لا يمكن الحديث عن المصالحة الوطنية والسلم الأهلي والوفاق من موقع إسلامي دون الانحناء إجلالاً وحباً وتقديراً لفارس هذا الميدان، مجدّد القرن العشرين، وحامل راية الإسلام السمح المستنير، إمام أهل العدل والحوار، آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رضوان الله عليه).
في ثلاثيته الشهيرة عن ثورة الإمام الحسين والتي غدت معلماً من معالم الفكر الإسلامي والإنساني، وفي كتاباته التالية حول الاجتماع السياسي الإسلامي ونظام الحكم والإدارة، كما في خطبه العاشورائية ومحاضراته الثقافية، صاغ الإمام شمس الدين فهماً إنسانياً حضارياً لمعنى عاشوراء والثورة الحسينية (وهي رموز التشيع بامتياز) تجاوز فيه العصبية الضيقة التي سجنت الحسين وآل بيته وثورته في اطر مذهبية وحزبية وكيانية والتي حوّلت شعار «كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء» إلى استفزاز دائم لمشاعر غير الشيعة من مسلمين ومسيحيين وإلى خندق قتال يتحفز للوثوب وتحقيق الاستحواذ والغلبة...
أكد الإمام شمس الدين على عالمية الثورة الحسينية وتعاليمها وعلى إنسانيتها وإسلاميتها، وعلى منحاها السلمي التضامني التغييري الاصلاحي قائلاً إن الإمام الحسين «الذي لم يأت أشراً ولا بطراً وإنما لطلب الاصلاح في أمة جدّه»، لم يطلب السلطة أو الجاه، ولا الغلبة أو النفوذ، ولم ينتم إلى حزب أو حركة، ولا إلى قبيلة أو طائفة...
وعلى المنوال نفسه نسج الإمام شمس الدين رؤيته للمقاومة باعتبارها فعلاً مدنياً وعملاً شمولياً، يضم الجميع ويستفيد منه الوطن. ورفض بقوة وصلابة اختزال المقاومة في بعدها العسكري (رغم تأكيده على الدور الحاسم لهذا البعد في مراحل المواجهة مع العدو) أو في مضمونها الشيعي، مستعيداً ومكرراً على الدوام أنها وطنية لبنانية شارك فيها الجميع ورعاها الجميع وأنه لا يجوز أن تتحول المقاومة مشروعاً سياسياً داخلياً للاستئثار أو الغلبة أو التخويف أو التخوين. وهو حمل هذا الموقف في القمة الروحية الجامعة في بكركي يوم 2 آب 1993 والتي خرجت ببيان الثوابت الوطنية الحاضنة للمقاومة والحامية لها، ثم في خطبته الشهيرة في وداع شهداء مجزرة قانا في نيسان 1996.
وكان الإمام ينطلق في فهمه هذا للمقاومة كمشروع وطني مدني من مرتكز إسلامي شيعي أصيل يرى في سيرة الأئمة سلسلة مترابطة من المواقف والسلوكات لا انقطاع بينها أو تناقض وإنما استمرار وتكامل، على قاعدة الحق والعدل والسلم. ومن هنا وضعه الثورة الحسينية في سياقها الطبيعي كوارثة لآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (كان الإمام يحب دوماً الإشارة إلى الدعاء الشيعي الشهير: السلام عليك يا أبا عبد الله يا وارث آدم.. يا وارث نوح... الخ...) ومكملة لسيرة الخلفاء الراشدين.
كان الإمام شمس الدين يرى الحسين في نهج البلاغة وفي دعاء كميل وفي أدعية السجاد زين العابدين، وفي وصية الإمام علي إلى ابنه الحسن وإلى مالك الاشتر، وفي صلح الحسن وصولاً إلى تفاصيل المشهد الكربلائي المليئة بالعبر والدروس، وهو أولاها عناية كبيرة في دراساته الفذة...
لقد أرسى الإمام شمس الدين أسس مدرسة جديدة وتقاليدها، في فهم الإسلام والتشيع في هذا العصر، أصبحت بحمد الله المدرسة الغالبة اليوم وقد أينعت ثمارها في إيران الخاتمي، وفي كل أماكن التواجد الشيعي.
وينبغي التذكير هنا بالدور الكبير والحاسم للإمام شمس الدين في تطوير الموقف الشيعي في السعودية والبحرين والكويت والإمارات والعراق نحو السلم والمصالحة ونحو التعددية واحترام الآخر ونحو الاندماج والمشاركة الوطنية «على قاعدة العدل والكرامة والمساواة للجميع وبين الجميع»..
وكان رحمه الله يحب ترداد هذه العبارة قائلاً أنها مستقاة من تجربة لبنان وهو كان أول من قال عنه: «أنه أكثر من وطن وكيان، أنه رسالة وانموذج».
وها نحن اليوم نشهد بحمد الله انتصار خط الإمام شمس الدين في السعودية والبحرين وعموم الخليج إذ يتبلور الموقف الوطني الشيعي المشارك المندمج على قاعدة التنوع الثقافي المذهبي في المجتمع الأهلي ووحدة المجتمع السياسي في كيان وطني جامع.
