الاثنين 2 سبتمبر, 2019
العدد – 4 25/4 - 26/8/2019
تقرير الحالة العربية
يرصد هذا التقرير الدوري تطوّر الأوضاع في المنطقة العربية، بقراءةٍ جيو-سياسية، ومن منظور "نظام المصلحة العربية المشتركة"، في سياق تزاحم أنظمة المصالح الإقليمية والدولية. وهو في عمله إنما يتّخذ من "مبادرة السلام العربية" (قمة بيروت 2002) و"إعلان الرياض" الصادر عن القمة العربية 2007 مرجعيةً أساسية في تقديره للأمور.. هذا مع التفاتةٍ خاصّة إلى الحالة اللبنانية، من منظور العيش المشترك واتفاق الطائف وقرارات الشرعية الدولية الخاصة بلبنان، لاسيما القرار 1701.
أين نظام المصلحة العربية المشتركة الآن وهنا
بين أنظمة المصالح الإقليمية المتصارعة في المنطقة؟
في هذا العدد الرابع من "تقرير الحالة العربية"، نحاول إلقاء مزيد من الضوء على نظام المصلحة العربية المشتركة، للوقوف على "حالته الصحيّة" وسط أجنداتٍ وأنظمة مصالح متصارعة في المنطقة وعليها. وفي تركيزنا هذا لا نُخفي قلقنا من احتمال تبدُّد مصلحتنا العربية في إطار اللعبة القائمة والحراك الجيوسياسي الراهن. كذلك لا نُخفي أن قلقنا إنما يعود إلى ما نراه من بطء ديناميّات التضامن العربي واستحياء مبادراته، أمام لعبة أممٍ لا ترحم، على الصعيدين الإقليمي والدولي، وفيما تندفع القوى الإقليمية الأخرى، لا سيما الإيرانية والتركية والروسية، ودائماً الإسرائيلية، نحو مزيدٍ من التنافس على ما تعتبره "تركة الرجل العربي المريض"!
الإطار العام للحراك الجيوسياسي الراهن في المنطقة العربية.
- رأينا في التقريرين السابقين أن الحراك الجيوسياسي في المنطقة العربية بات محكوماً لأولويات الإدارة الأميركية الجديدة (إدارة الرئيس ترامب)، بتدخّلٍ مباشر، لا بل بمزيد من التدخّل، رغم شعار "الانسحاب"، الموجّه في حقيقة الأمر إلى الداخل الأميركي لاعتبارات انتخابية. وقد تعيّنت هذه الأولويات، وفقاً لتصريحات وزير الخارجية مايك بومبيو، بثلاث:
- التّصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة؛
- تشكيل تحالف استراتيجي شرق أوسطي (ناتو عربي) بقيادة الولايات المتحدة لمواجهة هذا النفوذ؛
- مشروع ما سمّي "صفقة القرن" لحلّ النزاع العربي- الاسرائيلي.
- من خلال رصد المواقف والتصريحات والمبادرات، يمكن القول أنّ هذه الأولويات الثلاث تشكّل "سلّة واحدة" في نظر الإدارة الأميركية، بثلاثة مسارات متوازية، وإن۠ بسرعات متفاوتة. فـ"صفقة القرن" لم تُطرح رسمياً حتى الآن، خصوصاً بمضمونها السياسي، رغم الوعد بإعلانها بعد عيد الفطر الماضي مباشرةً، ورغم انعقاد مؤتمر اقتصادي "اختباري- استطلاعي" في المنامة، تمهيداً لها وترويجاً لفكرتها. و"الناتو العربي" لم يأخذ قِواماً واضحاً ولا تفعّلَ عملياً، رغم إيجابية كثير من "العواطف العربية" حياله والتشجيع الأميركي على قيامه. والتصدّي للنفوذ الإيراني اقتصر من الجانب الأميركي على العقوبات المالية- الاقتصادية، وارتبك من الجانب العربي أمام إشكالية التمييز بين ما هو اعتداءٌ إيراني مباشر على المصالح الأميركية في المنطقة، وبين ما هو اعتداءٌ فقط على المصالح العربية!.. ولا بدّ من القول أنّ الجانب الأميركي هو الذي شدد على هذا التمييز، الأمر الذي شجّع الإيراني على استغلاله إلى أقصى الحدود، بحيث امتنع عن التعرُّض للمصالح الأميركية أو الإسرائيلية بصورة مباشرة، فيما استخدم كل وسائله المتاحة، وأهمّها أذرعه في بعض البلدان العربية، لتوجيه ضربات موجِعة إلى نظام المصلحة العربية في غير مكان، ولو بأسلوب "تسجيل النقاط"؛ وهي غير قليلة.
- الإشكالية المشار إليها أعلاه وضعت مسألة التصدّي للنفوذ الإيراني في إطار سيناريو ملتبس: الإدارة الأميركية "تخنق" النظام الإيراني بالعقوبات المالية والاقتصادية، والنظام الإيراني "يوجِع" المنطقة العربية بالضربات، على أمل أن "تحنَّ" الإدارة الأميركية على "حلفائها العرب"، فتخفّف من غلواء عقوباتها!... وهذا كلُّه تحت سقف "الحرب الممنوعة" في المنطقة بقرار السيد الأميركي.. لكأنّ ما يجري في المنطقة منذ سنوات ليس حرباً! والحال أنّ العقوبات الأميركية القاسية لم تردع ايران عن التمادي في عربدتها ضدّ العرب، لأنّ عماد مشروعها هو مدُّ نفوذها على حسابهم، ولا العربدة الايرانية حيال العرب ردعت الإدارة الاميركية عن التمادي في العقوبات، لأنّ الأولوية الأميركية في مكان آخر غير المصلحة العربية، وبالتالي ليس هناك موجبٌ فعلي للمقايضة!... ومثلُ هذه المفارقة عبّر عنها شاعرٌ عربي قديم بقوله:
هوى ناقتي خلفي وقُدَّامي الهوى وإنّي وإيّاها لمختلفانِ!
