الحـــــوار المسيحـــي – السُّــــوري وسُبل الخروج من الأزمة الراهنـة
يُشكِّل اتفاق الطائف، وتالياً الدستور اللبناني الجديد، مرجعيّتنا الأساسية في النظر إلى الأزمة اللبنانية الراهنة وسُبل الخروج منها.
القسم الأول: في أزمة بناء الدولة
*كرَّس اتفاق الطائف جملة من الأمور هي في أساسيات أي اتفاق لبناني للخروج من الأزمة، بصرف النظر عن العوامل الخارجية التي أحاطت بالاتفاق: فقد اعترف الطائف ، للمرة الأولى بصورة واضحة، بالطابع النهائي للكيان اللبناني، وأكَّدَ ضرورة استعادة الدولة لسيطرتها على كامل الأراضي اللبنانية بقواها الذاتية وانسحاب جميع القوات الأجنبية. ومن جهة ثانية كرَّسَ الاتفاق انتماء لبنان الى العالم العربي، ومنح المسلمين توازناً جديداً في السلطة.
سمح هذا الاتفاق بانجاز خطوات مهمة على طريق إنهاء الحرب، ففي ظلّ هذا الإتفاق، تـمّ تحقيق الأمور التالية: وقف القتال وإلغاء خطوط التماس بين المناطق، توحيد مؤسسات الدولة، البدء بعودة المهجّرين، مع أن هذه العملية استمرّت بطيئة وبصورة متعثرة، تأمين الاستقرار النقدي، ولو على حساب الدورة الاقتصادية ومعالجة الضائقة المعيشية، إعادة التواصل بين لبنان والعالم.
*غير ان التطبيق الكيفي والمُجتزأ لاتفاق الطائف حال دون الوصول الى استقرار سياسي وهو شرط ضروي لإرساء السلم الداخلي على أسس متينة وثابتة. ولعلّ أوضح مؤشِّر لهذه الحالة ارتفاع الشكوى المسيحية من عدم تمثيل المسيحيين في السلطة تمثيلاً صحيحاً وعادلاً. ومن مؤشراتها الأساسية أيضاً نشوء تزاحم شديد بين الطوائف الاسلامية على السلطة.
لقد انعقد اتفاق الطائف بين اللبانيين في إطار "تسوية" مسيحية اسلامية تمثلت بقبول المسيحيين الإصلاح السياسي والتوازن في السلطة مقابل تأكيد سيادة لبنتان واستقلاله ونهائية كيانه وانسحاب والقوات الأجنبية. ويشعر المسيحيون أنهم قدّموا ما توجّب عليهم في " صفقة التسوية" في حين لم يحصلوا على المقابل!
وهكذا استخدم الاتفاق وكأنه أداة لتحقيق غلبة فريق على آخر، فاستبعدت من مقاصده المصالحة الوطنية والشراكة والتوازن مما أحدث خللاً في الصيغة السياسية لم تستطع احتماله، ونشك في قدرتها على التكيف معه لأنه أصاب أساس الميثاق الوطني وفلسفته اللذين جدّدهما إتفاق الطائف نفسه وأثبتهما في نص الدستور.
*جاء تطبيق إتفاق الطائف مُنافياً لروح الاتفاق ونصه، في عدد من المجالات أهمها:
- حكومة الوفاق الوطني:
أقـرَّ إتفاق الطائف أن المصالحة الوطنية وقيام حكومة وفاق وطني يشكلان المدخل الأساسي لطيّ صفحة الحرب، باعتبار أنه لا يوجد فريق لبناني منتصر في هذه الحرب بل يوجد فريق واحد خاسر هو كل لبنان. إنّ إدارة الطائف تجاوزت هذه المسألة الجوهرية شكلاً ومضموناً، فجاءت بحكومات " اللون الواحد"، واعتبرت ان التفاهم بين قيادات هذا اللون يُغني عن المصالحة المطلوبة. لقد بدا هذا الفريق أنه يريد متابعة المعركة وحسمها في إطار الطائف، وكان له الدور الأساسي في تغييب روح التسامح عن الحياة السياسية اللبنانية في مرحلة ما بعد 1990.
- السلطة التنفيذية
إن انتقال السلطة التنفيذية، بموجب اتفاق الطائف، من رئاسة الجمهورية الى مجلس الوزراء مجتمعاً حيث تتمثل الطوائف بالتساوي – هذا الانتقال منح مجلس الوزراء صفة سياسية تمثيلية الى جانب صفته الإجرائية، وفي مثل هذه الحال - وهي تجربة جديدة في إدارة الحكم في لبنان – يتمّ اللجوء الى التصويت عندما يتعذر تأمين الاجماع أو شبه اجماع لتفادي الشلل في عمل السلطة التنفيذية، الى ذلك، فان مجلس الوزراء لم يعد مطلوباً منه الانسجام بالمعنى التقليدي، أي الانسجام الناجم عن انتماء الوزراء الى تيار سياسي واحد، وإنما اصبح مطلوباً منه البحث عن الانسجام عن طريق التوافق.
إن تجربة الحكومات المتتالية بعد اتفاق الطائف لم تكن منسجمة مع روح الاتفاق في هذا المجال:
- غلب على اختيار الوزراء صفة التنفيذ والتكنوقراط على صفة التمثيل السياسي، الأمر الذي تنافى مع الطبيعة الجديدة لمجلس الوزراء وساهم في إضعاف النقاش والمداولات، بل ألغاها في معظم الأحيان.
- من نتائج ذلك، أصبحت قرارات السلطة التنفيذية تؤخذ بالتراضي بين الرؤساء الثلاثة الذين يختزلون الطوائف الثلاث الرئيسية في البلاد، والى جانبهم عدد من " الوزراء الثوابت". هذا الأمر يتم بذريعة التعاون بين السلطات وتأمين الانسجام الحكومي، وقد أدّى عملياً إلى تحويل مجلس الوزراء " دائرة تسجيل" ولم يعد أمام الوزير المعترض - إذا وجد – سوى تسجيل اعتراضه.