في حديث خاص مع قادة المعارضة الشيعية السعودية، اقنعهم فيه بموقفه وفتح لهم باب الاتصال والتواصل مع السلطات السعودية وصولاً إلى العفو عن المحكومين وعودة المنفيين واطلاق حركة سياسية رائدة وواعدة داخل المملكة، تحدث الإمام شمس الدين عما يراه الخيار الوحيد أمام الشيعة في لبنان والخليج وباكستان وافغانستان، وحتى في العراق، مع اختلاف الشروط، وهو خيار «تحقيق الكرامة والحد الأعلى من المصالح، وحفظ دينهم، وفهمهم وحرية سلوكهم وممارستهم بقدر الامكان في ظل الشروط القائمة فعلاً في المنطقة والعالم».
وقال الإمام أن ذلك لا يمكن أن يحصل «إذا كنا مصدر خوف للآخرين، لأن الخوف منا لا يجعلنا متناقضين مع الأنظمة، بل يجعلنا، وهذا اسوأ ما يكون، على تناقض مع الشعوب بالذات، تناقض مع شركائنا في الوطن.. أن علينا نحن الشيعة أن نبني حالة إلفة نفسية بين النظام العربي والشيعة، وبين المجتمع غير الشيعي والشيعة، وهذا الأمر يحتاج إلى تواصل، ويحتاج إلى اعتراف متبادل ويحتاج إلى أن لايكون الشيعي مصدراً للخوف بل مركزاً للامان. وبحسب مراجعة أئمة أهل البيت شؤون خطهم السياسي في الأمة، كان همهم الأول والأعظم دمج الشيعة في الأمة، وليس عزل الشيعة عنها... ولذلك فإنه على الإنسان الشيعي«وصايا» محمد مهدي شمس الدين أو «سياسته» الفعلية(*)
لا يمكن الحديث عن المصالحة الوطنية والسلم الأهلي والوفاق من موقع إسلامي دون الانحناء إجلالاً وحباً وتقديراً لفارس هذا الميدان، مجدّد القرن العشرين، وحامل راية الإسلام السمح المستنير، إمام أهل العدل والحوار، آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رضوان الله عليه).
في ثلاثيته الشهيرة عن ثورة الإمام الحسين والتي غدت معلماً من معالم الفكر الإسلامي والإنساني، وفي كتاباته التالية حول الاجتماع السياسي الإسلامي ونظام الحكم والإدارة، كما في خطبه العاشورائية ومحاضراته الثقافية، صاغ الإمام شمس الدين فهماً إنسانياً حضارياً لمعنى عاشوراء والثورة الحسينية (وهي رموز التشيع بامتياز) تجاوز فيه العصبية الضيقة التي سجنت الحسين وآل بيته وثورته في اطر مذهبية وحزبية وكيانية والتي حوّلت شعار «كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء» إلى استفزاز دائم لمشاعر غير الشيعة من مسلمين ومسيحيين وإلى خندق قتال يتحفز للوثوب وتحقيق الاستحواذ والغلبة...
أكد الإمام شمس الدين على عالمية الثورة الحسينية وتعاليمها وعلى إنسانيتها وإسلاميتها، وعلى منحاها السلمي التضامني التغييري الاصلاحي قائلاً إن الإمام الحسين «الذي لم يأت أشراً ولا بطراً وإنما لطلب الاصلاح في أمة جدّه»، لم يطلب السلطة أو الجاه، ولا الغلبة أو النفوذ، ولم ينتم إلى حزب أو حركة، ولا إلى قبيلة أو طائفة...
وعلى المنوال نفسه نسج الإمام شمس الدين رؤيته للمقاومة باعتبارها فعلاً مدنياً وعملاً شمولياً، يضم الجميع ويستفيد منه الوطن. ورفض بقوة وصلابة اختزال المقاومة في بعدها العسكري (رغم تأكيده على الدور الحاسم لهذا البعد في مراحل المواجهة مع العدو) أو في مضمونها الشيعي، مستعيداً ومكرراً على الدوام أنها وطنية لبنانية شارك فيها الجميع ورعاها الجميع وأنه لا يجوز أن تتحول المقاومة مشروعاً سياسياً داخلياً للاستئثار أو الغلبة أو التخويف أو التخوين. وهو حمل هذا الموقف في القمة الروحية الجامعة في بكركي يوم 2 آب 1993 والتي خرجت ببيان الثوابت الوطنية الحاضنة للمقاومة والحامية لها، ثم في خطبته الشهيرة في وداع شهداء مجزرة قانا في نيسان 1996
وكان الإمام ينطلق في فهمه هذا للمقاومة كمشروع وطني مدني من مرتكز إسلامي شيعي أصيل يرى في سيرة الأئمة سلسلة مترابطة من المواقف والسلوكات لا انقطاع بينها أو تناقض وإنما استمرار وتكامل، على قاعدة الحق والعدل والسلم. ومن هنا وضعه الثورة الحسينية في سياقها الطبيعي كوارثة لآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (كان الإمام يحب دوماً الإشارة إلى الدعاء الشيعي الشهير: السلام عليك يا أبا عبد الله يا وارث آدم.. يا وارث نوح... الخ...) ومكملة لسيرة الخلفاء الراشدين.
كان الإمام شمس الدين يرى الحسين في نهج البلاغة وفي دعاء كميل وفي أدعية السجاد زين العابدين، وفي وصية الإمام علي إلى ابنه الحسن وإلى مالك الاشتر، وفي صلح الحسن وصولاً إلى تفاصيل المشهد الكربلائي المليئة بالعبر والدروس، وهو أولاها عناية كبيرة في دراساته الفذة...