وقد تابعه مثلٌ شعبي في بلادنا، بقوله: "الجمل بنيّة، والجمّال بنيّةٍ أخرى!".
- وإذ۠ لم ينفع الضغط الايراني على العرب في دفع الإدارة الاميركية نحو تخفيف العقوبات، كما أنّ الوضع الداخلي الايراني لا يُتيح للنظام الجلوس إلى طاولة مفاوضاتٍ مع الجانب الاميركي بـ"الشروط الاثني عشر" المعلَنة، فقد أضافت ايران إلى ضغطها على العرب ضغطاً على أوروبا؛ وذلك بتهديدها المباشر لحركة إمدادات النفط عبر الممرات الدولية المائية... ويدُها في هذا المجال طائلة ميدانياً، خصوصاً في مضيق "هرمز" وبحر عُمان. بطبيعة الحال يبقى الهدف المركزي الايراني تخفيف العقوبات الاميركية، إن۠ لم يكن رفعُها.. وهذه المرة حاولت ايران استدراج أوروبا إلى جانبها في عملية الضغط، نظراً للحاجة الأوروبية الماسّة إلى الإمدادات النفطية، وتخوّفها من ارتفاع الأسعار بشكل جنوني في حال اندلاع حرب خليجية، بالإضافة إلى استغلال ايران للتباين الاميركي الأوروبي بشأن الانسحاب من الاتفاق النووي المبرم في عهد الرئيس أوباما... وهكذا حبس العالم أنفاسه خلال الشهور الثلاثة الأخيرة على إيقاع "إشاعة" حرب وشيكة في المنطقة!.. فماذا كان الردّ الأميركي على هذه المحاولة الايرانية، وماذا كانت الردود الإقليمية والدولية الأخرى؟
- تلخّص الردّ الاميركي بالدعوة إلى تشكيل قوة عسكرية دولية، بقيادة الولايات المتحدة، لحماية إمدادات النفط والممرات المائية من التهديد الايراني. هذا بالإضافة إلى استمرار ثلاثة: استمرار العقوبات والتلويح يومياً بتصعيدها؛ استمرار دعوة الجانب الايراني إلى مفاوضات بالشروط الاميركية الاثني عشر؛ استمرار الشعار التحذيري: "لا حرب إقليمية في المنطقة، والويل لمن سيبدأها!". وبذلك يمكن القول أن الموقف الاميركي يتلخّص بالدعوة إلى وضع يدٍ دولية على المنطقة، بقيادة الولايات المتحدة، وبشراكاتٍ تُعيّن مقاديرها الإدارة الاميركية نفسها!
- ردُّ الفعل الاوروبي والغربي بوجه عام كان مختلفاً من دولة إلى أخرى: ففي حين أقدمت بريطانيا على بعض الخطوات العسكرية، خصوصاً بعد احتجاز ايران لسفينة ترفع العلم البريطاني، كما "أوحت" بعدم الممانعة في المشاركة تحت القيادة الاميركي، ما نَمَّ - بحسب بعض المراقبين - عن رغبة بريطانية في استعادة حضورها التاريخي في منطقة الخليج، وفي حين أعربت دولٌ أخرى (استراليا وكندا والبحرين وغيرها) صراحةً عن استعدادها للمشاركة بالصيغة الاميركية، فقد تميّز الموقفان الألماني والفرنسي بالممانعة، وبالتعبير الصريح عن تفضيلهما الانضواء في "صيغة أوروبية مستقلّة عن القيادة الاميركية"، بحسب تصريحات ميركل الألمانية وإيحاءات ماكرون الفرنسي. إلى ذلك استمرّ الرئيس الفرنسي في تعليل ايران بإمكانية تخفيف بعض العقوبات، مقابل التزامها الواضح بالاتفاق النووي وإقلاعها عن التهديد بتجاوز حدّ التخصيب المنصوص عليه في الاتفاق. ومن الواضح أن الموقف الفرنسي والألماني، وإلى حدّ ما البريطاني، يناور في منطقة حرجة تقع بين ضغطين: من جهة أولى مطالبة ايران الدائمة بأن تنفّذ أوروبا تعهّداتها بتخفيف العقوبات التجارية، ومن جهة ثانية الضغوط الاميركية المتواصلة لحمل أوروبا على الانحياز كلياً إلى الولايات المتحدة بخصوص الاتفاق النووي وإدارة العقوبات. وفي هذا الصدد يعتقد أكثر المراقبين أن أوروبا على وجه الاجمال لا تملك في النهاية إلا الانحياز إلى الولايات المتحدة؛ وذلك لأسبابٍ موضوعية تتجاوز بعض الرغبات الأوروبية المعاكسة أو المعاندة، لا سيما بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفي ضوء المشكلات الاقتصادية الحادّة في كثير من بلدان الاتحاد.
- يتلخّص الموقف الايراني بعبارات شديدة الحسم شكلاً والمداورة أو المناورة مضموناً:
- "الوجود العسكري الأجنبي في منطقة الخليج لا يمكنه أن يحول دون عدم الاستقرار!"؛ "إذا مُنعت ايران من تصدير نفطها، فلن يكون هناك أي نفطٍ للتصدير في المنطقة!"