ترتب على هذا النهج نتيجتـان أساسيتان: أولاً، انخراط رئيس مجلس النواب عملياً في آلية السلطة التنفيذية، وبالتالي تداخل السلطتين الاجرائية والتشريعية، وثانياً، تعطيل مؤسستي مجلس الوزراء ومجلس النواب. واذا أضفنا الى ذلك واقعة امتناع تداول السلطة في مرحلة ما بعد الطائف نكون أمام صيغة للحكم هي أقرب ما تكون الى الأوليغارشية منها إلى صيغة الحكم الديموقراطي البرلماني.
- الانتخابات النيابية
اعتمد في الانتخابات التي جرت في العامين 1992 و 1996 قانون يتعارض بشكل واضح مع نص اتفاق الطائف. ففي حين نص الإتفاق على رفع عدد النواب الى 108، رفع النواب العدد الى 128 واعتمدوا تقسيمات انتخابية تتنافى مع ما هو محدد في الإتفاق الذي سبق وأكّد اعتماد المحافظة دائرة انتخابية وذلك بعد إقرار التقسيم الإداري. ويصرّ المسؤولون على انتهاك اتفاق الطائف بطرحهم فكرة قانون جديد للانتخابات يجعل من لبنان دائرة انتخابية واحدة، حتى قبل أن يستوعب اللبنانيون تجربة الدائرة المتوسطة اي المحافظة.
- اللامركزية الادارية
نصّ إتفاق الطائف على اعتماد اللامركزية الادارية واعتبر ان التقسيم الإداري يجب أن يسبق الانتخابات النيابية التي كان من المفترض ان تجري على أساس هذا التقسيم. فبعد سنوات على اتفاق الطائف، لم يتم شيء في هذا المجال ولم تقدّم الدولة على تنظيم انتخابات بلدية.
- السلطة القضائية
ان القضاء لم يبرز كسلطة دستورية مستقلة توازي وتوازن السلطتين الاشتراعية والتنفيذية وتضمن الحريات العامة والخاصة. إن قيام مثل هذه السلطة يكتسب أهمية استثنائية في بلد خارج من حرب طويلة، إذ ينعقد الأمل تلقائياً على هذه المؤسسة لإرساء دولة القانون وضمان الحريات العامة. وقد أكّد الطائف على أنه "ضماناً لخضوع المسؤولين والمواطنين جميعاً لسيادة القانون وتأميناً لتوافق عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية مع مسلمات العيش المشترك وحقوق اللبنانيين الأساسية المنصوص عنها في الدستور:
لم يتمّ تشكيل المجلس الأعلى حتى الآن. أما المجلس الدستوري، فقد تعرض ولا يزال لضغوط السلطة السياسية، الأمر الذي يشير الى ان هذه السلطة لا تحتكم الى الدستور والقانون.
- المجلس الاقتصادي – الاجتماعي
أقرَّ اتفاق الطائف انشاء المجلس الاقتصادي الاجتماعي الذي يمثل مجالاً للمشاركة محرراً من القيد الطائفي يتمثل فيه اللبنانيون بحسب موقعهم في عملية الانتاج. يبدو أن مرور حوالي سبع سنوات على إبرام الطائف ليس كافياً في نظر السلطة لإطلاق هذه الفاعلية الاجتماعية التي تشكل المدخل الأساسي لانتاج عقد اجتماعي جديد. وفي غياب مثل هذه المؤسسة، يبقى الكلام على عقد اجتماعي كلاماً إنشائياً. هذا، وقد نصّ اتفاق الطائف على " العمل على تحقيق عدالة اجتماعية شاملة من خلال الاصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي".
- عودة المهجرين
إن هذه المسألة أساسية في مسيرة السلام، لأنها تتعلق بإعادة تكوين بُنية طائفية مشتركة، فضلاً عن كونها ترتبط بحق وطني إنساني قانوني لا يمكن تجاوزه. فعودة المهجرين لا تشكل مرحلة أخيرة من مسيرة السلام، بل هي شرط لسلامة هذه المسيرة.
إنّ عودة المهجرين جميعاً مسألة وطنية تتجاوز السياسة، كما لا يجوز حصر طرحها من باب الامكانات المادية، ولقد أعارت الدولة هذه المسألة جانباً من الاهتمام، غير أنه لم يكن كافياً، فضلاً عن هدر أموال طائلة من دون رقابة جدية. ويكفي في هذا المجال الاشارة الى انه بعد سبع سنوات وبعد صرف مئات الملايين من الدولارات، لم يتقدم حلّ هذه المشكلة الا بنسبة عشرين بالمئة على أحسن تقدير.
- مرسوم التجنيس
اعترف وزير الداخلية أنه ليس في أعداد المُجنسين بموجب المرسوم توازن على المستوى الطائفي لأن الدولة نظرت الى المسألة "من الناحية الانسانية والاجتماعية" . في حين أن وثيقة الطائف والدستور الجديد جعلا قانون الجنسية، وبالتالي منحها، من القضايا الكبرى كقضية الحرب والسلم وقانون الانتخاب وسواها التي تحتاج الى قرار باكثرية الثلثين في مجلس الوزراء وليس الى مرسوم بتوقيع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير الداخلية، لأن التوازن السكاني في لبنان هو في أساس أهم ميزاته، أي العيش المشترك، وهذا يستدعي التفكير في ما يجيب اتخاذه من تدابير للحفاظ على صيغة لبنان وهويته ومميزاته.
