العدد – 1 15/11/2018
تقرير الحالة العربية
يرصد هذا التقرير الدوري تطوّر الأوضاع في المنطقة العربية، بقراءةٍ جيو-سياسية، ومن منظور "نظام المصلحة العربية المشتركة"، في سياق تزاحم أنظمة المصالح الإقليمية والدولية. وهو في عمله إنما يتّخذ من "مبادرة السلام العربية" (قمة بيروت 2002) و"إعلان الرياض" الصادر عن القمة العربية 2007 مرجعيةً أساسية في تقديره للأمور.. هذا مع التفاتةٍ خاصّة إلى الحالة اللبنانية، من منظور العيش المشترك واتفاق الطائف وقرارات الشرعية الدولية الخاصة بلبنان، لاسيما القرار 1701.
في المشهد العربي العام
منتصف تشرين الثاني /نوفمبر 2018.
ذات يوم خاطب الحجّاج بن يوسف الثّقفي أهلَ العراق، مهدّداً متوعداً، بقوله: "... واللهِ لأجعلنّ لكلٍ منكم شُغلاً في بَدَنه، يُغنيه عمّا سواه!". قد يمكن القول اليوم، على سبيل القياس لا التشبيه، أن تطوّرات ما سمّي "الربيع العربي" في مرحلته العنفيّة المسلّحة، وما تراكب عليها من صراعات إقليمية ودولية، قد جعلت لكلّ بلدٍ عربي "شُغلاً في بَدَنه" يصرفه عما حوله. ومما لا شكّ فيه أن تعاظُم التدخُّل الإقليمي والدولي في شؤون المنطقة العربية، إلى حدّ الانخراط الميداني في هذه الشؤون، سياسياً وعسكرياً، قد ضاعف من تهميش الدور العربي في تقرير مصير المنطقة؛ إذ۠ تراجع العمل العربي المشترك في إطار جامعة الدول العربية، كما تراجعت قوى عربية وازنة تاريخياً وتقليدياً عن أدوارها، حتى بات مصيرُ عددٍ من الكيانات الدولتية العربية وقفاً على تفاهماتٍ وأولويات خارجية أكثر مما هو في يد أهل البيت العربي أو الوطني. ولعلّ الشاهد الأبرز على واقع الحال هذا هو مصير سوريا الذي بات في عُهدة أربع قوى غير عربية، هي الولايات المتحدة وروسيا وايران وتركيا، على تفاوت ما بين هذه القوى في مجال التأثير والتقرير (الولايات المتحدة تقرّر في الكلّيات، و"لا تنسى نصيبها من الدنيا"، فيما يقرّر الآخرون في الجزئيات والإجرائيات، وعلى تفاوتٍ أيضاً فيما بينهم). هذا من دون أن نُغفل الحاضر الدائم (اسرائيل).
بَي۠دَ أنَّ هذه المشهدية العربية، التراجعيّة والقاتمة، ليست ذاهبةً - كما يظنّ البعض أو يروّج - إلى مآلٍ محدّد ومحتوم وسريع، هو نهايةُ "الزمن العربي" وحلولُ زمنٍ آخر في بلادنا، أكانَ روسياً –قيصرياً، أو إيرانياً –فارسياً، أو تركياً –عثمانياً، أو إسرائلياً –تلمودياً.. وإن۠ كان "الزمن الأميركي" هنا وثمة هو الأكثر ثباتاً والأقلّ خُلَّبيةً من بين تلك الأزمان. هذا إلى شيخوخةٍ مبكرة جداً في الزمن الأوروبي الجديد.
تقديرُنا هو أن الأوضاع ما زالت صراعيّةً بامتياز، وستبقى كذلك إلى أمدٍ غير قصير. فلئن بدا التواطؤ وتوزُّع الأدوار جليّين في أداء القوى المهيمنة على المشهد، إلا أن ما بينها من تزاحمٍ وتناقضات هو الأشدّ حضوراً، بحيث تبقى الأوضاع على حالها في كثير من المسائل الجوهرية العالقة، أو تعود إلى نقطة الصفر غداة كل وع۠دٍ بحلٍ ناجز أو باختراقٍ نوعيّ.