هاتان العبارتان الحاسمتان، والممهورتان بنفس الحرس الثوري، تتضمنان تهديداً واضحاً، مفادُه أنّ لإيران من مواقع القوة والنفوذ في المنطقة ما يمكّنها من تهديد الاستقرار رغم كل الإجراءات، ومن إحراق المنطقة برمّتها إذا ما مُنعت بصورة كاملة من تصدير نفطها (وقد استخدم محمد جواد ظريف مؤخراً عبارة "تصفير التصدير").
- إلى جانب هذا الملمح في الموقف الايراني - وهو ملمحٌ لا يُستغنى عنه في "عُدّة الشُّغل" الايديولوجية - كان هناك ملمح المداورة والمناورة، الذي تمثّل بالقول :"أمن الامدادات النفطية لا يوفّره سوى ايران ودول المنطقة"، ثم انتقل إلى القول :"أمن الامدادات النفطية لا يتمّ بدون مشاركة ايران!". ولمّا كان القول بشراكة ايرانية - خليجية يتّسم بكثير من اللامعقولية في الواقع الراهن، وينطوي بالتالي على نفاق ظاهر، فقد انتقلت العبارة الايرانية إلى طلب الشراكة في الاجراءات الدولية، وبقيادة الولايات المتحدة بواقع الحال وطبيعته!... وهذا في تقديرنا هو "بيت القصيد" الايراني بصورة مستمرة.
- علاوةً على تلك الملامح الأساسية في منطق الموقف الايراني ومنطوقه، كانت هناك عبارة :"ايران لن تبدأ الحرب في الخليج، ولكنها ستدافع عن نفسها" (آخر تصريحات وزير الخارجية). وهذه العبارة هي صدىً لتصريحات الرئيس الاميركي بأنه لا ينوي شنّ حرب عسكرية ضدّ ايران. والمهمّ في هذه العبارة، أصلاً وصدىً، أنها ترسم حقلاً للمناورة يعيه الطرفان ويُدركه الآخرون.
يبقى القول حول مجمل الموقف الايراني في الآونة الأخيرة أنه بات موقفاً موحّداً في الخطاب إلى حدّ بعيد، بحيث يصعب التمييز بين توجيهات مرشد الجمهورية (الخامنئي) وإعلانات رئيس الجمهورية (روحاني). وإذا كان هذا "التوحيد" يدلّ على صلابة داخلية، إلا أنه ينمّ في الوقت نفسه عن شعور مشترك بحرج الوضع الايراني في المنطقة، الأمر الذي يتطلب إعمال ما يُشبه "قانون طوارئ) في الخطاب السياسي. وهنا من المفيد التذكير بمسألة أساسية في الحالة الايرانية، وهي أن "الوطنية" في ايران - وهي مرادف للقومية - تعلو على أية اعتبارات أخرى، وتشكّل رقابة صارمة على الاختلاف، قد تفوق الرقابة الايديولوجية، خصوصاً في المسائل المتعلقة بالجوار الإقليمي. ومن الأمثلة المتّصلة بهذه المسألة، منذ "الثورة الخضراء" أوائل التسعينيات حتى الآن، أن الاعتراض الداخلي على فكرة تصدير الثورة لم يكن أيديولوجياً بقدر ما كان وطنياً، على قاعدة أن هذا التصدير "يُفقر ايران، ويذهب بثرواتها الهائلة إلى أذرعها العربية في المنطقة".
مجملُ قولنا في الموقف الايراني، المشفوع بتحدّيات لا تهدأ في اتجاه الدول العربية، وباستفزازات للمجتمع الدولي، أنه (هذا الموقف) يقدّم خدمةً كبرى للتوجه الاميركي نحو وضع اليد على المنطقة، ليس فقط بحكم الأمر الواقع، وإنما أيضاً بموافقة دولية رسمية! بطبيعة الحال ليست هذه الخدمة مجّانية، ولا نظنّ أنها عفويّة. إذ۠ إن منطقها الداخلي، والذي يكاد ينطق هو التالي: اقبلونا في منظومتكم الشرق أوسطية، ولو بشروطٍ من تحت الطاولة، طالما أننا نتقاطع موضوعياً عند نقطة "تهميش المصلحة العربية"!
- ماذا عن الموقف العربي من الدعوة الاميركية، ومن "سلّة الأولويات الاميركية" في إدارة الصراع؟
من نافل القول أن الدعوة الاميركية لتشكيل قوة دولية لا تقتضي إدخال قوات اميركية جديدة إلى المنطقة، ولا تعديلاً جوهرياً في استراتيجية الحضور الاميركي، على غرار ما يُطلب من حلفائها الغربيين. ذلك أن الحضور العسكري الاميركي قائمٌ فعلاً، وبما يكفي لتفوّقه الاستراتيجي على مستوى الشرق الاوسط. وهذا ما تدركه البلدان العربية، بمعاينة القواعد الاميركية على أراضيها وفي مياهها. بالتالي من المفهوم أن يكون الموقف العربي العام من الدعوة هو التصديق على أمر قائم بالفعل، وبصورة "وضع يدٍ دولية على المنطقة، بقيادة الولايات المتحدة، وبشراكات تُعَيّن مقاديرها الإدارة الاميركية نفسُها" كما رأينا. وإذا كانت المسارعة إلى الاعلان عن الموافقة قد اقتصرت حتى الآن على البحرين، إلا أن ذلك لا يعني إحجام أو تمنّع البلدان الأخرى، لا سيما تلك المرتبطة بمعاهدات أمنية مع الولايات المتحدة، فضلاً عن القواعد العسكرية. نعتقد أن "التريُّث" العربي إنما يعود إلى مسألتين: موقع اسرائيل من مجمل الاستراتيجية الاميركية في هذه المرحلة، بأولوياتها المشار إليها سابقاً، ومكانة المصلحة العربية بين أنظمة المصالح المتصارعة في المنطقة.