لقد أرسى الإمام شمس الدين أسس مدرسة جديدة وتقاليدها، في فهم الإسلام والتشيع في هذا العصر، أصبحت بحمد الله المدرسة الغالبة اليوم وقد أينعت ثمارها في إيران الخاتمي، وفي كل أماكن التواجد الشيعي.
وينبغي التذكير هنا بالدور الكبير والحاسم للإمام شمس الدين في تطوير الموقف الشيعي في السعودية والبحرين والكويت والإمارات والعراق نحو السلم والمصالحة ونحو التعددية واحترام الآخر ونحو الاندماج والمشاركة الوطنية «على قاعدة العدل والكرامة والمساواة للجميع وبين الجميع»..
وكان رحمه الله يحب ترداد هذه العبارة قائلاً أنها مستقاة من تجربة لبنان وهو كان أول من قال عنه: «أنه أكثر من وطن وكيان، أنه رسالة وانموذج».
وها نحن اليوم نشهد بحمد الله انتصار خط الإمام شمس الدين في السعودية والبحرين وعموم الخليج إذ يتبلور الموقف الوطني الشيعي المشارك المندمج على قاعدة التنوع الثقافي المذهبي في المجتمع الأهلي ووحدة المجتمع السياسي في كيان وطني جامع.
في حديث خاص مع قادة المعارضة الشيعية السعودية، اقنعهم فيه بموقفه وفتح لهم باب الاتصال والتواصل مع السلطات السعودية وصولاً إلى العفو عن المحكومين وعودة المنفيين واطلاق حركة سياسية رائدة وواعدة داخل المملكة، تحدث الإمام شمس الدين عما يراه الخيار الوحيد أمام الشيعة في لبنان والخليج وباكستان وافغانستان، وحتى في العراق، مع اختلاف الشروط، وهو خيار «تحقيق الكرامة والحد الأعلى من المصالح، وحفظ دينهم، وفهمهم وحرية سلوكهم وممارستهم بقدر الامكان في ظل الشروط القائمة فعلاً في المنطقة والعالم».
وقال الإمام أن ذلك لا يمكن أن يحصل «إذا كنا مصدر خوف للآخرين، لأن الخوف منا لا يجعلنا متناقضين مع الأنظمة، بل يجعلنا، وهذا اسوأ ما يكون، على تناقض مع الشعوب بالذات، تناقض مع شركائنا في الوطن.. أن علينا نحن الشيعة أن نبني حالة أن يكون جزءاً من المجتمع حتى لا يعامل على أنه مصدر للخوف أو موضوع للاضطهاد...
لقد شرّد الخوف السياسي والأمني الشيعة في كل العالم الإسلامي، لماذا؟ الأنظمة مسؤولة بالطبع، ولكن بصراحة أنا ألقي بجزء من المسؤولية على طريقة ادارة المشروع الشيعي (إذا صح التعبير) في العصر الحديث. ليس المطلوب إظهار تشيّع الشيعة، فهذا ظاهر إلى درجة الوجع، المطلوب أن يكون الشيعة مواطنين مندمجين في مجتمعهم ومقبولين من مجتمعهم بشكل كامل.... ستسمعون اعتراضات كثيرة تعوّدنا عليها... لقد كان هذا الخط دَيْدَن الأئمة وسياستهم ولم يكونوا في ذلك موالين للأنظمة... لقد كانت رسالتهم السياسية وارادتهم السياسية تقتضي هذا النوع من السلوك لأنه ليس المطلوب إحداث فتنة في المجتمع، بل من المحرم إحداث فتنة في المجتمع...
أنا أطلب، وألتمس، ألا تجعلوا هذا الهدف (هدف الحوار) يجهض، وألا تجعلوه يتعرقل... يجب أن ينمو هذا الهدف لمصلحة الأمرين الأساسيين فقهياً وهما البدء باعادة الكرامة والبدء باعادة الحد الممكن من المصالح.
يقال الآن مثلاً أن الوحيدين الذين يقفون في وجه تسوية الشرق الأوسط هم الشيعة. هذا الأمر بمقدار ما يفتخر به بعض الشيعة وقصار النظر، يشكل خطراً حقيقياً على الشيعة. لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يبدو الشيعة وحدهم في مقابل ما يسمى مشروع سلام الشرق الأوسط. أما أن يشاركهم فيه غيرهم وألا فلا داعي لأن يظهروا أنهم وحدهم «عشاق ليلى». إما أن يكون لهم شركاء في عشقها أو لا داعي لأن تكون معشوقة على الاطلاق.
وأنتم تعلمون أن من يتأخر عن أهل البيت يفقد إيمانه، ومن يتقدمهم أيضاً يفقد ايمانه. فقط من يتبعهم هو الذي يحفظ ايمانه. ومن هنا، فكما أن المتخلين المتخلفين هم مخالفون للحكم الشرعي، كذلك الذين يريدون أن يكونوا مسلمين أكثر من النبي وشيعة أكثر من علي بن أبي طالب... وهذا الأمر أعيذكم بالله أن تقعوا فيه... من هنا اطروحتي أن الحوار والهدنة الداخلية هما الطريق الصحيح. ففي اعتقادي أن كان ثمة رجاء في أن تتحقق مكاسب للشيعة في العالم فهي من هذا الطريق، طريق الاندماج، وليس من طريق الانكفاء والسلبية الكاملة، وليس من طريق الحالة الهجومية... (النص الكامل في كتاب الغدير رقم 4: الأمة والدولة والحركة الإسلامية).