في خطٍ موازٍ، ثمة قضايا جوهرية تبدو - بطبيعة الأشياء - عصيّة على التّلفيق تحت ضغط الأمر الواقع: فالقضية الفلسطينية بدت عصيّة على "صفقة القرن"، وإن۠ كانت في أشدّ حالات الحصار؛ وجريمة العصر في سوريا غيرُ قابلةٍ للالتفاف عليها، بما يُتيح إفلاتَ النظام المجرم من العقاب؛ والعراق أخذ يتململ وبقوة، على طريق العودة إلى وطنيته وأصالته العربية؛ واليمن لا يمكن إلا أن يكون ثغراً عربياً ومفتاحاً للأمن الستراتيجي ما بين الخليج ومصر، فضلاً عن سيولة التبادل الدولي والتجارة العالمية؛ ولبنان يبقى عصياً على تغيير طبيعة اجتماعه التعايشي ورسالته المعلومة في المنطقة والعالم، وإن۠ بدا أحياناً حلقةً ضعيفة ومستفردة... يُضاف إلى ذلك أن مجمل قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالبلدان المشار إليها ليست حتى الآن في صالح عمليات التلفيق، ولا يبدو أنّ بالإمكان التوصّل إلى توافقات دولية مخالفة.
وعليه نعتقد أن المدخل العربي السليم (الجماعي وليس الإفرادي) إلى التعامل مع المشهد القائم، ما زال يتمثّل في ترميم منظومة العمل العربي المشترك وإصلاحها، على أساس أولوية "نظام المصلحة العربية المشتركة".. وهو ما عبّرت عنه الفقرة الأخيرة من النداء الحار الذي أطلقه "إعلان الرياض" الصادر عن القمة العربية في آذار/ مارس 2007:
"إنّ ما تجتازه منطقتنا من أوضاعٍ خطيرة، تُستباح فيها الأرض العربية، وتتبدّد بها الطاقات والموارد العربية، وتنحسر معها الهوية والثقافة العربيتين، يستوجب منا جميعاً أن نقف مع النفس وقفةَ تأمّلٍ صادق ومراجعةٍ شاملة. وإننا جميعاً، قادةً ومسؤولين ومواطنين، أباءً وأمهاتٍ وأبناء، شركاءُ في رسم مصيرنا بأنفسنا، وفي الحفاظ على هويتنا وثقافتنا وقيمنا وحقوقنا. وإنّ أمتنا العربية قادرةٌ بإذن الله، حين توحّد صفوفها وتعزّز عملها المشترك، أن تحقّق ما تستحقّه من أمن وكرامة وازدهار".
ذلك معطوفاً على ما جاء في الإعلان ذاته حول معنى العروبة: "... العروبة ليست مفهوماً عرقياً عنصرياً، بل هي هوية ثقافية موحِّدة، تلعب اللغة العربية دور المعبّر عنها والحافظ لتراثها، وإطارٌ حضاري مشترك، قائم على القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية، يُثريه التنوّع والتعدّد والانفتاح على الثقافات الإنسانية الأخرى، ومواكبةُ التطورات العلمية والتقنية المتسارعة".. وهو ما يقتضي "نشرَ ثقافة الاعتدال والتسامح والحوار والانفتاح، ورفضَ كل أشكال الإرهاب والغُلُوّ والتطرّف، وجميع التوجهات العنصرية وحملات الكراهية والتشويه (...)، والتحذيرَ من توظيف التعدّدية والمذهبية والطائفية لأغراض سياسية تستهدف تجزئة الأمة وتقسيم دولها وشعوبها، وإشعالَ الفتن والصراعات الأهلية المدمّرة فيها".
في مواجهة "صفقة القرن".
بعد بضع سنوات من توقّف عملية السلام الاسرائيلية - الفلسطينية، جرى خلالها انكفاء الإدارة الأميركية عن دور الشريك، وحتى الوسيط، من دون أن تتوقف عمليات التهويد الممنهج من جانب الحكومة الإسرائيلية، وفيما كان الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية يتراجع إلى حدّ بعيد، جرّاء انشغال دول المنطقة بمواجهة اضطراباتها الداخلية والممهورة في معظم الأحيان بالعنف الإرهابي.. أطلعت الإدارة الأميركية شيئاً سمّته "صفقة القرن" لحلّ النزاع الفلسطيني -الاسرائيلي.