في المسألة الأولى: إذا استثنينا شعار "مواجهة النفوذ الايراني في المنطقة العربية"، الذي قد يجد فيه الجانب العربي ما يسوّغ الانضمام إلى التحالف المقترح، فإنّ أبرز ما يُحرج الموقف العربي ويحمله على التريُّث هو حضور اسرائيل - المفروض وليس الافتراضي - في هذا التحالف، من دون وجود أية مبادرة اميركية لحلّ النزاع العربي-الاسرائيلي على أسس عادلة. على العكس من ذلك ثمة مبادرات اميركية منافية للإجماعات الدولية بهذا الشأن، وذات اهتمام حصري بالرواية الاسرائيلية. وليس محض صُدفة أن يتباهى الرئيس ترامب مؤخراً (22/8/2019) بقوله: "ما قدّمته شخصياً لاسرائيل من دعم، لا يدانيه أي رئيس اميركي سابق"، وأشار إلى اعترافه بإسرائيلية القدس والجولان وإلى مواجهة ايران، مستطرداً يأن العناية الإلهية "اختارته" لمثل هذه المهمة، ولمهمةٍ أخرى أساسية هي مواجهة الخطر الاقتصادي الصيني! في الوقت ذاته تصرّ اسرائيل - وتدعمها الإدارة الاميركية - على اعتبار نفسها شريكاً أساسياً في مجمل المبادرات الأمنية والاقتصادية المطروحة اميركياً للمنطقة، من مؤتمر المنامة الاقتصادي إلى مبادرة أمن الخليج الأخيرة. وقد أشرنا في تقريرنا الأخير إلى أن جوهر الحرج العربي من التوجّه الاميركي الراهن، إنما يكمن في كون هذا التوجّه مسقوفاً بما سمّي "صفقة القرن"، التي لم تترك مجالاً حتى الآن لأي تفسير غير اسرائيلي.
في المسألة الثانية، وهي مكانة المصلحة العربية بين أنظمة المصالح المتصارعة في المنطقة: هذه المسألة لا تقلُّ إحراجاً عن الأولى. فإذا نظرنا إلى لوحة الصراع في المنطقة العربية، لا سيما في النقاط الساخنة منها (سوريا، العراق، فلسطين، اليمن ولبنان)، نجد أربعة أنظمة مصالح ، غير عربية، تتصارع في المنطقة وعليها، هي: الايراني والاسرائيلي والتركي والروسي، فضلاً عن الاميركي المتسيّد بلا منازع... فما هي طبيعة العلاقة بين هذه القوى؟
- فيما بين القوى الأربع (ايران، اسرائيل، تركيا وروسيا) ثمة تنافس، ولا عداءً جوهرياً، رغم الثرثرة الايديولوجية العدائية بين ايران واسرائيل. ومعلومٌ أن الروسي والتركي يُعدّان من الضّامنين لأمن اسرائيل. وقد زاد من انتفاء العداء التقاءُ كلٍ من الايراني والروسي والاسرائيلي على أطروحة "تحالف الأقليات الدينية والعرقية في المنطقة ضدّ الأكثرية العربية السنّية".
- فيما بين كلٍ من القوى الأربع والسيّد الاميركي، ثمة التماسٌ لحصّة في لوحة الصراع، ولا تنافسَ حقيقياً مع الاميركي، رغم ثرثرة العودة إلى تقسيمات الحرب الباردة وتعدُّد القطبيات.
- وفيما بين كلٍ منها والجانب العربي، ثمة شهوةُ الغزو والغنيمة، ولا شيء غير ذلك.
سؤالنا هو: أيُّ حضور لنظام المصلحة العربية في هذه اللوحة؟
لا يَسَعُ المراقب الموضوعي إلا القول بأن هذا النظام هو الأقلُّ حضوراً!.. لماذا؟ الجواب بكل بساطة: لأن هذا النظام ما زال قيد التمثُّل والتشكُّل، وفي نطاق التمنيات، ولم يتجسّد بعد في استراتيجية عربية موحّدة تحملها "منظومة قوّة". على العكس من ذلك، فإن السعي في هذا الاتجاه اصطدم "بتفلُّتاتٍ" كثيرة خلال العقد الأخير، سواءٌ على مستوى جامعة الدول العربية أو مجلس التعاون الخليجي أو صيغ التعاون الأخرى.