كان الإمام شمس الدين يوصي الشيعة على الدوام بأن «لا ينظروا إلى أنفسهم كفئة متميزة عن سائر شركائهم في الأمة والوطن، وتالياً يجب أن يندمجوا اندماجاً كاملاً في محيطهم الوطني والقومي والإسلامي من خلال الانخراط في أرقى درجات الالتزام الأخلاقي بقضايا الوطن والمواطنين، والالتزام بحفظ النظام وطاعة القوانين... (من حديث له في الكويت ــــ 27/1/1994) «وكل اللبنانيين سواء أكانوا شيعة أم غير شيعة عليهم أن يلتزموا مشروع الدولة الذي ركب على أساس اتفاق الطائف... وكما قلنا دائماً ونكرر: أن أية طائفة في لبنان لا يمكن أن تنجز مشروعاً خاصاً بها، وأي طائفة تريد أن تنتج مشروعاً خاصاً بها ستخلق حالة دمار شامل ولن ينجح هذا المشروع. فمشروع الدولة يجب أن يقوم على توافق الكل وعلى التعاون... ففي هذه المرحلة منطق أكثرية واقلية بالمعنى الطائفي لا يجوز استخدامه ولا يمكن استخدامه... في لبنان لا بد أن تلحظ دائماً الاكثريات والأقليات بالمعنى غير العددي، أي بالمعنى النوعي... أن اطروحة دولة إسلامية أو جمهورية إسلامية، من الناحية السياسية والتنظيمية، وفي لبنان مشروع إسلامي بالمعنى التنظيمي لا يمكن أن يكون... اللبنانيون توافقوا على تكوين مشروع دولة وتنفيذه وفقاً للصيغة الدستورية القائمة فعلاً والتي هي تعبير عن اتفاق الطائف ومن يريد أن يعمل ضمن هذا المشروع فليتفضل سواء أكان «حزب الله» أم أي حزب آخر ديني أو علماني... في لبنان ليس هناك طرح يتناول أصل تكوين الصيغة، فالصيغة هي هذه والذي يريد أن يغنيها والذي يريد أن يرشدها والذي يريد أن يحصّنها، نحن نكون في غاية الشكر والامتنان له... والسؤال هو: هل نريد لبنان أم لا نريده؟ هل نريد نظاماً جمهورياً ديموقراطياً برلمانياً أم لا؟ نحن قلنا نعم للبنان، وقلنا نعم لنظام جمهوري ديموقراطي برلماني... (من حوار في جريدة «الوطن» الكويتية 15/2/1994).
ورأى الإمام شمس الدين أن الحروب الأهلية هي من باب الفتنة التي نهى الله تعالى عنها: (فهي أشد من القتل) وأن من يقع فيها من الإسلاميين هو ضالّ مضلّ وذلك نتيجة لتديّن من غير فقه، وحماسة من غير ورع، وجهل بأحكام الشرع الشريف. وذهب مذهب الأستاذ جودت السعيد في شرحه لمقولة مذهب ابن آدم الآدمي الذي حكى عنه الله بقوله: {لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لاقتلك} [المائدة: 38] قائلاً أن هذه هي شريعة الإسلام...
وقد كتب الإمام منذ زمن طويل كتاباً (لا يزال مخطوطاً ولم يسمح بنشره حتى وفاته) عنوانه «فقه العنف المسلح» توصّل فيه إلى أن استخدام العنف المسلح محرّم بجميع المعايير وعمل غير مشروع بجميع المقاييس. فهو درس العنف الذي يمارس بين المسلمين أنفسهم بعنوان أنه جهاد وتبيّن أنه ليس جهاداً، وبعنوان أنه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر فتبيّن أنه ليس أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر، وبعنوان أنه قتال بغاة فنتبين أنه ليس قتال بغاة، وبعنوان أنه وسيلة لتطبيق الشريعة الإسلامية فتبيّن أنه ليس كذلك... ودرس الجهاد ضد غير المسلمين فتبيّن له (وهو أمر خالف فيه مشهور ما نقل عن الفقهاء) أنه لا يوجد في الإسلام ما يسمى جهاد دعوة، بمعنى أن الكفر وحده، أو التدين بغير الإسلام، هو سبب مشروع لقتال غير المسلم، وأفتى بأن كل جهاد شرعه الله فإنما هو جهاد دفاع من قبيل المقاومة الواجبة ضد الاحتلال الصهيوني والعدوان الاستعماري...