لم تُعلَن خطة المشروع بصورة رسمية وكاملة. ولكنّ ما تسرّب منها، سواءٌ بالتصريح أو بعض الإجراءات من الجانب الأميركي، كان كافياً للقول بأنها ترمي إلى "تجريد الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية"، بحسب الردّ الحاسم والسريع من جانب القيادة الفلسطينية. ذلك أن المشروع يقوم على اعتبار المشكلة الفلسطينية مشكلةً إنسانية – اقتصادية - أمنية، يكمن حلّها في معالجة موضوعي الإرهاب الفلسطيني والضائقة الاقتصادية المعيشية. بالتالي فإن هذا التصوّر ينسف أساس عملية التسوية القائمة على فكرة "الأرض مقابل السلام، وحلّ الدولتين"، والجارية منذ اتفاقيات أوسلو 1993 ومبادرة السلام العربية 2002، وإن۠ جَرِت على تعثُّر شديد كما هو معلوم. بعبارة أخرى فإن الجانب الأميركي "يتعامل مع هذه المسألة بمنطق الصفقة التجارية، في حين أنه لا يمكن حلُّ نزاع تاريخي، معقّد ومشحون بأحلام قومية - دينية مثل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، بمنطق الصفقة التجارية.. وكيف نتوقّع من أي شعب أن يتنازل عن أحلامه؟!"، على ما كتب الباحث واللواء احتياط في الجيش الإسرائيلي غيرشون هاكوهن (رندة حيدر، نشرة "جسور" تشرين الأول 2018).
في الإجراءات الأميركية التي واكبت المشروع: تنفيذ نقل السفارة الأميركية إلى القدس؛ وقف تمويل وكالة "الأنروا" والتشكيك بدورها، وصولاً إلى المطالبة بإلغائها؛ ومؤخراً إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.
لعلّ النقطة الأكثر وضوحاً وحساسيةً وعمليةً في المشروع الأميركي هي قيام "كونفدرالية بين الضفة الغربية والأردن". وهذا الاقتراح نقله إلى الرئيس الفلسطيني شخصياً كلٌ من جاريد كوشنير (صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومستشاره) وجيسون غرينبلات (مبعوثه الخاص إلى الشرق الأوسط)، بحسب تصريح الرئيس محمود عباس (وكالة "وفا" الفلسطينية والإعلام الإسرائيلي 2/9/2018).
أما قطاع غزة فيتعامل معه المشروع تعاملاً اقتصادياً بحتاً (مشاريع تنموية، وإقامة منطقة تجارية حرّة بين غزة والعريش... إلخ)، فضلاً عن اعتباره كياناً منفصلاً عن الضفة. وهذه النقطة الأخيرة لم تتوقف اسرائيل عن تشجيعها عملياً وبالإيحاءات.
مع رفض المشروع جملةً وتفصيلاً من الجانب الفلسطيني، إلى حدّ قطع العلاقة مع الإدارة الأميركية باعتبارها "وسيطاً غير نزيه"، إلا أنّ ردّ الرئيس عباس على اقتراح الكونفدرالية كان لافتاً وشديد الرمزية: "أقبل بالكونفدرالية، شرط أن تكون ثلاثية: فلسطين - الاردن - إسرائيل!". بذلك لم يردّ الكرة إلى الإدارة الأميركية واسرائيل فقط، بل استعاد ردَّه الشهير على التعنّت الإسرائيلي في شأن حلّ الدولتين: "إذا رفضتم حلّ الدولتين، فلن يكون أمامنا سوى الذهاب في اتجاه الدولة الواحدة، الثنائية القومية!". هو يعلم أن إسرائيل يستحيل أن تقبل مثل هذا البديل، مثلما يعلم تماماً استحالة قبول الجانب الأردني بكونفدرالية أردنية - فلسطينية.
وبالفعل، ما إن كشف عباس عن جوهر المشروع الأميركي حتى سارعت الحكومة الأردنية إلى القول: "ربط الأردن بالضفة الغربية كونفدرالياً غير قابل للنقاش وغير ممكن!". (وكالات 2/9/2018).
هل "صعد الرئيس الفلسطيني إلى أعلى الشجرة، وهو بحاجة إلى من يُنزله"؟ كما رأى بعض المراقبين؟ جواب الأوساط القريبة من السلطة الفلسطينية: " نعم، صعد بإرادته وتصميمه، وهو لا يحتاج إلى النزول طالما أنه لا توجد أرضٌ ينزل إليها، أي أرض مفاوضات حقيقية، وبشروط حل الدولتين المتّفق عليها!".
هل يراهن الرئيس الفلسطسني فقط على الرفض الأردني القاطع؟ الواقع أن هناك رفضاً سعودياً لا يقلّ أهميةً وقطعية في هذا الصّدد؛ وهو ما عُرف من موقف العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، بأنّ هذه المسألة، أي "صفقة القرن"، "لا يمكن السير فيها!". بيد أنّ رهان القيادة الفلسطينية الأكبر هو على النضالية العالية التي أظهرها الشعب الفلسطيني مؤخراً في الداخل، ولا سيما في هَبّتي الدفاع عن الأقصى والوقف الارثوذكسي، حيث شارك في الهبَّتين المسلمون والمسيحيون معاً، وخصوصاً من داخل "أراضي 48".