لسنا في صدد التقليل من أهمية الجهود التي بذلت في هذا السبيل، خصوصاً ما بين قمة الرياض 2007 وقمّتي تونس ومكة 2019. لقد أطلق اعلان الرياض 2007 تصوراً جيداً لنظام المصلحة العربية، مشفوعاً بمقترحات عملية، كما أطلق تعريفاً في غاية النُّضج والتقدّمية والانسانية لمفهوم "العروبة"، تجاوز كل الادبيات الرسمية والايديولوجية السابقة بهذا الخصوص. رغم ذلك فإن معظم قرارات القمة لم تتجسّد في الواقع العربي إلا بخطوات بطيئة وخجولة.. حتى إذا ما وصلنا إلى قمة الدوحة عام 2013، رأينا محمود أحمدي نجاد "ضيف شرفٍ عليها، ومرشحاً لعضوية الجامعة العربية"، باقتراح من قطر المحروسة! هكذا، وبدلاً من أن تكون الجامعة حارساً يقظاً وصارماً للمصلحة العربية، أصبحت في نظر البعض مكاناً "لمزادات علنية"! كذلك فإن "استيلاء طهران على أربع عواصم عربية" - بحسب تصريحات قادتها غير البعيدة عن الواقع - أدّى إلى طرد النظام السوري من الجامعة، وإلى تصريح أمينها العام في القمة الأخيرة بأن "عودة سوريا تكون ممكنة عندما نتأكّد من أن هذا المقعد لن يشغله الايراني". ولا ننسى تحفُّظات بغداد وبيروت المتكررة، حتى أصبحت هاتان العاصمتان على شفير الخروج في بعض الأوقات. أما قطر فقد انسحبت "عملياً" من مجلس التعاون الخليجي، كما أن أميرها انسحب من اجتماع القمة العربية الأخيرة حين قال الامين العام للجامعة بأنّ "العداء التركي للمصلحة العربية لا يقلّ عن العداء الايراني"!.. ولا يخفى أن كلام الامين العام إنما كان تعبيراً عن مزاج رسمي عام، إن۠ لم نقل عن قناعة. ذلك كلّه فيما لا يزال اقتراحان سابقان عصيّين على التقدّم: اقتراح أن تكون قرارات الجامعة ملزمة، وفقاً لموقف الأكثرية بآلية التصويت الديموقراطي، واقتراح تطوير صيغة مجلس التعاون إلى صيغة "اتّحاد".
نعم، كان انعقاد القمم الثلاث الأخيرة (الخليجية والعربية والاسلامية) في مكّة المكرّمة مبادرةً جريئة وصائبة على المستوى الدبلوماسي. كذلك استطاعت هذه القمم أن تصوغ موقفاً واضحاً خلف الحقّ الفلسطيني والقيادة الفلسطينية الشرعية، لا سيما بخصوص "صفقة القرن"، وإن۠ كان هذا الموقف يحتاج إلى ما يؤكد صدقيته عملياً. إذ۠ ليس مقبولاً استمرار المنطق الاميركي-الاسرائيلي القائل بخصوص هذه الصفقة: "قافلتُنا تسير... وأنتم تسجّلون الاعتراض!". بيد أن نجاح القمم الثلاث يبقى بين مزدوجين، طالما أنّ أهم قرارات القمة العربية الأخيرة ("تشكيل لجنة لوضع خطة عملية من شأنها حماية أمن المنطقة والمصلحة العربية") لم يُفَعَّل حتى الآن بصورة معايَنة وملموسة.
قصارى قولنا في مسألة التردُّد أو التريُّث العربي، وبعيداً عن أية نزعةٍ لإلقاء المسؤولية على "المؤامرة"، هو ما أثبتناه في تصديرنا لهذا التقرير تحت عنوان "أين نظام المصلحة العربية المشتركة الآن وهنا...؟": "خشيتُنا كبيرة من أن تتبدّد المصلحة العربية في إطار اللعبة القائمة والحراك الجيوسياسي الراهن. وهذه الخشية إنما تعود إلى ما نراه من بطء ديناميّات التضامن العربي واستحياء مبادراته، أمام لعبة أممٍ لا ترحم على الصعيدين الإقليمي والدولي، وفيما تندفع القوى الإقليمية الأخرى، لا سيما الايرانية والتركية والروسية، ودائماً الاسرائيلية، نحو مزيد من التنافس على ما تعتبره "تِركة الرجل العربي المريض".
وربطاً بهذه الخلاصة الأخيرة، يهمّنا القول بأن حقيقة الصراع في المنطقة ليست بين إرهابٍ وقوى مناهضة لإرهاب - فقد انكشفت ذرائعية هذه اللعبة - ولا بين عقائد وايديولوجيات مختلفة - فقد ذهب عصر الايديولوجيا إلى غير رجعة، على الأرجح - وإنما هي بين نظام المصلحة العربية، بمفهومٍ غير قومي على شاكلة الأنماط السابقة، وبين أنظمةِ مصالح إقليمية، محمولةٍ على نزعاتٍ قومية متعصّبة، وإن۠ توسّلت العقيدةَ الدينية بصورةٍ أو بأخرى.
متابعات الحالة العربية موضوعياً
خلال الشهور الثلاثة الأخيرة.
- نتابع في هذا القسم رَص۠دَ تطورات الحالة العربية في المواضع الأكثر سخونةً، لا سيما في سوريا والعراق وفلسطين واليمن ولبنان، مضافاً إليها - كما في تقريرنا السابق - تطورات السودان والجزائر وليبيا، ودائماً من منظور المصلحة الوطنية في هذه البلدان، متوافقةً مع المصلحة العربية العامة، وكذلك في ضوء قراءتنا للحراك الجيوسياسي الراهن في المنطقة، على نحو ما تقدّم في القسم الأول من هذا التقرير. ومن الطبيعي أن تبدأ متابعتنا في هذه الفترة من حيث انتهت الأمور في الفترة السابقة، ومن دون استعادة الحكاية منذ "بداية الخلق وأصل التكوين".
أبرز تطورات الحالة السورية في هذه الفترة: الهجوم السوري- الروسي المشترك على أرياف إدلب وحماة في الشمال السوري والشمال الغربي خصوصاً.