وقد ناقش الإمام أيضاً ما أنتجه الفقهاء في أبحاث الفقه السياسي والتنظيم السياسي واشتمل على مصطلح أهل الذمة وخلص إلى القول أنه مصطلح فقهي حقوقي نشأ نتيجة لتطور المصطلحات الفقهية في مناخ فقهي، وعرف حقوقي سائد في العالم في حينه، وهو لا يحكي عن ثابت في التشريع الإسلامي... وقد طوّر الإمام، وتبعه في ذلك أعلام كبار في مصر خصوصاً (المرحوم محمد الغزالي والدكتور يوسف قرضاوي والدكتور محمد سليم العوا والمستشار طارق البشري والشيخ راشد الغنوشي والدكتور حسن الترابي وغيرهم)، طوّر فكرة المواطنة ومفهومهاً كمشروع فقهي أصيل حيث أن الإسلام لا يضيق أبداً بالتنوع الديني، وحيث أن هذا التنوع يفرض الحوار، وهذا هو منظار الفقه الإسلامي الذي هو التعبير عن فهم الفقهاء للشريعة الإسلامية... فلا يوجد بين المسلمين وغير المسلمين في الوطن الواحد إلا الحوار، الحوار على أساس قبول كل واحد منهما للآخر كما هو وليس بشروط... وقال الإمام شمس الدين: «ولعل الإسلام ــــ وأقول لعل احتياطاً واحترازاً ــــ وفي حدود معرفتي التاريخية ومعرفتي للعقائد والأديان، هو العقيدة الوحيدة التي قامت على فكرة التنوع والتعدد، والإسلام لا يؤمن اطلاقاً بالمجتمع النقي عقائدياً، ولا يعمل من أجل مجتمعات سياسية نقية... ولنقرأ دائماً قوله تعالى: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} [هود: 119]، وكرر الإمام عبارة «ولذلك خلقهم» وقال إنها مبنية على الأصل القرآني الأساس في قوله تعالى: {يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} .
وحين رويت لسماحته كيف أن العلامة المرحوم محمد حميد الله ترجم بالفرنسية عبارة «ولا يزالون مختلفين» بـ en désaccord وليس différents ، قال سماحته: أترى كيف أن العقل الحزبي الضيق الأفق يرى الاختلاف تنازعاً في حين يراه العقل الحواري المنفتح تنوعاً وثروة حضارية حسب مقولة السيد موسى الصدر.
لقد انطلق الإمام شمس الدين في مسيرته الحوارية من تأصيل فقهي عميق على قاعدة النصوص الشرعية التي استنطقها واستدل منها على «ان الاختلاف حقيقة راسخة في الاجتماع البشري ناشئة من طبيعة تكوين العقل الإنساني وعلاقة الإنسان بالطبيعة، ومن حريته»، ومن هنا فإن حق الاختلاف ثابت للإنسان، وهو يتحمل مسؤولية إعمال هذا الحق في هذا المجال أوذاك... لقد رفض الإمام شمس الدين مقولة «الانصهار الوطني» التي يتغنى بها البعض دون تفكير أو تدبير وطرح ضرورة الاستعاضة عنها بمقولة «الاندماج والمشاركة» و«التنوع» ضمن الوحدة، و«التوافق ضمن التعدد»... وهو ارتكز إلى حقيقة تشريعية إسلامية تتعلق بواقعية التنوع ومبدئيته... ذلك أن الله سبحانه وتعالى ذكر في آيات كثيرة قدرته على أن يجعل من الناس أمة واحدة ورأياً واحداً ونسخة واحدة ولكنه تعالى لم يجعلهم كذلك... فقال في سورة الأنعام [الأنعام: 35]. وفي سورة الشورى [الشورى: 8]... لا بل إن الله سبحانه وتعالى جعل الاختلاف حقيقة موضوعية وبمثابة سنّة تكوينية حتى على مستوى الإيمان والكفر... فقال في سورة الزمر {قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه} [الآيتين: 14، 15]... وقال في سورة الكافرون {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما اعبد لكم دينكم ولي ديني} [الكافرون: 1 ــــ 6]. وقال في سورة يونس [يونس: 99]. وفي سورة الأنعام: [الأنعام: 107].
ولعل هذه الآيات تضيء لنا القاعدة الإسلامية المعروفة من أنه «لا إكراه في الدين». إلا أنها تضيء لنا أيضاً جوانب مجهولة في فهم هذه القاعدة وتطبيقها... وهذا ما حرص الإمام شمس الدين على إبرازه من حيث الاستدلال الفقهي ليس فقط على شرعية الاختلاف ومشروعيته وموضوعيته، بل على التأكيد على أن الاختلاف هو رحمة للعالمين {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين} [البقرة: 251] [الحج: 40] فالاختلاف والتدافع والحوار هو من أجل التعارف والتعاون {يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13].
ولقد استعاد الإمام شمس الدين نص الآية الكريمة (التي ينساها المسلمون) والتي هي عبارة عن صيغة حوارية منفتحة خوطب بها الرسول الأكرم حيث يقول الله تعالى في تعليم الرسول الحوار مع المشركين [سبأ: 24] ويستخلص منها الإمام شمس الدين أنه يجب فتح المجال لكل وجهات النظر. «والرسول لم يكن في شك من أمر ربه سبحانه وتعالى، ولكن لأجل اعطاء إطلاقية للحوار يقول القرآن الكريم عن لسانه {وإنا أو أياكم} أي نحن أو أنتم على هدى أو في ضلال مبين...» وهذا هو الاسلوب لتكوين الاقتناعات («الوطن» الكويتية 15/2/1994).