وإذ۠ حاول نتنياهو الالتفاف على صلابة الموقف الفلسطيني، المدعوم عربياً وإسلامياً، بزيارته إلى سلطنة عُمان، فقد جاء الردّ الفلسطيني بالدرجة ذاتها من الوضوح والحسم: "إن زيارة رئيس وزراء الاحتلال الاسرائيلي نتنياهو لسلطنة عمان هو نسفٌ لمبادرة السلام العربية، القائمة على اساس الأرض مقابل السلام، ومن ثمّ إقامة العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل" (بيان حركة فتح 26/10/2018).
على الأثر قال الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية العُمانية، يوسف بن علوي: "ليس لدينا خطّة، لسنا وسطاء... ويبقى الدور الأميركي هو الرئيس في الأمر. نحن نقدّم التيسيرات فقط!" (وكالة روسيا اليوم 26/10/2018).
ثمة مؤشرات تدلّ على أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو أيضاً بحاجة إلى أن ينزل من أعلى الشجرة.. وهذا ما قد تبيّنه الأسابيع المقبلة.. على قاعدة أنه "لا بديل عن السلام إلا السلام"، ولا بديل عن المفاوضات الحقيقية إلا المفاوضات الحقيقية.. ولا بدّ لنا أيضاً من التدقيق في الموقف المصري من "صفقة القرن".
سوريا
شاهداً على الغياب العربي!
أشرنا في بداية هذا التقرير إلى أن الحالة السورية، في ما آلت إليه، تقدّم شاهداً على غياب الدور العربي الفاعل في تقرير مصير سوريا. ليس هذا وحسب، بل أنّ الدور الوطني السوري (الداخلي) أصبح ايضاً في منزلة الكسوف والغياب، أكان على صعيد المعارضة أو حتى النظام الحاكم نفسه. فهذا الأخير بات من بين أضعف اللاعبين، إن۠ لم يكن۠ أضعفهم، ولا يُستخدم إلا كستارة (بارافان) لهذه القوة الإقليمية أو تلك، في هذا الاتجاه أو ذاك. والمعارضة باتت أكثر ضعفاً وغياباً، بواقع تشتّتها والتحاقها أشتاتاً بهذه الدولة أو تلك... ومن نافل القول أن الثمن الباهظ قد دفعه الشعب السوري من حاضره وتاريخه ومستقبله، في ما يمكن أن نطلق عليه "مأساة القرن"، جرياً على هذا المصطلح الجديد في سوق التداول، وفي "لعبةِ أممٍ" قلَّ أن شهدنا مثلها إبّان الحرب الباردة ومعسكراتها.. علماً أن تلك الحرب الشهيرة كانت باردةً في مجمل أنحاء العالم، وساخنةً جداً في منطقتنا!
وإذا كان الجانب العربي، بما فيه الداخل السوري، على مثل هذهالحال، فهل القوى غير العربية القابضة على المشهد السوري (الولايات المتحدة- روسيا- ايران- تركيا- اسرائيل) متوافقةٌ على السّير به نحو حلٍ معلوم؟ وإذا "عُلم" هذا الحلّ- أو بالأحرى رُوِّج له- فهل هو قريبُ أو منظور؟
إنّ رص۠دَ التطورات السورية، السياسية والميدانية، منذ "سقوط حلب" ثم انحباس أنفاس المراقبين عشيّة "الوعد باقتحام إدلب" من جانب قوات النظام السوري وحلفائه حتى اليوم.. هذا الرَّصد يبيّن أنّ "الصورة التقاسمية" هي الطاغية والمعايَنة، فيما بقيت الحلول "افتراضيّةً" ورهناً بالمُضمر لدى كلٍ من اللاعبين الأساسيين، بانتظار توافقٍ أخير فيما بينهم لم يَحِن۠ وقته بعد !