- كان واضحاً أن هدف القيادتين السورية والروسية هو استعادة السيطرة على هذه المنطقة من الجماعات المسلحة المدعومة تركياً بصورة أساسية. وقد تمكن هذا الهجوم من السيطرة على معظم المنطقة أواخر الشهر الحالي، ودخول مدينة خان شيخون الاستراتيجية بحسب الأخبار المتطابقة من مختلف الأطراف. وبذلك أصبح طريق إدلب-حماة-دمشق الدولي تحت سيطرة النظام السوري.
- حدث ذلك بعد تدمير هائل في العمران والمرافق العامة، ونزوح نحو مليون من السكان جرّاء غارات الطيران الروسي والسوري المتواصلة، بحيث أصبحت المنطقة منكوبة بالفعل، بحسب تقارير الجمعيات الانسانية، كما أصبح نحو خمسة ملايين من سكان المدن والأرياف الشمالية في حالة عوز فادح لمقوّمات العيش وعلى شفير النزوح. وحدث ذلك أيضاً رغم اتفاق "وقف التصعيد" المعقود سابقاً بين كل من روسيا وتركيا وايران. هذا وقد أشارت تقارير صحافية في هذه الفترة إلى أن روسيا أدخلت قوات من المشاة إلى أرض المعارك في سوريا، نظراً لعجز الجيش السوري في هذا المجال، ولمحدودية القدرة الايرانية على التدخل في الشمال السوري.
- هذه المسألة الأخيرة (التدمير والنزوح الممنهجان) أشارت بقوة، بحسب المراقبين، إلى "خطة التغيير الديموغرافي" التي يمضي فيها النظام السوري منذ مدّة غير قصيرة، وبمساهمةٍ روسية حاسمة، فضلاً بطبيعة الحال عن "التغيير الديموغرافي" الذي يساهم فيه الحرس الثوري الايراني وحزب الله اللبناني في مناطق نفوذهما على الاراضي السورية.
- الهجوم الروسي- السوري الأخير جعل الجانب التركي يتحصّن في مواقعه، ويعزّزها بآليات وجنود إضافيين، مصرّاً في الوقت نفسه على تنفيذ مشروع "المنطقة الآمنة شمالاً" بعمق أربعين كيلومتراً إلى الجنوب، وبالتفاوض مع الإدارة الاميركية التي لا تسمح بعمقٍ يتجاوز خمسة إلى عشرة كيلومترات، بحيث تبقى قوات سوريا الديموقراطية الكردية، والمحميّة أميركياً، خارج نطاق السيطرة التركية. وفي هذا الصدد ما زال التفاوض التركي- الاميركي متواصلاً. ولئن تباين الموقفان حول مسألة "المنطقة الآمنة"، إلا أنهما - على ما يبدو - متّفقان على "تحديد ولجم التمدُّد الروسي –السوري شمالاً".
5.ويربط المراقبون إصرار الجانب التركي على "منطقة آمنة واسعة" بالنزوح السوري الكبير إلى تركيا جرّاء الأزمة السورية المتمادية. إذ تستطيع المنطقة الواسعة، من وجهة النظر التركية، استيعاب كل النزوح السوري المعارض للنظام - وما من نزوحٍ سوري إلا وهو معارضٌ للنظام - كما تخفّف من وطأة النزوح إلى الداخل التركي، لا سيما في ظلّ الأزمة الاقتصادية التركية. وفي هذا الصدد اتّخذت السلطات التركية إجراءات صارمة بحق العمالة السورية في تركيا، لدرجة أن المعارضة التركية (الخارجة منتصرةً من الانتخابات البلدية الأخيرة) اتّهمت أردوغان بالعنصرية ضدّ السوريين النازحين.
- بيد أنّ التوافق التركي- الاميركي المشار إليه أعلاه، لا يحجب مسألةً في غاية الأهمية، وهي غضّ النظر الاميركي عن تمادي روسيا في دعم النظام السوري وتوسيع رقعة نفوذه باستمرار. وهو دعمٌ يتمّ بصورة منهجية على قاعدة أن "كلّ معارضٍ للنظام عو إرهابيّ"! وهذه المسألة تنعكس مباشرةً على وضعية المعارضة السورية في إطار التفاوض للاتفاق على مواصفات المرحلة الانتقالية سياسياً. فرغم إصرار القيادة الروسية على شعار "الانتقال السريع"، إلا أن سلوكها وسلوك النظام السوري يجعلان من الفريق المعارض طرفاً افتراضياً لا فعلياً.. وما من شك في أن هذه هي حال المعارضة السياسية السورية راهناً.
- ومن مفارقات المشهد السوري، رغم تقدّم النظام بدعم روسي وايراني كبيرين، أنّ هناك ثلاثة أهداف أساسية ما زالت بعيدة جداً عن التحقُّق: الاتفاق السياسي على المرحلة الانتقالية، عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، وإعادة إعمار سوريا. ومن الملاحظ أن هذه الأهداف الثلاثة مترابطة ومتشارطة، من وجهتي النظر الموضوعية والدولية على حدّ سواء.
- في جانب آخر، لم تتوقّف الضربات العسكرية الاسرائيلية في هذه الفترة ضدّ مواقع تابعة لايران وحزب الله في سوريا.. وقد استخدمت اسرائيل طائرات مسيّرة هذه المرة، إلى جانب الطيران الحربي. تلك الضربات المتواصلة تريد القول بأن اسرائيل حاضرة على الدوام في المشهد السوري، وأنها معنيّة بحدود التقاسم الواقع على الأرض. هذا في ظل تجاهلٍ روسي، وتأييد اميركي ("حقّ اسرائيل في الدفاع عن نفسها" بحسب آخر تصريح لوزير الخارجية الاميركي)، وفي أجواء تصعيد ايديولوجي من الجانبين الاسرائيلي والايراني، يحتاج إليه الجانبان!