والمناط في هذا الاستعراض التأكيد على الوقوف على قدم المساواة في الحوار مع الآخر وأمام الله الذي له الحكم الأخير... [البقرة: 113] (وتتكرر الآية نفسها بعبارات وكلمات مختلفة في العديد من السور مثل النساء: 141، الأعراف: 87، يونس: 109، يوسف: 80، النحل: 124، الحج: 69، الزمر: 3، الممتحنة: 10). كما يتكرر المعنى في الكثير من الأحاديث المروية عن الرسول والأئمة. وقد استدل الإمام شمس الدين من هذه الآيات والأحاديث على حقيقة تعظيم الله من شأن العقل الإنساني وجعله المرتكز لسلوك الإنسان والحجة عليه. وقال إن الدعوة إلى إعمال العقل هي «لطلب الحقيقة وليس استجابة للهوى، ولذلك فإنه إذا ما أدى إعمال العقل إلى الرأي المخالف لرأي الآخر فلا بد أن يكون هذا الاختلاف مقبولاً من الناحية المبدئية الشرعية»... لذلك رأى الإمام شمس الدين أن آية [البقرة: 256] هي بمثابة أساس تشريعي كامل منسجم مع حقيقة العدل الإلهي ومستلزم لضرورة الحوار وقبول التعدد والاختلاف والجدال بالتي هي أحسن، والبحث عن الكلمة السواء، وصولاً إلى تشريع أصول المصالحة والسلم الأهلي في الآية الكريمة: [النساء: 94].
وكان الإمام يرى بأن من ضرورات السلم الأهلي والمصالحة الداخلية والحوار وحرية الاختلاف اتباع الأخلاق الإسلامية القاضية بعدم اساءة الظن بالآخر المختلف معنا... وكان يكرر على مسامعنا الحديث النبوي «التمس لأخيك بضعاً وسبعين عذراً»، ويعيد تذكيرنا بالآية المباركة {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن أن بعض الظن اثم} [الحجرات: 12].
وقول الرسول : «اياكم والظن فإن الظن اكذب الحديث». وقال الإمام شمس الدين أن الاسلام وضع مبدأ قاعدة الالزام من قبيل قوله تعالى: {من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29] وما ورد في السنّة من قبيل قوله : «أن الأحكام تجوز على أهل كل دين بما يستحلون»، وفي رواية عن الإمام الرضا : «الزموهم بما التزموا به»، وعن الإمام الصادق : «كل قوم دانوا بشيء يلزمهم حكمهم» وما إلى ذلك...
وقد افتى الإمام شمس الدين مراراً بأن ما سبق يفترض مبادىء نظرية في طريقة التعامل واسلوبه، مع الآخر، وهو لخصها في ثلاثة:
• المبدأ الأول: إذا كان الرأي الآخر حقيقة موضوعية يقتضيها التكوين والتشريع، وكان هذا الرأي مشروعاً إذا قام على أساس بحث عن الحقيقة وليس على أساس الهوى كما أشرنا إلى ذلك، فلا بد أن نوفر له مبدأ الحرية، ولا يمكن أن يكون هناك ضرورة حسب الخلقة البشرية ومشروعية بحسب الوضع التشريعي، ولا يكون الرأي الآخر حراً، إذ نكون حينئذٍ نناقض أنفسنا، ومن هنا حق الحرية.
إن حرية ابداء الرأي ينبغي أن تكون من الأمور المقررة في الشريعة، ونستفيد شرعية هذا الحق لكل أحد، ما دام منبع اختلافه بالرأي مع الآخرين هو البحث عن الحقيقة وليس اتباع الهوى، من الآيات نفسها الدالة على اقتضاء أصل الخلقة لحصول الاختلاف في الاراء إذ لا معنى لأن يكون الاختلاف مقتضى أصل الخلقة ولا يكون للإنسان حرية التعبير عن ذاته، اذن الحرية هي أساس.
• المبدأ الثاني: أنه يجب أن يقوم النقاش مع الرأي الآخر على أساس العلم والمنطق. وقد نص الكتاب الكريم في آيات محكمة على هذا المبدأ في عملية النقد، نقد الآخر، هي قوله تعالى في سورة النحل الآية: 125 وقوله في الآية: [العنكبوت: 46] والآية الأعم منهما وهي قوله تعالى: إلى غير ذلك من الآيات التي فسرتها عشرات الأحاديث في السنة الشريفة.
اذن الخطوة الأخرى بعد حق الحرية للرأي الآخر هي الحوار معه بالحسنى وعلى أساس المبادىء العلمية وليس على أساس التهريج.
• المبدأ الثالث: وتتضمن المجادلة بالحسنى الالتزام بالأخلاق، إذ لا معنى لأن يكون هناك جدال بالحسنى من دون أخلاق، ولا بد من أن تكون هناك حدود شرعية يقف عندها الإنسان في معاملته الرأي الآخر، ومن هنا فلا بد أن يلتزم مبدأ الأمانة ولا بد أن يلتزم احترام ذات الآخر واحترام سمعة الآخر.
وكم من مرة حذر الإمام من أساليب التخوين والتكفير والجرح والطعن والتشهير... وهو رحمه الله كان مثالاً في رقة الكلام وحسن الموعظة والجدال وفي احترام الرأي والكلام الصادر عن الآخر مصداقاً لحديث الرسول: «ليس المؤمن باللعان ولا الطعّان ولا الفاحش ولا البذىء»... وقول الإمام علي في تعليم أصحابه «أني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العظة»...
اذن المطلوب هو الوصف الموضوعي للرأي الآخر والموقف الآخر وليس الهوى العاطفي والانفعالي... والمطلوب التشخيص المحايد والأمين للرأي الآخر ونقده... وذلك انطلاقاً من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابذوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن اثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله أن الله توّاب رحيم} [الحجرات: 11، 12].