أبرز ملامح الصورة التقاسمية هي التالية:
والحال كذلك، نعتقد أن المراوحة القائمة والمستمرّة في سوريا ليست ناجمة عن موازين قوى بين اللاعبين غير حاسمة، بمقدار ما هي ناجمة عن سببين رئيسين ومترابطين، قد يتبادلان الأولوية في التأثير: عدم ميل الإدارة الاميركية إلى الحسم، وتعقيدات الوضع السوري باعتباره "حجر زاوية" في تقرير مصير المنطقة برمّتها. بعبارة أخرى: إن مشكلات المنطقة، من فلسطين إلى اليمن مروراً بسوريا والعراق، مترابطة ومتداخلة من منظور استراتيجي. هذا رغم أن الإدارة الاميركية في السنوات الأخيرة عملت بوضوح على عزل المشكلات عن بعضها بعضاً. وإذا كانت المحاولة الأخيرة تحت عنوان "صفقة القرن" بخصوص المسألة الفلسطينية تؤشّر بقوة إلى هذا الاتجاه، إلا أنها تؤشّر في الوقت نفسه إلى ترابط المشكلات والمصائر، فضلاً عن مركزية القضية الفلسطينية، حتى وهي في أشدّ حالات الاستفراد؟
الصورة الأخيرة في المشهد السوري شديدة التعبير والدلالة: استقالة ستيفان دي ميستورا من مهمته في سوريا نهاية تشرين الثاني/نوفمير 2018، أمام رفض النظام السوري أيّ دور للأمم المتحدة في تعيين "لجنة صياغة الدستور الجديد"، بالنظر إلى اشتراط بعض العواصم الغربية إنجاز هذه المهمة قبل بدء عملية إعادة الاعمار، وبالتالي إقناع أطراف النزاع بذلك قبل نهاية العام الحالي. وتأتي استقالة دي ميستورا بعد اربع سنوات قضاها في المنصب لم تقدّم الكثير، وبعد استقالة مبعوثين للأمم المتحدة منذ آذار/مارس 2011، هما على التوالي: الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي أنان الذي وصف مهمته في سوريا بـ"المهمّة المستحيلة"، والدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي. ويتساءل المراقبون اليوم: هل سينجح المبعوث الجديد المعيّن مكان دي ميستورا (النروجي غير بيدرسون) حيث فشل أسلافه الثلاثة؟
لعل الجواب الأكثر دقّة وواقعية عن هذا السؤال هو ما جاء على لسان المتحدث باسم هيئة التفاوض السورية المعارضة، بقوله: "إنّ تغيير الموفدين لن يكون له تأثير يذكر على مصير البلاد في ظل غياب إرادة وإجماع دوليّين لخريطة طريق سياسية" (وكالات 1/11/2018).
و"تقرير الحالة العربية" يسأل بدوره: من المسؤول عن غياب إرادة وإجماع دوليّين لإخراج سوريا من محنتها، في ظلّ الموازين الفعليّة القائمة في سوريا؟
معلّقاً على خشبة نفوذَين!
ما تعرّض له العراق من حروب وفتن وأهوال خلال العقود الاخيرة، لا سيما بعد العام 2003، مضافاً إليها سوء التدبير الداخلي، لم يترك شيئاً إلا وأعمل فيه يد التخريب. ولعلّ سقوط الدولة مرّتين في غضون السنوات الخمس عشرة الاخيرة (عام 2003 على يد الاحتلال الاميركي، وعام 2017-2018 على يد "داعش") يلخّص الحالة العراقية خلال هذه الفترة. وإذ۠ تراكبت تلك الحروب والفتن على التعدُّد العراقي، الديني- المذهبي- الإثني، فقد انعكست ليس على واقع الدولة وبنيتها فحسب، وإنما أيضاً وخصوصاً على حال المجتمع، بحيث ولّدت أزمة هويّة مزدوجة، هوية الدولة وهوية المجتمع. يُضاف إلى ذلك أنّ "التّفاهم الصّراعي" ما بين الاحتلال الاميركي والنفوذ الايراني قد جعل العراق يعيش لسنوات في عزلةٍ عن محيطه العربي، معلّقاً على خشبة نفوذين!
بعد هزيمة "داعش" عسكرياً في الآونة الاخيرة، تبيّن للعراقيين أن تحدّيات النهوض وإعادة البناء تمتد من أزمة معيشية تفاقمت جرّأء تمادي الفساد والفوضى وسوء التدبير، وصولاً إلى أزمة هوية وطنية.
وفيما كان العراق يحاول أن يلملم أشتاته في هذه الآونة، استناداً إلى واقعةٍ وثلاث ظاهرات في بدايتها:
أما الواقعة فهي النجاح في تجاوز الأزمة التي خلقها استفتاء إقليم كردستان حول الانفصال، بالتراجع عن نتائج الاستفتاء.. وكان للموقف الاميركي غير المشجّع دورٌ اعتبره البعض حاسماً في هذا التراجع. وبطبيعة الحال يدخل في الحسابات الاميركية لهذه الناحية الموقف التركي المتشدّد.