- خلاصة المشهد السوري في هذه الفترة، أنّ هناك بعض التقدّم والتراجع على الأرض، كما كان يحدث دائماً، إنما تحت سقف الستاتيكو القائم منذ سنوات، والمتمثّل بتوزّع مناطق النفوذ بين الروسي والايراني والتركي والاسرائيلي. كذلك لم يتغيّر شيء في الدور الاميركي، بوصفه "ضابط الايقاع"، الشديد السطوة، بأقلّ كلفة ممكنة... وفي هذا المشهد لا وجود للاعب العربي!
تمحورت الشواغل العراقية في هذه الفترة حول مسألتين مترابطتين: النأي بالنفس عن التجاذب الايراني- الاميركي في العراق، ومسألة احتواء ظاهرة الحشد الشعبي المتغوّلة.
في المسألة الأولى:
- رأينا في التقرير السابق أن حكومة عادل عبد المهدي، باتفاقٍ كامل مع رئاسة الجمهورية، وتوافق مع الأكثرية النيابية، تجرّأت على إشهار موقف "الحياد" بين الولايات المتحدة وايران، مؤكدة أن "مصلحة العراق الوطنية تتقدّم على أية اعتبارات أخرى". وهذا الموقف حمله عبد المهدي شخصياً إلى القيادتين الايرانية والاميركية، فضلاً عن التصريحات العلنية.
- يتّصل بهذا الموقف مبادرتان عراقيتان في هذه الفترة، رمتا إلى توكيد "التوازن" في الموقف بين الطرفين: الأولى، الاندفاع نحو العالم العربي؛ والثانية، الترشُّح لأداء دور "الوساطة" بين الجانبين الاميركي والايراني، توكيداً للحياد، و"عَر۠ضاً للخدمات".
- في المبادرة الأولى، عقدت الحكومة العراقية مع المملكة السعودية مجموعة اتفاقيات وُصفت بالتاريخية، على الصعيدين الاقتصادي والتنموي، كما وثّقت العلاقة مع مصر بمزيد من التعاون، ونجحت في تجاوز اشكاليات أساسية في العلاقة مع الكويت على خلفيّة الأزمة المتمادية بين البلدين منذ حرب الخليج الثانية. إلى ذلك استطاعت إلى حدّ ما، وبتفهُّمٍ عربي، تجاوز محطات حرجة في إطار جامعة الدول العربية.
- في المبادرة الثانية (الوساطة)، اندرج المسعى العراقي في جملة المساعي التي قامت بها دولٌ أخرى، من مثل اليابان وسويسرا والكويت وعُمان، وفي حدود نقل رسائل متبادلة بين الطرفين. هذا المستوى من "الوساطة" يرحّب به الطرفان، وإن۠ لم يكن مجدياً، طالما أنه يوحي بعدم انقطاع "شعرة معاوية"، وبعدم الوصول إلى نقطة اللاعودة في المواجهة.. ماذا وإلا فإن الطرفين يتبادلان عملياً الرسائل، بالتصريحات والمواقف المعلنة، حول أكثر من مسألة، كما رأينا في هذا التقرير حتى الآن. وعلى أي حال فإنّ كل ما يأمله العراق من الوساطة لم يكن يتعدّى إشهار حياده، أو بالأحرى رغبته بالحياد.. وهذا ما سيكون موضع اختبار من خلال المسألة التالية والمتعلّقة بالحشد الشعبي.
في مسألة الحشد الشعبي:
- فكرة احتواء الحشد الشعبي، من خلال ضمّه إلى الجيش العراقي وحلّ تشكيلاته العسكرية، طرحها رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي، وروّج لها آنذاك بخطابين: عَلَني على الملأ، وجانبي في الكواليس. أما الخطاب العلَني فمفادُه أن هؤلاء يستحقون التكريم وتوفير ضمانات العيش، بعدما تمّ "القضاء على داعش" بمساهمتهم المشكورة، خصوصاً أولئك الذين لبّوا نداء المرجعية الدينية (النجف) منذ البداية. أما خطاب الكواليس فكان موجهاً إلى مروحة واسعة من المعترضين على "تحكُّم ايران بالحشد الشعبي"، كما على "تغوّل الحشد في السياسة والاقتصاد". والحال أن جهود العبادي بهذا الصدد اقتصرت على بعض توجيهات إدارية، وووجهت بشدّة من جانب "شبكة النفوذ العسكري- السياسي- الاقتصادي" التي يقف خالفها قائد فيلق القدس الايراني. وهكذا غادر العبادي رئاسة الحكومة من دون أن يحقّق شيئاً مذكوراً على هذا الصعيد.
- واستمر الوضع على هذه الحال مع حكومة عادل عبد المهدي التي تباطأ اكتمالها لما يزيد على الشهرين، بسبب التجاذب الايراني- الاميركي في العراق. ومع أن هذه الحكومة اكتملت أخيراً بتلبية مطلب الحشد الشعبي، وهو الحصول على وزارة الدفاع، إلا أن ذلك لم يخفّف من غلواء الجانب الايراني الذي ذهب بعيداً في الامساك ببعض تشكيلات الحشد، ودفعها إلى مقاومة "قرار الاحتواء" الذي أشهره عبد المهدي مجدداً. وقد جاء ذلك بالتزامن مع الفصل الراهن من أزمة المنطقة، وهو فصل "إمدادات النفط" عبر الممرات المائية من وإلى الخليج.