- قانون العفـو
لم يطبّق هذا القانون بالتساوي على قادة الميليشيات. ففي حين تمَّ ملاحقة قائد القوات اللبنانية، الدكتور سمير جعجع، بحجة ارتكابه جريمة تفجير كنيسة سيدة النجاة، الأمر الذي برَّأه منه القضاء، يستمر قادة الميليشيات الآخرون في السلطة علماً أن هناك ملفات عدة تطالهم ولم يشملها قانون العفو لا تزال في الإدراج. إن المطلوب هو اعتماد قاعدة واحدة في هذا المجال، إما شمولية العفو وتجاوز الماضي، وإما محاسبة الجميع.
- حـلّ الميليشيــات
نصّ اتفاق الطائف على حل الميليشيات خلال ستة أشهر تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني وإقرار الاصلاحات السياسية بصورة دستورية. إن هذا الأمر تـمَّ في بعض المناطق ولم يشمل كافة الميليشيات. ولا نعني بذلك سلاح المقاومة. إلاّ أن شرعية سلاح المقاومة في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي لا تُبرِّر إبقاء السلاح في أيدي بعض الفئات والأحزاب التي لا تضطلع بأي دور في مقاومة إسرائيل، كما لا يبرر ظهور السلاح في أماكن ومناسبات لا علاقة لها بمقاومة الاحتلال في الجنوب.
- الحريّـات العامة وحقوق الانسـان
شهدت السنوات الماضية تجارب مريرة على مستوى ممارسة الحريات العامة وحقوق الانسان، وتحدثت منظمات دولية عدة تتعاطى الشأنيْن الانساني والحقوقي عن إعاقة وسائل التعبير وملاحقة بعض المواطنين على ميولهم السياسية وزجّهم في السجون وتعذيبهم أو ترهيبهم، ونقل بعضهم الى سوريا، اضافة الى الحدّ من حرية النشر ومصادرة الكتب وسواها. وفي هذا المجال، لا بدّ من التوقف امام خطورة إقدام السلطة على شق الحركة النقابية وضرب حرية الاعلام من خلال منح امتيازات لفرقاء في السلطة ومنعها عن آخرين خارج السلطة.
- إلغاء الطائفية السياسية
نصّ إتفاق الطائف على أن " إلغاء الطائفية السياسية هو هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفي خطة مرحلية،" وعلى مجلس النواب المنتخب على اساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالاضافة الى رئيس مجلس النواب ورئيس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها الى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.
إن تشكيل الهيئة المذكورة لم يتمّ. ويستخدم بعض السلطة مسألة إلغاء الطائفية السياسية ورقة ابتزاز ضد فريق من اللبنانيين، علماً بأن الخطوة الأولى لتجاوز الطائفية هي في ايجاد سلطة تتمثل فيها جميع الطوائف وتأخذ على عاتقها تحديد المجالات والبرامج الآيلة الى تحقيق هذا الهدف.
- الإنماء المتوازن
نص اتفاق الطائف على أن " الانماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً هو ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام". هناك شكوى عامة من أن عملية الانماء والاعمار تتركز على مدينة بيروت، فضلاً عن ان العقلية التي تقود هذه العملية تجنح بقوة وبتسرّع ملحوظ الى تحرير الدولة اللبنانية من مهامها الرعائية على الصعيد الاقتصادي-الاجتماعي ، الأمر الذي يترتب عليه نتائج اجتماعية خطيرة. إن الدعوات الى " ثورة الجياع" التي أخذت تظهر في غير منطقة لبنانية هي بعض من تلك النتائج.
- إعادة تمركز القوات السورية
نصّ اتفاق الطائف على أن هذه المسألة سوف تتم " في فترة زمنية محددة أقصاها سنتان تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني وإقرار الاصلاحات السياسية بصورة دستورية." إن اتفاق الطائف قرن مسألة "إعادة التمركز" بانجاز ترتيبات داخلية لبنانية، وقد حصلت هذه الترتيبات من دون أن يُبنى على الشيء مقتضاه. وبالتالي لم يعد الوجود العسكري السوري ، في صيغته القائمة، مستنداً الى نص اتفاق الطائف.
النتائج المترتبة على سوء تطبيق إتفاق الطائف
*لقد ترتب على مجافاة اتفاق الطائف نصاً وروحاً نتائج خطيرة أبرزها ثلاث:
أولاً: اعادة إنتاج الخلل في الصيغة اللبنانية
إنّ ميثاث الطائف لم يكن مجرد اتفاق لوقف القتال، كما يزعم البعض من داخل الحكم وخارجه، بل قدم مفهوماً مجدداً لتصحيح الصيغة اللبنانية يقوم على التكافؤ والمساواة بين المسيحيين والمسلمين وعلى دولة القانون والمؤسسات. وهذا هو المعنى الحقيقي لروح الطائف الذي غيبته تجربة الحكم خلال سبع سنوات.
إن روح الطائف تحتم استيعاب ثلاثة أمور أساسية لا يستقيم نهج الحكم من دونها:
إن تهميش موقع المسيحيين في الدولة – أكان ذلك بسبب الانكفاء، أو الاقصاء، او للسببيْن معاً- هذا التهميش أدّى إلى خلل غير شكلي في الصيغة، كما أدى عملياً إلى وجود أحادية اسلامية في السلطة. إن هذه الأحادية الاسلامية، بصرف النظر عن مدى إمساكها الفعلي بالسلطة، تنطوي على ثنائية مذهبية ( سنية – شيعية) تقوم بدورها على نصاب من التنازع شديد الوضوح يستمد بعض مقوماته الأساسية من غياب أو تغييب الشريك المسيحي.
إن منطق الثنائيات الطائفية هو منطق خطير تـمّ اختباره على مدى عقود، فالثنائية الدرزية –المارونية التي يعود تاريخها الى عهد الأمير فخر الدين انتهت بحرب أهلية دموية. والثنائية المارونية – السنية التي حلت مكانها انتهت أيضاً بحرب مدمّرة. أما الثنائية" الحالية بين السنّة والشيعة، فقد ولدت هزيلة لأنها في الواقع عبارة عن " أحادية" طائفية تلغي مبدأ الشراكة الاسلامية – المسيحية الذي يقوم عليه لبنان.