وأما الظاهرات الثلاث، ولو في بدايتها، فهي:
نقول إنه فيما كان العراق يحاول أن يلملم أشتاته في هذه الآونة الأخيرة، استناداً إلى ما تقدّم من وقائع أو ظاهرات، وفي أثناء ولادة الحكومة، أتى استحقاق تنفيذ العقوبات الاميركية ضدّ ايران في الاسبوع الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري. هنا توقّفت ولادة الحكومة، بضغط ايراني شديد، وبعد خمسة أيام فقط من الإعلان عن بدء العقوبات. وقد لاحظ المراقبون تزامن التعطيل الايراني في كلٍ من العراق ولبنان، وبذريعة واحدة تقريباً!..لذا لم يعد هناك من شكٍ في أن تعطيل ولادة الحكومتين يتجاوز الاعتبارات الداخلية ليرتبط مباشرةً بمواجهة العقوبات الاميركية.. ماذا وإلا متّى تستخدم ايران "إمساكها بقرارات أربع عواصم عربية، هي دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء"، على ما تبجّح قادتها مراراً وتكراراً؟!
إلى متى تستمر عملية عضّ الأصابع هذه؟
الأيام والأسابيع المقبلة كفيلة بتقديم بعض المؤشرات، وإن كنا لا نطمح بالحصول على إجابة واضحة وضريحة، بل ستكون الاجابة على الأرجح ملتبسة! ذلك أن العقوبات لم تقفل جميع الأبواب أمام ايران، رغم لهجتها العنترية على طريقة الكاوبوي الاميركي. كذلك فإن ايران، على ما نرى ونعتقد، تحاول استدراج تدخّلات غربية للتحايل على العقوبات، مستغلّة وجود "رهائن" بين يديها، واستطراداً استدراج كلام مع السيّد الاميركي، "موزّع الأرزاق"، طالما أن هذا السيّد قد أعلن بوضوح أن الاتفاق النووي البديل عن الاتفاق السابق هو اتفاق جديد يلحظ نفوذ ايران في المنطقة وصواريخها الباليستية.
المهمّ بالنسبة لنا، نحن العراقيين أو اللبنانيين، ألاّيكون عضُّ الأصابع بين الاميركي والايراني عضّاً على أصابعنا نحن ليس إلا!.. فالاميركي بيده خراجُ "غيمة الرشيد"، والايراني بيده الرهائن.. وما يهمنا أن لا تنفجر الطائرة بالمخطوفين!.. فهل يستطيع الركاب أن يتصرّفوا، بأن يكونوا طرفاً ثالثاً، له أجندته الخاصة، أم أن التماهي مع أحد الطرفين هو الخيار الوحيد؟
غير السّعيد بالمرّة!
منذ أوائل العام 2015 تفاقم الصراع في اليمن عندما سيطر الحوثيون على مناطق واسعة من غربي البلاد، وأجبروا الرئيس عبد ربه منصور هادي على الفرار إلى السعودية. بذلك انقلبوا على المبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية آنذاك وعلى مخرجات الحوار الوطني، متحالفين مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي سينقلب عليهم لاحقاً. وإذ شعرت السعودية والإمارات وسبع دول أخرى بالقلق إزاء صعود الحوثيين، الموالين لايران والذين يخوضون حرباً بالنيابة عنها، فقد تدخلت هذه الدول بصورة هجمة عسكرية منسّقة لإعادة الحكومة الشرعية في البلاد (عملية "عاصفة الحزم"). هذا فيما تلقّى التحالف العربي بقيادة السعودية دعماً لوجستياً من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
رغم عودة الحكومة الشرعية، إلا أنها لم تتمكن من السيطرة على كل البلاد، واستمر الحوثيون في سيطرتهم على مناطق واسعة، بما فيها صنعاء، بدعم ايراني مكثّف وصريح. وهكذا استمرت "عاصفة الصحراء" تحت عنوان "إعادة الأمل" لمدة أربع سنوات حتى الآن من دون أن تحسم الصراع، رغم عدم تكافؤ الجبهتين، إن۠ بحجم القوة العسكرية، أو بابتعاد علي عبدالله صالح عن الحوثيين، أو بصدور قرار مجلس الأمن رقم 2216 لصالح الشرعية!
هذه المراوحة الطويلة طرحت لدى المراقبين وفي واقع الأمر أسئلة كثييرة حول إشكاليات ظهرت تباعاً، لعل ابرزها:
بالعودة إلى الحالة اليمنية، لاحظ المراقبون أنه "بعد صمت الإدارة الاميركية لعدة شهور خلت عمّا يجري في اليمن، فوجئت الأوساط الدبلوماسية بإطلالة وزيري الدفاع والخارجية الاميركيين، ودعوتهما أطراف النزاع إلى وقفٍ عاجل لإطلاق النار، والذهاب إلى محادثات سلام خلال ثلاثين يوماً في السويد، بإشراف المبعوث الخاص للأمم المتحدة مارتن غريفيث، والتوصّل إلى حلّ!" (BBC بالعربي31 اكتوبر 2018). ويضيف المراسل الدبلوماسي لـBBC: أن "الولايات المتحدة وبريطانيا لم تطالبا سابقاً بصورة رسمية بوقف إطلاق النار عن طريق الأمم المتحدة... ولكن يبدو أنّ الأمر قد تغيّر الآن".