لقد اطلق الإمام شمس الدين أكبر حملة تصحيح فكري في تاريخ الإسلام والمسلمين، تدعو إلى اتساع الإسلام لكل المذاهب والأديان والعقائد (مبدأ السماحة وليس التسامح حسب ما كان يردد رحمه الله) وهو أكد على التنوع الفقهي المذهبي داخل الإسلام، وعلى التنوع السياسي الديني الحضاري مع الآخر، غير المسلم. ويروي الإمام شمس الدين في هذا السياق سيرة علمين كبيرين من اتباع الإمام الصادق:
• أولهما: هو أبان بن تغلب (وكان من كبار أصحاب الصادق) وكان وجّهه الإمام إلى أن لا يقتصر على نقل رأي مذهب أهل البيت فيما يُسأل، بل يفتي السائلين حسب مذاهبهم، حيث قال له الإمام: «انظر ما علمت أنه من قولهم فاخبرهم بذلك».
• وثانيهما: مسلم بن معاد الهروي الذي قال له الإمام الصادق : «بلغني أنك تجلس في المسجد وتفتي الناس». أجاب: «نعم، وكنت أود أن أسألك عن ذلك إذ يأتيني الرجل فأعرفه على مذهبكم فأفتيه بقولكم، ويأتيني الرجل فأعرفه على غير مذهبكم فأفتيه بقول مذهبه، ويأتيني الرجل فلا أعرف مذهبه فأذكر له الأقوال وأدخل قولكم بين الأقوال»، فقال له الإمام الصادق : «أحسن، هكذا».
هذه الوقائع يذكرها الفقهاء باعتبارها من باب التقية، ولكن الإمام شمس الدين لم يوافق على ذلك، بل فهمها على أنها تدخل في باب التنوع، وأن مذهب أهل البيت يعتبر المذاهب الإسلامية الأخرى أيضاً مذاهب تتمتع بالشرعية، وأتباعها يتمتعون بالشرعية، لأنها تدخل في نطاق الإسلام. وقد سحب الإمام هذا الرأي على موقف الإسلام من التنوع الديني والحضاري «فإن من الحقائق التشريعية الثابتة في الشريعة الإسلامية اقرار كل قوم على شريعتهم، واعتبارها مرجعيتهم في صوغ حياتهم وعلاقاتهم في ما بينهم، وبذلك كان الدين الوحيد في تاريخ البشر الذي اعترف بشرعية الآخر مع قدرته على الغائه... فالإسلام اعترف بالآخر الديني، واعترف به خارج تكوينه السياسي المجتمعي وداخل تكوينه السياسي المجتمعي. فنجد الاعتراف بالآخر الديني في تشريع التعايش الدولي والتعاون الدولي ونجد الاعتراف بالآخر التشريعي والحضاري في مبدأ «الزموهم بما الزموا به أنفسهم» وفي مبدأ «لكل قوم نكاح» والمبدأ التشريعي الكبير بامضاء شرعية ما عليه الآخرون وما يعتبرونه شرعياً عندهم، والاعتراف بالآخر الديني داخل المجتمع بمبدأ تكوين المجتمع المتنوع دينياً كما حدث لأول مرة في تاريخ البشرية في دولة المدينة على عهد رسول الله . (من محاضرات الإمام) وحسب الإمام فإن الأساس التشريعي لذلك ينطلق من الأمر الإلهي بالعدل والنهي عن الظلم...
لقد اعتبر الإمام شمس الدين أساس الإسلام يتلخص في العدل والقسط والميزان... [الأعراف: 29] [النحل: 90] [النساء: 135] {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قريب} [الأنعام: 152] [النساء: 135]... وهي كلها تلخصها الآية المباركة {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجدّ منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} [المائدة: 8]... فالإسلام عند الإمام ينهى عن ارتكاب جريمة الظلم بحق المخالفين في الدين أو العقيدة أو المذهب. وهو نبه إلى أن الأصل الكبير الكبير تشريعاً وحضارة وفكراً نجده في سورة الممتحنة: [الممتحنة: 8].
وحسب الإمام شمس الدين فإنه يترتب على الاعتراف بالتنوع الديني داخل المجتمع ثبوت جميع الحقوق التي يقتضيها الوجود الشرعي للفرد وللجماعة. وهو خالف المشهور في حصر الاعتراف بالتنوع الديني واعطاء الحقوق لهذا التنوع في أهل الكتاب وحدهم، ورأى أن الاعتراف يشمل جميع الناس لأن قوله تعالى: يدل على سلب مشروعية اكراه أي إنسان على الإسلام وهذا لا يختص فقط بأهل الكتاب بحيث نقول أن غيرهم يشرع اكراهه... فشرعية التنوع الديني تشمل جميع الناس وهي نقطة جديدة جديرة بالاهتمام لم يسبقه إليها غيره من فقهاء المسلمين وهو بنى عليها موقفه في ضرورة حفظ التنوع والتعدد الديني واللغوي والثقافي ورعايته نتيجة للمبدأ السياسي الاجتماعي في الشريعة الإسلامية (أي مبدأ شرعية التعددية) حيث قضى هذا المبدأ بابقاء أهل الأديان على اديانهم واحترام ثقافاتهم واعطائهم الفرص لتنمية هذه الثقافات ولممارسة جميع شؤونهم العبادية وسائر تشريعاتهم الدينية في أسرهم وفي علاقاتهم دون أدنى مساس بحقوقهم وحريتهم بل احترامها وحمايتها من أي انتهاك.