إن ما يشهده الوضع الداخلي اللبناني في هذا الوقت يثير الشكوك والمخاوف. فالثنائية المذهبية المكرّسة في الدولة تبدو مندفعة للانتظام في صفين متقابلين. وفي هذا الاتجاه او ذاك يجري توظيف عدد من القضايا الأساسية والفرعية، الأمر الذي من شأنه تعميق الانقسام الداخلي ودفع التقابل الى نهايات تناقض المصلحة الوطنية الجامعة.
ولعل أخطر ما تنطوي عليه نزوعات أهل الحكم والمآرب الخارجية في هذا الوقت هوالسعي، بعد أزمة الثنائية المذهبية القائمة حالياً في الحكم، إلى تركيب ثنائية طائفية جديدة. إن قيام ثنائية جديدة، أياً يكن طرفاها، لن يؤدي الى استتباع الآخرين فحسب، وانما دونه معارك باهظة الثمن من أجل إعادة تكييف الأوزان والأحجام الطائفية.
ثانياً : ضرب مفهوم الدولـة
إن الوظيفة المركزية لاتفاق الطائف وإدارته السياسية هي إعادة بناء الدولة بعد الحرب. في هذا المجال تـمّ توجيه ضربة قاسية الى مفهوم الدولة لعل أبرزها ما يلي:
أ- امتناع تداول السلطة طوال الفترة الماضية والحؤول دون وصول الكفاءات القادرة على النهوض بأعباء المرحلة والميثاق الجديد.
ب- استصدار قوانين مخالفة لمبدأ "عمومية القانون" بحيث جاءت على مقاسات استنسابية وفئوية، وأبرزها قانون الانتخابات النيابية.
ج- الاساءة الى القضاء إساءات بالغة من خلال التدخل السياسي في عمله وتحميله، في الوقت نفسه، تبعات الفصل في ملفات ملتبسة سياسياً مثل ملف الميليشيات والنفايات السامة والفساد...
د-العجز عن إجراء اصلاح اداري بسبب اصرار أقطاب السلطة ، وباعترافهم، على التدخل السياسي في هذا الشأن، ما أدى الى تعطيل عمل هيئات المراقبة والمحاسبة.
هـ-استباحة الدولة من قبل السلطة على نحو لا يجد مرجعيته السلوكية إلا في تجربة الميليشيات أثناء الحرب. فبالاضافة الى استشراء الفساد، جرى تسخير القانون لمصالح الأشخاص (قانون الاعلام مثلاً) وبدت الدولة مجالاً طيعاً للمُحاصصة والقضم.
إن مظاهر الخلل المتنوعة على هذا الصعيد ترجع، في الجانب الاساسي منها، الى احتكار السلطة من قبل فئة ضئيلة لا تشعر بالحاجة الى تأييد المجتمع، كما ترجع الى واقع اختزال السلطة التنفيذية بشخص واحد أو من خلال " ترويكا" متحاربة على الدوام. في هذا الإطار، تجري عملية بناء الدولة على قاعدة " التلزيم" وعلى أساس فرضية خاطئة مفادها أن عملية البناء لا تحتاج إلى المشاركة وتعبئة الطاقات الداخلية، وإنما يكفي لانجازها الاستعانة بالطاقات والخبرات الأجنبية. علاوةً على ذلك، يتوهم البعض خطأ ان اللبنانيين على استعداد للاستقالة من الشأن العام في مقابل وعود بازدهار آتٍ وتحسين ظروفهم المعيشية الضاغطة، بينما تؤكد لهم الوقائع ان الانجازات الاعمارية تبقى معلقة طالما انها لا تندرج في سياق يعيد الى اللبنانيين قدرتهم على الامساك بمصيرهم.
في صلب هذه الحالة الملتبسة الهشَّة، تقع الظاهرة الحريرية بوجهيها الإعماري والسياسي، واذا كانت الحياة السياسية" المسحوبة العصب" في الدولة تتحمل المسؤولية الأولى عن شرعنة النهج الاعماري للرئيس الحريري، فان النقد الأساسي الذي يمكن ان يوجه الى الظاهرة الحريرية هو كونها غريبة عن روح الاجتماع السياسي اللبناني وتقليده الميثاقية التوافقية. إنها ظاهرة يجري إسقاطها على مجتمع خرج منهكاً من الحرب، فهي بالتالي لا تبرأ من تهمة "التسلل غير المشروع" الذي يرمي الى ابتلاع الحياة السياسية، فيما لا يحق لها، على أحسن تقدير، سوى أن تكون عنصراً واحداً من بين عناصر كثيرة تشكل لوحة الحياة السياسية. ولعلّ التضخم في بعض أبعاد هذه الظاهرة ناتج عن ضمور" مقاسات" أخرى بجانبها. إن العلاقة بين الظاهرة الحريرية وواقع الاجتماع اللبناني تتمثل بسعي هذه الظاهرة الى تجسيد نموذج " الزعيم الأوحد" في بلد لعله المكان الوحيد في المنطقة العربية الذي لا محلّ فيه لفكرة " الزعيم الأوحد".
ثالثا: نشـوء أزمـة قِيَـم
إنّ إعادة بناء الدولة بعد الحروب والكوارث تتطلب النجاح في حثّ المجتمع على التضحية والاحتمال. هذه القيمة ضربتها السلطة الحاكمة من خلال نموذج الاستباحة الذي قدمته، مما جعل المواطن يتساءل حول جدوى تضحيته، خاصة وأنه يرى أن السلطة لا تشاركه هذه التضحية فضلاً عن أنها توظف معاناته في أرصدتها الخاصة.