ما الذي تغيّر؟.. قد يجيب عن هذا السؤال جزئياً، ومن وجهة نظر غربية، ما صاحب الدعوة الاميركية من تقارير تفيد بأن "قوات التحالف بقيادة السعودية قد تكون ارتكبت جرائم حرب في اليمن، وتقول المنظمات الانسانية إن الحصار الجزئي المفروض على البلاد أدّى إلى وقوف 14 مليون يمني على حافة المجاعة". يُضاف إلى ذلك تصريحات ناطقين باسم الأمم المتحدة: "مجاعة وشيكة تهدّد نصف سكان اليمن!.. الأمم المتحدة تخسر معركتها ضدّ المجاعة في اليمن!.." (BBC –ن.م.)، في المقابل وفي وقت لاحق، أصدرت بعثة "أطباء بلا حدود" العاملة في اليمن تقريراً مفصلاً بيّنت فيه أن "الكلام على مجاعة في اليمن تهويليّ، وما هو قائم لا تنطبق عليه مواصفات المجاعة بالمعايير العلمية المعتمدة.." (قناة العربية، 12/11/2018).
ماذا تغيّر أيضاً من وجهة نظر سياسية؟.. في الإجابة عن هذا السؤال، "أكّد مسؤولون اميركيون ومصادر دبلوماسية مطّلعة على ملف مقتل الاعلامي السعودي، جمال الخاشقجي، أنّ واشنطن "تستغلّ" موقف الرياض في هذه القضية بصالح ملفّي الأزمة القطرية –الخليجية ووقف الحرب في اليمن.. ولفت المسؤولون إلى أن التوصّل إلى حلّ في هذين الملفّين لن يكون سريعاً، ولكن الإدارة الاميركية تأمل في تطوّر ملموس على الجبهتين بنهاية العام الجاري.. وهو ما يمكن رؤيته عبر الدعوات الرسمية الأخيرة للتوصّل إلى حلّ في القضيّتين" (CNN، 1/11/2018).
في ردّ الفعل الايراني، "أشار بعض الدبلوماسيين إلى أنّ طهران لن تكون سعيدة بالانسحاب من اليمن، ومن غير الواضح ما إذا كانت على استعداد للتجاوب مع الولايات المتحدة، فيما تُعيد هذه الأخيرة فرض العقوبات على الاقتصاد الايراني بعد الانسحاب من الاتفاق النووي" (BBC بالعربي، ن.م.).
في ردّ الفعل السعودي، شهد الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر الجاري تصعيداً قوياً من جانب التحالف العربي، في محاولة لحسم الوضع في الحُديدة ومينائها، بالتزامن مع تقدّم قوات الحكومة اليمنية الشرعية في غير مكان. (وكالات)
في ردّ الفعل القطري، لاحظنا "العملية المالية" الأخيرة باتجاه "حماس"، بالتزامن مع الفصل المستجدّ من "حرب حماس- نتنياهو" في غزة!!
تحدّي النأي بالنفس.. ولا كل مرّة!
لاحظنا في القسم الثالث من هذا التقرير (العراق: معلّقاً على خسبة نفوذَين!) تزامُن التعطيل الايراني لتشكيل حكومة جديدة في كل من العراق ولبنان مع بدء العقوبات الاميركية الجديدة. ومما يقوّي فرضيّة العلاقة السببية بين العقوبات والتعطيل، أن هذا الأخير جاء في لحظة نُض۠ج التوليفة الوزارية، هنا وهناك، لعرضها على الثقة البرلمانية، وبعد تذليل العقبات الداخلية بالمساومات والترضيات، أكانت عاديةً أو استثنائية.
في لبنان تحديداً جاء توقيت التعطيل "مفاجئاً" للمعنيين الأساسيين به: رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلّف. لم يستطع رئيس الجمهورية إخفاء مفاجأته وامتعاضه، في ندوةٍ صحافية بمناسبة الذكرى الثانية لولايته، ذاهباً إلى حدّ اتّهام المعطّل (حزب الله) بمحاولة إجهاض "العهد" – أي ولاية رئيس الجمهورية، بالمصطلح اللبناني – فيما كان الرئيس يتوقّع أن يبدأ عهده جدّياً وبالفعل مع هذه الحكومة. ومما زاد المرارة وقعاً أن الإجهاض، أكان عرضياً أو متعمّداً، إنما أتى من جانب حليفه الأول، ذي الفضل العظيم في وصوله إلى سدّة الرئاسة، والذي فرض شغور المنصب لأكثر من سنتين كرمى لعين الجنرال، مقابل توفير الجنرال تغطيةً مسيحية عظيمة الشأن لـ"حزب الله" بعد خروج القوات السورية من لبنان عام 2005 على أثر اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري.