لقد كان سلوك الإمام علي مع معارضيه والخارجين عليه هو الأساس الفقهي لدى الإمام شمس الدين لتطوير فقه التنوع والاختلاف والحوار... وقد ذكر الإمام في إحدى محاضراته رواية كثير بن نمير إذ قال: «بينما أنا في الجمعة وعلي بن أبي طالب على المنبر جاء رجل وقال: لا حكم إلا لله، ثم قام آخر وقال: لا حكم إلا لله، ثم قاموا من نواحي المسجد يحكّمون الله، فأشار عليهم بيده: اجلسوا. وقال: نعم لا حكم إلا لله، كلمة حق يبتغي بها باطل، حكم الله انتظر فيكم إلا أنه لكم عندي، ثلاث: ما كنتم معنا لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئاً ما كانت أيديكم مع ايدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا».
وعلق الإمام على الرواية: فمع أن الخوارج خرجوا على ولاية علي وعارضوا حكومته وخلعوا طاعته فإنه اعترف لهم مع ذلك بما لهم من الحقوق السياسية، ولم يعاملهم بقمع ولا بسجن ولا بقتل ولا بأي شيء من ذلك. لقد اعطى لهؤلاء حق النقد وحق الاعتراض حتى بالباطل ولم يمنعهم هذ الحق اطلاقاً... وحين امتنع عن مبايعته فريق من الناس ونكث ببيعته فريق آخر، لم يجبر الإمام الذين امتنعوا عن مبايعته على ذلك بل اتسع لهم صدره وسياسته ونظامه (ومنهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر والمغيرة بن شعبة). وحينما جاؤوا إليه يطلبون مخصصاتهم المالية لم يمنعهم منها بل عاملهم في هذا الشأن معاملته لمن بايعه واعترف بشرعية خلافته. ولو أن الذين نكثوا بيعته بقي نكثهم في نطاق المعارضة السياسية ولم يطوّروا نكثهم إلى نزاع مسلح (وهو ما حدث في حرب الجمل) لما تعرض لهم ولأتسع لهم فكره ونظامه. ولكن حين آل أمرهم إلى الافساد والحرب الأهلية اضطر إلى مواجهتهم... وتذكر مصادر التاريخ مواقف لجماعات وافراد عارضوا الإمام علياً في بعض القرارات والمواقف فلم يتعرض لهم بسوء بل تركهم وشأنهم. ومنها أن الحريث بن راشد كان عدواً للإمام فجاءه وقال له: «والله لا اطعت أمرك ولا صليت خلفك» فلم يغضب الإمام لذلك ولم يبطش به ولم يسجنه وإنما دعاه إلى الحوار والمناظرة ولكن هذا الرجل رفض ذلك وانصرف. ومن أبرز الأمثلة على موقف الإمام علي ما ورد عنه من نهي لقتال الخوارج بعده وقوله وهو على فراش الموت «لا تقاتلوا الخوارج بعدي فإنه ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه». وبذلك اعطاهم حق المعارضة للنظام القائم بعده وهو أمر طبيعي، فإذا كان يرى أن من حقهم معارضته وهو إمام الحق فمن باب أولى أن يكون لهم حق المعارضة لدولة الباطل» (انتهى كلام الإمام شمس الدين).
ونختم مع الإمام الراحل الكبير: «أن المسلمين على وعي كامل أن لا كرامة لوطن يشعر بعض أبنائه بانتقاص كرامتهم، ولا أمن لوطن يشعر بعض أبنائه باختلال أمنهم، ولا استقرار لوطن يعاني بعض أبنائه من انتقاص حقوقهم، ولا لبنان من دون مسيحيين كما لا لبنان من دون مسلمين... لأن لبنان هو معنى... وهو معنى لا يكتمل بالمسلمين وحدهم ولا بالمسيحيين وحدهم بل يكتمل بهم جميعاً ومعاً... وإننا إذ نقول لجميع اللبنانيين أنه لا يجوز لهم أو لبعضهم النظر واعتبار أن الصيغة الجديدة تمثل انتصاراً لفريق على فريق ولا يجوز لأحد ولا لفئة أن تتصرف على هذا الأساس، فإننا نقول للجميع أيضاً أنه لم ينتصر أحد على أحد بل انتصر كل لبنان ومجموع الشعب اللبناني... أن الصيغة التي نريد والدولة التي نريد ليست ولن تكون لطائفة دون أخرى، أو مع فئة دون أخرى، فضلاً عن أن تكون دولة أشخاص. إنها دولة الجميع وللجميع عدالة ومساواة وكرامة»... (من بيان سماحته أثر انتخابه رئيساً للمجلس بتاريخ 18/3/1994). «وأقول للمسلمين: أيها المسلمون اللبنانيون، أنتم تتحملون مسئولية أكبر من المسيحيين الآن في صوغ خطاب الوحدة والتضامن والثقة وتأصيله، الخطاب الذي آمل، وأنا واثق، أنه سيكون أكثر فأكثر انفتاحاً وتوحيداً ومحبة وتأهيلاً للمشاركة... نحن مؤمنون بلبنان وقد قلت أن لبنان وطن نهائي لجميع بنيه، مسلمين ومسيحيين لا فضل لأحدهم على الآخر إلا بمقدار ما ينقصون لبعضهم بعضاً وكلهم للبنان» (من خطبة الجمعة 25/3/1994).