نداء مجلس المطارنة

نداء مجلس المطارنة
الخميس 21 سبتمبر, 2000

نداء مجلس المطارنة يطالب بإعادة انتشار الجيش السوري "لعله يسهم في عملية الإنقاذ"

لبنان يعاني سياسة غير سليمة مفروضة عليه

 

رأى مجلس المطارنة الموارنة انه "اصبح من الواجب الجهر بالحقيقة على ما هي راسخة في النفوس دون مواربة او تحفظ". وما صدر عن مجلس المطارنة بعد اجتماعه الشهري أمس لم يكن بياناً كما درجت العادة، بل نداء، وكان مقرراً ان يتلوه البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، وتمت التحضيرات لذلك، الا انه ارتؤي ان يتلوه امين سر البطريركية المونسنيور يوسف طوق كما هي العادة.

 واللافت ان البيان الذي غالباً ما كان يصدر قرابة الثانية عشرة ظهراً، وفي حد اقصى في الثانية عشرة والنصف، تأخر صدوره الى الاولى والنصف وجاء مستفيضاً قياساً بالبيانات السابقة.

 وفي النداء، تطرق المجلس الى كل شأن بدءاً بالانتخابات النيابية وقانونها الذي اقر "من وضعه" بفساده، واذا بالانتخابات يفوز فيها نواب "لا يمثلون من يفترض ان يمثلوهم من المواطنين"، وصولاً الى "استدعاء الاجهزة اللبنانية، ولا سيما السورية، المخاتير ورؤساء البلديات في بعض المناطق، والطلب تارة بالوعود وتارة بالتهديد، الزام الناخبين الاقتراع لمصلحة هذه أو تلك من اللوائح". كذلك تطرق النداء الى الوضع الاقتصادي "المزري" والمزاحمة للانتاج اللبناني واليد العاملة اللبنانية، ثم الى الوضع السياسي اذ "ان لبنان يعاني منذ ربع قرن سياسة غير سليمة مفروضة عليه"، ووجه "اسئلة لا بد منها"، عن بسط سلطة الدولة في الجنوب وعن اعادة النظر في انتشار الجيش السوري" تمهيداً لانسحابه نهائياً عملاً باتفاق الطائف وتنفيذاً للقرار 520" وطريقة التعاطي بين البلدين. عقد مجلس المطارنة اجتماعه الشهري برئاسة البطريرك صفير، واصدر نداء، هنا نصه:

 "اما وقد بلغ الوضع في لبنان هذا الحد من التأزم، فأصبح من الواجب الجهر بالحقيقة، من دون مواربة او تحفظ، على ما هي راسخة في النفوس. ونرى الناس يتسارّون، فماً الى اذن، ويخشون البوح بها، خوف الاعتقال وما يجره عليهم من وبال. ومعلوم ان الحقيقة وحدها تنقذ. وذلك قبل فوات الاوان. ولهذا رأينا ان نتوجه اليوم الى كل من يهمه الامر في لبنان وخارجه بهذا النداء، لعله يسارع الى المساهمة في عملية الانقاذ.

 1 - الانتخابات النيابية: نبدأ بالحديث عن حقيقة الانتخابات الاخيرة التي كان المسؤولون عن وضع قانونها اول من اعترف بفساد هذا القانون. وقد اوجد دوائر انتخابية كبيرة فيها اكثرية من فئة معينة، واقلية من فئة اخرى، فأغرقت اصوات تلك اصوات هذه في اكثر الدوائر، ففاز نواب لا يمثلون من كان يفترض ان يمثلوهم من المواطنين، ونجح بعضهم في الدوائر الكبرى بما فوق 200 الف صوت، ونجح الاخرون في الدوائر الصغرى بـ 20 الف صوت، حتى لكأن هناك نوابا اكثر قيمة، واعلى قدرا من سواهم، اذا اخذ في الاعتبار عدد الاصوات المطلوبة للنجاح. فضلا عن الاموال الطائلة التي بذلت لشراء الضمائر، واثارة النعرات الطائفية، وحجب وسائل الاعلام عن بعض المرشحين، وتشريع ابوابها في وجه سواهم ليل نهار. وما القول عن الضغوط التي مورست لدى تأليف اللوائح فأجبر بعض رؤسائها على اخذ هذا او ذاك ممن لا تجمعه به او باعضاء لائحته اي صلة او اتجاه سياسي، او نزعة وطنية، فيما منع غيره من الترشيح ولو منفردا؟ وما القول خصوصا عن استدعاء الاجهزة اللبنانية، ولا سيما السورية، المخاتير ورؤساء البلديات في بعض المناطق، والطلب اليهم تارة بالوعود، وتارة بالتهديد، اجبار الناخبين على الاقتراع لمصلحة هذه او تلك من اللوائح؟ وعندما اتى يوم الاقتراع كانت النتائج قد اصبحت معروفة. هذا ما اخذ يرويه رواة صادقون من مرشحين، بينهم من نجحوا، وبينهم من سقطوا، بعدما انحلت عقدة لسانهم.