أما رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، فقد فوجىء بدوره أيضاً، لأنه كان مطمئناً مع شريكه رئيس الجمهورية إلى التسويات التي سبقت نُضج التأليف، وفي إطار التسوية الكلّية التي أتت بالرئيسين معاً عام 2016، ثم تجدّدت بعد أزمة ما سُمّي "الاحتجاز في بلاد الحجاز". هذا بالإضافة إلى أن الرئيسين أنكرا وجود عقدة في الأصل اسمها "تمثيل حلفاء "حزب الله" من السنّة في الحكومة العتيدة"- وهي الذريعة المعلنة للتعطيل- مصرّحين بأن الذريعة ما هي إلا "أرنب أخرجه "حزب الله" من جيبه في اللحظة الأخيرة!".
وإذ حبس اللبنانيون أنفاسهم في 10 نوفمبرالجاري، مع خطاب حسن نصرالله الأخير، فقد زاد الانحباس موقف سعد الحريري غداة عودته من باريس بعد ثلاثة أيام، معلناً: "لقد أنجزت ما توجّب عليّ بمواصفات حكومة الوفاق الوطني، وبالتوافق مع جميع الكتل النيابية المعنية.. وليس سعد الحريري مَن يرضخ لشروط "حزب الله"!" تاركاً الأمر- بطريقة أو بأخرى- في عهدة رئيس الجمهورية.
في صعود الرجلين، كلٌ إلى أعلى شجرته، كان لافتاً قول نصرالله بأنه فعل ما يقتضيه واجب الوفاء لحلفائه المخلصين، وأنه يترك الأمر لما يتوافقون عليه مع الرئيس المكلّف، بحوار مباشر.. وكان لافتاً في موقف الحريري إصراره على أنّ الأزمة الحكومية لا علاقة لها بالخارج!..
نعتقد أن هاتين النقطتين اللافتتين لهما علاقة باحتمال إيجاد مخرج، على الطريقة اللبنانية، وبالنظر إلى واقع الحال: بالنسبة إلى "حزب الله"، فقد تناهى إليه، وبصورة لا يخطئها إلا أعشى وأصمّ، أنّ موقفه كان مستغرباً لدى القاعدة المسيحية الواسعة الموالية للرئيس عون. إلى ذلك فإن أصوات الإنذار بحلول كارثة اقتصادية- اجتماعية، أتت من الداخل والخارج، إذا ما استمرّ التعطيل، وأن كل ساعة تمضي في هذا الاتجاه إنما يتحمّل مسؤوليتها "حزب الله"!
في المقابل، بدا واضحاً أنّ سعد الحريري ما زال مراهناً على إمكانية "النأي بالنفس" في الحالة اللبنانية، استناداً ‘لى التكوين اللبناني الذي ينطوي بصورة طبيعية على ممانعة، بل ممانعات، ضدّ مشاريع التدجين الأحادية، كما أنه (أي الحريري) يضع كل تنازلاته- مع وقبل هذه الأزمة الأخيرة- تحت عنوان "التضحيات الواجبة من أجل إنقاذ الدولة".. ولكنّ لتضحيات الحريري خطاً أحمر، إذا ما تجاوزته أصبحت انتحاراً شحصياً.. وهذا ما لا تسمح به الحالة السنّية..
إذن يبقى التعويل على مَخرج يبتدعه رئيس الجمهورية من موقعه الدستوري، ومن "قوّته المكتسبة جرّاء موقفه المتوازن بين الحريري ونصرالله"، كما يقترح البعض. كما ونعتقد أن رئيس الجمهورية مضطرٌ لبذل جهد استثنائي في هذا السبيل، لأن كلّ عهده بات متوقفاً على نجاحه أو فشله في هذه المهمة.
هذا، وفي ما يتعدّى الأزمة الحكومية القائمة، تبقى الحالة اللبنانية رهينة الانحدار الدراماتيكي الذي أصابها جراء الانتخابات النيابية الأخيرة، والتي نقلت لبنان من صورة العيش المشترك إلى المساكنة الطوائفية وسيادة الأحزاب الطائفية القابضة، بما ينطوي عليه هذا الوضع من احتمال سقوط الصيغة اللبنانية، بالقوة أو بالفعل-