لم يعدْ اللبنانيون يقبلون بسلطة لا توحي لهم بالاحترام. إن الدولة هي صورتهم الجماعية، فلا يقبلون بأن يخجلوا منها وأن يلجأوا كما في السابق إلى صُور جماعية أخرى أكانت أوسع من الدولة، الوطن العربي مثلاً، أو أضيق منها، الطوائف والعشائر.
إنّ الدولة هي اليوم بحاجة ماسَّـة إلى إعادة تأهيل كي ترتفع الى المستوى الذي وصل اليه المجتمع نتيجة تجربة الحرب. وعملية اعادة التأهيل أصبحت ملحة بعد الفضائح التي أثارها أهل السلطة، اذ جاءت هذه الفضائح لتؤكد أن لبنان إنما يحكم من قبل مجموعة " تائبين" يستمدون شرعيتهم من قانون عفو عام وضعوه لأنفسهم، فاذا كانت التوبة عملاً مشكوراً، فانها لا تُؤهِّل أصحابها للتحكم مجدداً بمصير الناس. إن الخلل في سلوك السلطة ليس فقط مُنافياً للأعراف والقوانين وإنما يتناقض أيضاً مع النظام الأخلاقي – القيمي . فالمنطق المعتمد من قبل السلطة يضع الصواب والخطأ، الحق والباطل، في منزلة واحدة. فالشعب اللبناني يجد نفسه باستمرار مطالباً بالشيء ونقيضه. فهو في آن واحـد:
إنّ أزمة القيم هذه ساهمت في إشاعة جو من "الاكتئاب العام" أدى الى انكفاء اللبنانيين عن الشأن العام وتشجيع الهجرة نحو الخارج وخاصة هجرة الكفاءات، كما ساهمت في ترسيخ شعور بالعجز واللامبالاة، وهذه كلها من شأنها تعطيل طاقات المجتمع واسهاماته - لا سيما لدى الشباب – في النهوض وإعادة البناء.
*إن الجمهورية الثانية التي تأسست في نهاية العام 1990 أوصلت نفسها والبلاد الى الحائط المسدود.
هذا الأمر يتطلب عقد حوار وطني يبعث روح الطائف الحقيقية، فيُنهي الثنائيات في السلطة ويعيد التوازن الى الصيغة اللبنانية بعد إعادة النظر في التطبيقات الخاطئة للميثاق الوطني والدستور.
إن القوى والقيادات المؤهلة للمبادرة في هذا الاتجاه هي بوجه عام تلك القوى والقيادات غير المنخرطة في الاصطفاف القائم وغير المستفيدة من حال التشرذم اللبناني، وهي قوى وقيادات موجودة في جميع الطوائف والقطاعات والشرائح الاجتماعية وإن بنسب متفاوتة. وهذا التفاوت ناجِم عن ظروف موضوعية وليس عن مؤهلات خاصة.
في هذا المجال، فان الكتلة المسيحية – بحكم استبعادها عن السلطة وابتعادها تالياً عن الاصطفافات القائمة – تبدو لنا مؤهلة في الظروف الراهنة لاحتضان حركة جديدة رافضة للثنائيات باتجاه إعادة توحيد البلد على اساس روح الطائف التي تقوم على الشراكة والتكافؤ وتجاوز مختلف صيغ الغلبة والاستقواء.
في تقديرنا أن هذا الدور المرشح أن تضطلع به القوى المعتدلة والنخب الواعية في الكتلة المسيحية شبيه بالدور الاصلاحي والتجديدي الذي مثَّلهُ كل من الامام موسى الصدر وكمال جنبلاط في لحظة وصول الثنائية السابقة المارونية – السُّنية الى قمة أزمتها وبروز الحاجة الملحة الى تجاوزها. ولم يكن هذا الدور متأتياً الاّ بسبب وجودهما خارج تلك الثنائية. فالأساس في أطروحة الامام الصدر كان في سعيه الى إدخال نوع من التوازن على الصيغة اللبنانية بإدخال الشيعة في هذه الصيغة، كما كان الاساس في أطروحة كمال جنبلاط قبل الحرب هو العمل على إدخال الفاعلية المدنية كعنصر توازن جديد على الصيغة اللبنانية التي كانت محجوزة للمعنى الطائفي.
إن تحرّك الكتلة المسيحية في هذا الظرف الخطير يحتاج إلى أمرين هما:
القســم الثانـي: في العلاقـة مع ســوريا
*إنّ تجاوز الأزمة الخطيرة التي تمرّ بها البلاد هي مسؤولية اللبنانيين، وبالتحديد مسؤولية القوى غير الضالعة في إيصال البلاد إلى الأزمة الراهنة.
غير أن تجاوز هذه الأزمة لا يتمّ بمعزل عن التفاهم مع سوريا نظراً لدورها ومسؤوليتها في رعاية اتفاق الطائف. ان استمرار الأزمة اللبنانية والسياسات التي أوصلت الى هذه الأزمة لا تعيق قيامة لبنان وقدرته على التعامل مع استحقاقات المرحلة فحسب، وإنما تشكل عبئاً على سوريا وباباً للضغط عليها، فضلاً عن أن هذه السياسات تحول دون بناء علاقات سليمة وثابتة بين لبنان وسوريا.
لقد كان لسوريا دور أساسي في إنهاء الحرب وتوفير الأمن في لبنان، غير ان هذا الاستقرار "الأمني" لم يصبح سلماً حقيقياً أنه لم يستند الى استقرار سياسي مبني على ثوابت الصيغة اللبنانية، فاستمرت الحرب قائمة بأشكال "باردة" . وهكذا بات الدور السوري داخلاً في مفهوم إدارة الأزمة بدلاً من أن يكون راعياً لعملية الخروج منها. إنّ هذا الموضوع أصبح أكثر تعقيداً مع تردّي العلاقات السورية –الأميركية وانقسام السلطة في لبنان على نفسها بعدما ساهمت هذه السلطة بشكل أو بآخر في تقزيم الدور السوري وتأليب اللبنانيين على سوريا.
