسترد القيم البيٍئية والاجتماعية للأراضي اللبنانية بالتزامن مع تفعيل الأنظمة القائمة (مثل قانون التنظيم المدني) من أجل تمكين السلطات من تعديل عوامل الاستثمار بإرادتها ودون تعويضات، ما يسمح لهذه السلطات بترشيد وتنظيم مستقبل التطوير العقاري لما يتناسب مع رؤية اجتماعية وبيئية عامة.

في المقابل، وُضعت أبحاث صادرة عن برنامج العدالة الاجتماعية والمدينة في معهد عصام فارس للسياسات العامة في الجامعة الأميركية في بيروت مقترحات أقلّ طموحًا، وهي على الأغلب أكثر واقعية في ظلّ المناخ السياسي الحالي. فقد أظهرت إمكانية استرداد القيمة الاجتماعية للأراضي عبر تدخلات تخطيطية بسيطة وتعديلات صغيرة في السياسات. على سبيل المثال، يطرح مقترح تخطيطي للواجهة البحرية، تمّ إعداده في أيلول ٢٠١٨، فتح مساحات شاطئية للعامة، عبر فرض تراجع إضافي على الإنشاءات، وإلغاء الاستثناءات للإنشاءات الكبرى. يعيد هذا المخطط ربط المدينة بشاطئها ويزيد من إمكانية وصول كافة السكان إليه، وبالتالي يعيد إحياء نشاطه الاقتصادي بشكلٍ يفيد العديد من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم كالمطاعم والفنادق والخدمات الترفيهية.

على غرار ذلك، يشدّد مخطّط مقترح لسياسة الإسكان على ضرورة بناء عددٍ كافٍ من المساكن ذات كلفة معقولة في المساحات المدينية داخل لبنان. يمكن لذلك أن يتحقق عبر تمويل تعاونيات سكنية، وتقديم حوافز للمطوّرين الذين يسعون إلى الربح المحدود، وفرض نسبة إجبارية من السكن الدامج على كلّ مشروع إنشائي جديد، بالإضافة إلى مراجعة الحدود المدينية وسياسات المواصلات من أجل دمج المدن بالضواحي. كما يقترح المخطط عدد من التدخّلات الهادفة إلى الحدّ من المضاربة، بما في ذلك فرض ضرائب على الشقق الشاغرة والأراضي غير المطوّرة.

في الختام، دعونا نشدّد على أن ما نحتاج إليه اليوم هو انعكاس القيمة المعطاة للأراضي: على السياسات أن تمنح الأولوية للقيمة الاجتماعية للأراضي في لبنان في سبيل خلق مدينة قابلة للعيش، كمكوّن أساسي للسكن المعقول الكلفة، وللمساحات العامة أو الخضراء، وللبنى التحتية المرتبطة بالمواصلات، وللحياة بشكل عام.

 

منى فواز ودنيا سلامة

 

منى فواز، مديرة برنامج العدالة الاجتماعية والمدينة في معهد عصام فارس للسياسات العامة في الجامعة الأميركية في بيروت.

دنيا سلامة، منسقة برنامج العدالة الاجتماعية والمدينة في معهد عصام فارس للسياسات العامة في الجامعة الأميركية في بيروت.

 

ينشر معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت أسبوعيًا سلسلة من المقالات حول مواضيع مختلفة متعلّقة بالسياسات العامة والمرتبطة بالأبحاث والإنتاج الفكري الذي يصدره المعهد. تهدف هذه المقالات إلى تحليل الوضع القائم والبناء عليه لتقديم اقتراحات عملية للعام 2019 قد تُلهم صناع السياسات وأصحاب القرار والمهتمين بإيجاد حلول للأزمات القائمة وسبل للتطوّر والتقدّم في مجالات مختلفة.