 2- الوضع الاقتصادي: لم يعرف لبنان، حتى إبان المعارك، وضعا اقتصاديا مزريا كالذي يعرفه اليوم. وقد دلت احصاءات جدية على ان نصف الشعب اللبناني اصبح يعيش تحت عتبة الفقر. وهناك مصانع تقفل ابوابها وتسرّح عمالها، ومدارس خاصة يتناقص عدد طلابها لعجز اوليائهم عن تأمين اقساطهم، فتضطر الى الغاء تعاقدها مع بعض الاساتذة فيها والى صرفهم. وهناك خريجو جامعات يحملون شهادات عليا يلجأون الى السفر الى الخارج بحثا عن عمل لا يجدونه في وطنهم لبنان، ومنهم من يكتب عليهم ألا يعودوا اليه لاحقا. أما الانتاج اللبناني، سواء أكان زراعيا أم صناعيا، فلا يجد أسواقا للتصدير، ولا حماية من الدولة امام الانتاج الخارجي، وبخاصة الانتاج السوري الذي يزاحمه على كل صعيد، وفي كل الفصول، لما بين النظامين من فرق كبير من حيث الدعم الرسمي الذي يساعد على خفض الاسعار، وتسهيل انتقال البضائع في اتجاه واحد.

 وهناك اليد العاملة غير اللبنانية التي تزاحم اليد العاملة اللبنانية، وبخاصة السورية التي تحظى بالرعاية في لبنان، وترضى بأجر متدن، نظرا الى فرق قيمة العملة بين البلدين، ولارتضائها بما يتيسر من سبل العيش، وهي تقطع سبيل العمل على اليد العاملة اللبنانية الي ترغب في العمل، انما بشروط مقبولة. وهذا ينطبق على صغار الباعة على العربات النقالة، وعلى وسائل النقل والشاحنات السورية التي تعمل بحرية مطلقة في لبنان، فيما اللبنانية منها لا يمكنها ان تعمل في سوريا.

3- الوضع السياسي: هناك قاعدة معروفة، في علم السياسة والاقتصاد، وهي انه ما من اقتصاد سليم دون سياسة سليمة. واذا كان الاقتصاد اللبناني قد تدهور الى هذا الحد، فلأنه محكوم بسياسة أدت الى هذا الوضع المؤلم. ان لبنان يعاني منذ ربع قرن سياسة غير سليمة مفروضة عليه، وقد حاول عبثا التفلت من قيودها، فما زادته محاولاته الا عجزا وضعفا وبؤسا. لا نريد ان نعود الى الحروب التي دارت رحاها على أرض لبنان، والى تبيان أسبابها ومسبباتها، وقد بدأ علماء التاريخ يبحثون عنها ويفندونها وينشرون الكتب في شأنها. وعلينا ان نتحلى بأقل قدر من الصراحة والتواضع لنعترف بأننا جميعا أخطأنا الى بلدنا عن أنانية، وجهل، وقصر نظر. ونال كل منا نصيبه من قهر، وإذلال، وامتهان، وخسارة، وتدمير. وقد آن الاوان لفحص ضمير جدي، واتخاذ العبر مما جرى، والسعي الى حلول تنقذ الوطن من التفكيك الذي يبدو انه يسرع الخطى اليه، وعلى جميع اللبنانيين ان يعملوا متضامنين للحيلولة دون وقوع ذلك. انما هناك اصبحت لا تطاق، وهي التي تقود البلد الى الضياع. وفي مقدمها فقدان لبنان سيادته على ارضه، في ظل هيمنة تشمل جميع المؤسسات، والإدارات، والدوائر، والمرافق. ولهذا اختلت الادارة، وضاعت المسؤولية، وارتبك القضاء، وبات الناس يعيشون في جو من الخوف، والذل، والنفاق، يعلنون فيه الولاء، ويضمرون البغضاء. ومن تجرأ على الجهر بدخائله كانت عيون الاستخبارات له بالمرصاد، وكثيرون هم اللبنانيون القابعون منذ سنوات طويلة في السجون الاسرائيلية والسورية، وقد اعطوا ارقاماً بدلاً من اسمائهم، واذا ذهب احد للسؤال عنهم كان الجواب: ان صاحب هذا الاسم غير موجود.