إن الحكم على صحة وسلامة الدور السوري ينطلق من محافظته على لبنان. والمحافظة على لبنان تعني الحفاظ على العيش المشترك بين فئاته وطوائفه في إطار الشراكة والتوازن. لذلك، فان اللبنانيين لا يطلبون من سوريا سوى مراعاة هذه القضية المركزية والعمل على إعادة التوازن المفقود الى الحياة اللبنانية. الأمر الذي يُساعد على قيام الدولة المتماسكة والمتصالحة مع مجتمعها والتي يمكنها بالتالي أن تكون مصدر اطمئنان ودعم لسوريا. إن تقديم هذا العون هو جوهر المهمة الإنقاذية التي ينبغي أن تضطلع بها سوريا في لبنان، وهو – لا الوجود العسكري الأمني ولا الترتيبات الوقائية – الذي يُعزّز مكانة سوريا في نفوس اللبنانيين.
غير أن الدور السوري المطلوب يصطدم بسوء العلاقة القائمة بين سوريا والمسيحيين والذي ينعكس سلباً على كافة اللبنانيين نظراً لنتائج هذه الأزمة على عملية بناء الدولة. إن معالجة هذا الوضع تشكل المدخل الضروري لتصحيح وضع الدولة.
في تاريخ العلاقة بين المسيحييـن وسـوريا
*-إن العلاقة المسيحية السورية محكومة بسوء تفاهم عميق تعود أسبابه الى المرحلة الاستقلالية، فتيار الاعتدال في الوسط المسيحي اعتبر ان استقلالية لبنان شكَّل انتصاراً للتيار الوطني لأن البديل منه كان استمرار الانتداب الفرنسي، الأمر الذي كان يُطالب به دعاة التيار الآخر عند المسيحيين في بحثهم عن ضمانة خارجية للوجود المسيحي في لبنان، في حين شكَّل استقلال لبنان صدمة لعدد من الأطراف الوطنية في سوريا التي نظرت الى دولة الاستقلال على أنها دولة مصطنعة أوجدها الاستعمار بعدما تمَّ سلخ لبنان عن سوريا.
شكَّلَ هذا التقابل الحاد مادة خلاف دائمة بين لبنان وسوريا، رغم التفاهم والتعاون اللذين قاما بين البلدين خلال فترة الاستقلال.
فعلى الصعيد اللبناني، أدّى هذا الخلاف إلى تقوية " التيار الانكفائي" على حساب تيار الاعتدال المسيحي، ودفع عدداً من اللبنانيين الى البحث عن "ضمانات" لهم في الغرب. وقد عمل الرئيس شمعون في الخمسينات على إدخال لبنان في حلف بغداد، ومن ثمّ في مشروع إيزنهاور(1957). كذلك استغلت أطراف لبنانية عدة هذا الواقع للتحريض على سوريا، معتبرة ان لهذه الأخيرة مطامع أكيدة في البلد، بدليل رفضها الدائم اقامة تمثيل ديبلوماسي بينها وبين لبنان. وترسَّخَ لدى قطاع واسع من الرأي العام المسيحي انطباع بأن سوريا تريد ضرب النظام تمهيداً لإلغاء الدولة اللبنانية. أما العلاقات التي كانت قائمة بين المجتمعين اللبناني والسوري، فتقطعت تدريجياً واصبح كل بلد يعيش همومه ومشكلاته بمعزل عن الآخر.
في الجانب السوري، ولد هذا التقابل صورة مُشوَّهة لطبيعة المجتمع اللبناني، فأصبح السوريون ينظرون الى التنوع الثقافي على أنه فقدان للهوية، وإلى الديمقراطية السياسية على أنها مظهر من مظاهر الانحطاط، والى المبادرة الفردية على أنها رمز للاستغلال الاقتصادي. إن هذه الصورة المُشوَّهة حالت دون إقامة علاقات طبيعية مع لبنان، إذ لم يقبل السوريون بهذا التمايز اللبناني واعتبروه مصدر خلاف معهم. وفي هذا الإطار، تندرج القطيعة التي حصلت عام 1950 وأدَّت الى فسخ الوحدة الجمركية بين البلدين، ودعم سوريا لثورة 1958 في لبنان، ومساعدتها للمقاومة الفلسطينية في صراعها مع الدولة اللبنانية اعتباراً من العام 1969.
*إنّ الدخول السوري عام 1976 الى لبنان لم يساعد على حلّ هذا التقابل الحاد في نظرة المسيحيين والسوريين الى بعضهم البعض.
حاولت سوريا بشكل جدي، ولأول مرة في تاريخها الحديث، استيعاب مشكلة المسيحيين في لبنان وفك ارتباطهم بالغرب من خلال توفير الضمانات لهم. وقد تحدّث الرئيس السوري، حافظ الأسد، عن هذا التحول في السياسة السورية في خطابه الشهير في جامعة دمشق بتاريخ 20 تموز 1976. فاعتبر ان رفض الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية للتسويات المعروضة لوقف الحرب، قد يؤدي الى تقسيم لبنان. وأكَّـد ان " تقسيم لبنان يشكل طعنة لفكرة القومية العربية" كأننا نقدم الدليل على أنّ القومية العربية ليست الرباط الصالح بيننا جميعاً بحيث نستطيع ان نعيش في ظلّ لواء القومية العربية" ، و "يشكل ضربة كبرى للاسلام باعتباره دين الأكثرية الساحقة من الأمة العربية"، لأنهم يريدون أن يقدّموا الاسلام في هذا العصر على انه الدين المتزمت الذي يمنع أنصاره من العيش مع الآخرين حتى اذا كانوا من أبناء الأمة الواحدة.