 4- اسئلة لا بد منها: لقد تحمل اللبنانيون، طوال ربع قرن، الكثير من اذلال وامتهان، لم يتعودوهما. وناموا على الضيم اياماً وليالي، وصبروا على ما حل بهم من خراب ودمار، وارتضوا، على مضض، حرمانهم حقهم في تسيير امورهم، واعتبارهم قاصرين في حاجة دائمة الى وصاية. وهم يرون انه حان وقت المكاشفة في جو من الصدق، والصراحة، والاخوة الحقيقية، والاحترام المتبادل، وطرح بعض اسئلة لا بد من طرحها ابقاءً لروح الاخوة التي يجب ان تسود العلاقات التاريخة بين لبنان وسوريا. لقد خرجت اسرائيل من جنوب لبنان، وتركت وراءها مشاكل للبنانيين لا يزالون يعانونها، وقد خفف بعض الشيء من وطأتها ما اظهره من حكمة من حرروا الجنوب بما بذلوه من دماء ذكية في سبيل التحرير، بدافع من حمية وطنية صحيحة. وقد مهدوا السبيل للدولة لتبسط سلطتها على جميع اراضيها عملاً بالقرار 425 الذي تحرر الجنوب دون تطبيقه عملياً. اما حان الوقت لتبسط هذه الدولة سلطتها فعلياً ليشعر الناس بأنهم اصبحوا في حمايتها وليتشجعوا ويعودوا الى بيوتهم وعيالهم وارزاقهم؟ وبعدما خرجت اسرائيل، أفلم يحن الوقت للجيش السوري ليعيد النظر في انتشاره تمهيداً لانسحابه نهائياً، عملاً باتفاق الطائف؟ وهل من الضرورة ان يبقى مرابطاً في جوار القصر الجمهوري، رمز الكرامة الوطنية، ووزارة الدفاع، وفي ما سوى ذلك من اماكن حساسة يشعر اللبنانيون لوجوده فيها بحرج كبير، لئلا نقول بانتقاص من سيادتهم وكرامتهم الوطنية؟ لقد كانت هناك تصريحات تقول انه اذا انسحب الجيش السوري من لبنان، قامت فتنة فيه، او ان وجوده اصبح جزءاً لا يتجزأ من السلم اللبناني، او انه ينسحب، اذا طلبت منه الحكومة اللبنانية الانسحاب. ومعلوم انها حجج واهية لا تثبت امام المنطق السليم: لن يكون فتنة في لبنان، ان لم يعمد احد الى اضرام نارها، واللبنانيون ما اقتتلوا يوماً الا لانه كان هناك من يبذر بذور الفتنة في ما بينهم. وحرصاً منا على توثيق احسن علاقات الاخوة بين لبنان وسوريا، وفي مطلع عهد فيها نريده لها زاهراً، نرى انه قد آن الاوان لاعادة النظر في طريقة التعاطي بين البلدين بحيث يقوى احدهما بالآخر، فيتكاملان تكاملاً صحيحاً، مفيداً لكليهما، وان يعاد انتشار الجيش السوري في لبنان تمهيداً لانسحابه نهائياً عملاً بالقرار 520 وباتفاق الطائف، وابقاء ما بينهما من روابط تاريخية وجغرافية، وبين شعبيهما من وشائج قربى ونسب وصداقة ومصالح مشتركة. وفي اعتقادنا ان هذا هو السبيل الوحيد للحيلولة دون تفكك لبنان وزواله. وهو اذا كان متعافياً كان عوناً لسوريا، واما اذا ظل عليلاً كان عالة عليها. ونحن نريد له ما نريده لسوريا من عزة وكرامة وازدهار وسلام. حقق الله الآمال، وهدانا جميعاً سواء السبيل".