إنّ كلام الرئيس السوري شكّل منعطفاً تاريخياً في سياسة سوريا تجاه لبنان، ويكفي للتدليل على حجم هذا التحوّل العودة الى تصريح وزي رخارجية سوريا الى صحيفة " الرأي العام" بتاريخ 7 كانون الثاني 1976، أي قبل ستة أشهر، والذي جاء فيه: " لن نسمح بتقسيم لبنان، فلبنان كان جزءاً من سوريا ولسوف نعيده لدى أية محاولة فعلية للتقسيم. وينبغي أن يكون واضحاً أن هذا القول لا يعني الأقضية الأربعة، ولا الساحل فقط، بل يعني جبل لبنان أيضاً، فلبنان إما أن يكون موحّداً وإما أن يعود إلى سوريا".
إن هذا التحول في السياسة السورية تجاه لبنان لم يقابله تحوّل مماثل في توجهات "الجبهة اللبنانية" التي كانت تهيمن على القرار المسيحي. فاستغلت الدعم السوري في محاولة لحسم صراعها مع أخصامها المسلمين والفلسطينيين وإعادة تأكيد غلبتها في الداخل، وتوجهت بعد ذلك الى إسرائيل لمحاربة سوريا، متصورة أنها قادرة على استخدام كل القوى في سبيل تحقيق غاياتها.
*إن تجربة " الجبهة اللبنانية" مع سوريا شكّلت مفصلاً أساسياً في الحرب اللبنانية، لا نزال ندفع ثمنه حتى اليوم، وذلك للأسباب التالية:
-إنّ انقلاب "الجبهة اللبنانية" على سوريا في العام 1978 حوّل لبنان ساحة صراع مباشر بين العرب واسرائيل، وفي مرحلة لاحقة بين الغرب والشرق، وتحوّل اللبنانيين مجرد وقود في هذه المواجهات.
-انحصر همّ سوريا في لبنان، خاصة بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، بتجميع الأوراق في مواجهة أخصامها الاقليميين والدوليين، وباتت محكومة فقط بهم الدفاع عن نفسها وعن مصالحها، مستغلة الأطراف المتصارعة في لبنان أدوات تنفيذية لسياستها.
-ساهم موقف "الجبهة اللبنانية" ورد الفعل السوري عليه بتعقيد الأزمة اللبنانية الى حد خطير، اذ وجد اللبنانيون أنفسهم أمام طريق مسدود، فلا حل في لبنان بدون سوريا، وفي الوقت ذاته، لا حل في لبنان مع سوريا. ونتيجة هذا الوضع، انفجرت الحرب مجدداً في لبنان في العام 1989 وغلب عليها الطابع اللبناني –السوري، وذلك رغم اعتراض عدد من اللبنانيين على السياسة التي اعتمدها العماد ميشال عون بعد تولية مهام رئاسة الحكومة في أيلول 1988.
*في مقابل الفرصة التي أضاعتها الجبهة اللبنانية، هناك فرصة أخرى تـمَّ التفريط بها من قبل سوريا.
وتمثلت هذه الفرصة بقبول البطريرك الماروني مبدأ إقامة علاقات مميزة بين لبنان وسوريا، وذلك من خلال موافقته على اتفاق الطائف. لكن الجانب السوري بقي محكوماً بهواجس التجربة السابقة ولم يقابل هذه الخطوة بخطوة مماثلة، واستمرّ في سياسة " تجميع الأوراق"، فسعى الى الاتيان برئيس جمهورية يواليه ولا يخشى انقلابه عليه، واجتهد ليكون له السهم الأكبر في الحكومات المتعاقبة بحجة انه يخشى ألاّ يمسك بالقرار السياسي في مجلس وزراء نيطتْ به السلطة التنفيذية، واستعجل إجراء الانتخابات النيابية وانبثاق مجلس يناصره ليضمن اتجاهات السلطة الاشتراعية... والخ.
إن التسليم اللبناني العام بدور دمشق لم يساهم في إزالة أزمة الثقة التي نشبت على إثر تجربة سوريا مع "الجبهة اللبنانية"، إذ أن هناك شعوراً سورياً ضمنياً بأن اللبنانيين، والمسيحيين خاصة، ينتظرون اللحظة المناسبة للارتداد على سوريا، الأمر الذي يستوجب في نظر السوريين، الإبقاء على الحالة القائمة في حين يعتبر اللبنانيون أنه لم يعد عند سوريا ما تخشاه، الأمر الذي يسمح بمقاربة "مرتاحة" لملف العلاقات بين البلدين ، خارج مناخ تجميع الأوراق، أو سياسة الضغط حماية لموقع مهدد.
من أجل تسوية تاريخية بين لبنان وسوريا
*نـرى أن الإشكالية القائمة بين لبنان وسوريا ينبغي معالجتها وحلها استناداً الى مبادىء ثلاثة أساسية:
1-مبدأ التسوية الذي يعترف بالمصالح المشروعة لكلا الطرفين، كما يحترم الاختلاف ويراعي الهواجس من دون مبالغات.
2-مبدأ المبادرة التاريخية لا الاجراءات المؤقتة والتكتيكية، بحيث يتم ارساء العلاقة بين البلدين على قواعد ثابتة يمكن الاطمئنان إليها وتشكل ضماناً للمستقبل، فلا تكون مشدودة إلى حزازات سالقة وذاكرة سلبية.
3-مبدأ العقلانية والتعقل باعتبار ان كلفة التفاهم، مهما انطوى على تنازلات متبادلة، تبقى أقل بما لا يُقاس من كلفة النزاع أياً كانت ذرائعه.
إنّ إقامة علاقات مميزة بين لبنان وسوريا مسألة لم تعد تقبل نقاشاً يحتمل الارتداد عنها، وبالتالي فقد باتت الاشكالية بصيغة: كيف ينبغي تطبيق مبدأ العلاقات المميزة لمصلحة البلدين؟
في هذا الإطار توجد قضية مركزية تتمثل بما يلي:
كيف يمكن التوفيق بين الحاجة السورية المشروعة لضمان أمن سوريا واستقرار نظامها والحفاظ على دورها الفاعل في المنطقة، وبين الحاجة اللبنانية المشروعة للحفاظ على صيغة العيش المشترك وقيام دولة ذات سيادة وسلطة صاحبة قرار مستقل؟
* إن سوريا التي تسلمت مقاليد الأمور في لبنان بعد الطائف تعاملت مع هذه الاشكالية على قاعدة عدم الاعتراف بالحاجات اللبنانية المشروعة وعلى أساس الحذر والارتياب من اللبنانيين جملة وتفصيلاً. وبالتالي، فقد اختارت طريق الامساك بالأمن والسياسة مباشرة والعمل على خلق طبقة سياسية لبنانية مرتبطة بها مباشرة تأخذ على عاتقها ضمان استمرار العلاقة بين البلدين على النحو القائم حتى الآن.
في الجانب اللبناني تراوحت ردود الفعل بين حدّين متطرفين: حدّ الممانعة والرفض الكامل لمشروعية الحاجات السورية، وحدّ الاستسلام للأمر الواقع والدخول في آلياته التفكيكية. وهذا ما أدى الى تصنيف اللبنانيين تجاه سوريا فئتين: مع وضد، وكان لأداء السلطة في لبنان الدور الأساسي في تشجيع عملية التصنيف هذه.
هل تُشكِّـل هكذا سلطة ضمانة حقيقية لسوريـا؟
إن الوقائع تؤكد الاجابة السلبية، فالطبقة السياسية المعتمدة في لبنان من قبل سوريا أثبتت أنها تؤلِّب الناس على سوريا بسبب الهوَّة الواسعة بينها وبين المجتمع، كما أنها من خلال انقساماتها ومعاركها الدائمة تشكل عبئاً ثقيلاً على القيادة والسورية. إن الانقسامات القائمة بين الناس والسلطة وفي داخل السلطة نفسها تفسح في المجال أمام التدخلات الخارجية. وفي هذا المجال، تبدو مشروعات بعض أركان السلطة تصبّ في اتجاهات قد لا تنسجم مع المصالح الاستراتيجية السورية. إن لبنان المنقسم على نفسه لا يمكن أن يكون حليفاً لسوريا. فالمصلحة المشتركة اللبنانية – السورية لا تتحقق الا من خلال سلطة لبنانية وطنية تكون ممثلة لجميع اللبنانيين وتعبر عن روح الميثاق وحال الوفاق. ذلك أن صفة " الوطنية" في لبنان لا تجد معيارها من خارج الوفاق. كما أن أي وفاق لبناني، بحكم الواقع المركّب ، لا يمكنه أن ينعقد على السلب تجاه سوريا.
إن خروج لبنان من أزمته يتطلب جهداً سورياً ضرورياً في هذه المرحلة. أما الرهان على أضعاف موقف سوريا في معادلة المنطقة أو إلحاق هزيمة بها، فلا يؤدي الى حل المشكلة اللبنانية، وإنما من شأنه تجديد الحرب الداخلية اللبنانية. ولا نعتقد أن أحداً يمكنه البرهان على أن محاولات تطويق سوريا(مشروع لبنان أولاً على سبيل المثال) تصب في المصلحة اللبنانية، كما لا يمكنه الادّعاء بأن تلك المحاولات إنما تعمل من أجل لبنان.
في منهجية التفاهم اللبناني – السوري
*إن المحاولات السابقة لحلّ الاشكاليات القائمة بين لبنان وسوريا كانت تفترض ان حلّ جميع المشكلات يسبق الحوار والتعاون بينما نرى أن الخطوة الأولى المطلوبة تتمثل بنقطتين:
أولاً، صدق العزم في التوجّه نحو الحوار.
ثانياً، الاتفاق على منهجية محددة ومعايير موحدة في النظر إلى القضايا.
إن هذه الخطة من شأنها مراكمة الايجابيات وتضييق مساحات الخلاف تدريجياً، وبالتالي فانها تشكل آلية للحلّ ولعلنا في حاجة الى الاقرار معاً بثلاثة أمور:
مبادرات مقترحة
1-مبادرة مسيحية لمناقشة واعتماد الخيارات والمنطلقات المذكورة آنفاً.
2-مبادرة مسيحية – اسلامية مشتركة لبلورة اتفاق حول الخطوات الواجب اعتمادها لتصحيح تطبيق اتفاق الطائف. وهو يشكل في تقديرنا أساساً لبرنامج حكومة الوفاق الوطني المنشودة.
3-مبادرة لبنانية – سورية لتشكيل حكومة وفاق وطني.
في هذا المجال، يطرح عادةً السؤال التالي:
من يُمثل المسيحيين ومن هي الشخصيات السياسية التي تؤمن المشاركة والتوازن المطلوبين؟
إن مثل هذا السؤال كان يطرح عادة لاحراج البعض أو للبرهان على أنه ليس في الامكان أبدع مما كان.
إن هذه المسألة ليست قضية أشخاص بعينهم وإنما قضية معايير وصدقيّة حضور. وفي رأينا ان من يمثل المسيحيين هو الذي:
-يؤمن بأن ضمانة الوجود المسيحي الفاعل تتأمَّن من خلال العيش المشترك مع المسلمين والانفتاح على المحيط العربي وخصوصاً سوريا.
-يتمتع بالأخلاقيات الشخصية والسياسية في بلد انتهكت فيه القيم لكي يوفّر لخياراته السياسية المصداقية الشعبية المطلوبة.
-يكون تالياً منسجماً مع المرجعية المسيحية الضامِنة والراعية لخيارات الطائفة الأساسية.