- تمثّلت "مقاومة الاحتواء" بجملة مطالبات وتوجُّهات من جانب الحشد الشعبي، أبرزها التالية: الإصرار على توسيع مهمّات الحشد في اتجاه الأنبار والحدود العراقية- السورية، بالتزامن مع إشاعات حول "عودة داعش" - التركيز الإعلامي على هشاشة المؤسسة العسكرية الوطنية، وانتشار الفساد فيها - المطالبة بأن يتوفّر لمواقع الحشد الشعبي ومقرّاته مظلّة حماية صاروخية؛ وفي هذا الصدد طالب الحشد الحكومة العراقية بشراء منظومة صواريخ (S400) الروسية! - وصولاً إلى تصريح أحد قادة الحشد مؤخراً بأنه "لم تعد ثمة حاجة إلى الجيش العراقي، وينبغي حلّه" مقابل المطالبة السياسية والشعبية الواسعة بحلّ الحشد.
- آخر صورة في المشهد العراقي بهذا الصدد هي التالية: صرّح مصدر عراقي رسمي بأن رئيس الحكومة عادل عبد المهدي بعث برسالة غير مسبوقة إلى القيادة الايرانية مفادُها: "لن نسمح باستخدام العراق، وسندافع عن حقوقنا!" (وكالات الانباء). وفي الخبر أن هذه الرسالة حملها كلٌ من مدير مكتب عبد المهدي أبو جهاد الهاشمي ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض. وقد أبلغ الاثنان الجانب الايراني أنّ "أي تهديد للمصالح الغربية في العراق، وخصوصاً الاميركية منها، سيُلحق ضرراً كبيراً بالعملية السياسية وعمل الحكومة". كذلك أوضح الفيّاض والهاشمي أن "في العراق ضغطاً شعبياً كبيراً رافضاً لمواقف الحشد التي تهدّد ما تبقّى من استقرار ينعم به العراق". وقد جاء هذا الكلام الأخير رداً على بيان رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، الذي اتّهم اميركا واسرائيل بأنهما وراء الضربات الأخيرة التي تعرّض لها الحشد. (26/8/2019).
- إذا كان ثمة من دلالة اساسية في هذه الصورة الأخيرة من المشهد العراقي، فإنها لا تقتصر على المدى الذي بلغه شطط الحشد، بدفع ايراني، وإنما تشير أيضاً إلى حرج الموقف الايراني في العراق، بمواجهة إجماعات سياسية وشعبية متنامية، وذات منحى وطني سيادي شديد الوضوح. وفي تقديرنا أن هذا المنحى هو المعوّل عليه في الحفاظ على المصلحة الوطنية العراقية، المنسجمة مع المصلحة العربية المشتركة.
مفارقةُ الموضوع الفلسطيني أنه ذو مكانة حاسمة في كلّيات الصراع القائم في المنطقة ونهائياته، ولكنّه اليوم هامشيُّ التأثير في مجريات الصراع، سواءٌ البعيدة عن فلسطين في الخليج والعراق واليمن، أو تلك القريبة جداً في سوريا ولبنان!.. ومردُّ ذلك في تقديرنا إلى ثلاث وقائع كبرى: انقلابٌ كامل في الموقف الاميركي على مشروع السلام العادل؛ انشغالٌ كامل للبلدان العربية في مشكلاتها الذاتية، التي تتراوح بين حدّ الأزمة السياسية - الاقتصادية - الاجتماعية الشديدة وحدّ الحرب الداخلية الطاحنة؛ ضررٌ كبير بالمسألة الفلسطينية، ألحقته استراتيجية التوسّع الايراني في المنطقة العربية. وهذه الواقعة الثالثة تنطوي بدورها على مفارقة: إذ۠ يتمّ الإساءة الايرانية إلى فلسطين تحت شعار "تلبية نداء فلسطين بالمقاومات والممانعة"، فيما لم تُنتج تلك المقاومات، على الطريقة الايرانية وبقيادتها، سوى حروب أهلية في بعض المجتمعات العربية، ومن بينها المجتمع الفلسطيني!
- في سياق تلك الوقائع الثلاث أتى مشروع "صفقة القرن"، الذي لم تملك القيادة الوطنية الفلسطينية سوى رفضه جملةً وتفصيلاً، ورفض الحوار بشأنه أو التفاوض، لأنه يُلغي المشروع الوطني الفلسطيني، ويستبدل به ترتيبات اقتصادية في غزة و وإدارية في الضفة مع الاردن! وهذه الترتيبات المقترحة، بحسب ما تسرّب حتى الآن من المشروع، مع استمرار عمليات التهويد والاستيطان والقضم، بمباركة اميركية غير مسبوقة، لم تخفّف من وقع صدمة "الصفقة" المقترحة، بل أكّدت مقصدها، وهو إلغاء الموضوع الفلسطيني من الأساس.
- ما ملكه الموقف الفلسطيني، وهو تسجيل الرفض المطلق والمبدئي، تراصف خلفه الموقفان العربي والاسلامي، لا سيما في قمّتي مكّة الأخيرتين. هذا المقدار "المبدئي" كان كافياً لإعاقة مشروع الصفقة، والتريُّث الاميركي في الاعلان عنه رسمياً، رغم المواعيد التي حُدّدت لهذه الغاية. هذا مع العلم أن الردّ الفلسطيني - العربي - الاسلامي لم يقترن بمبادرات وتحرُّكات ملموسة في الاتجاه الآخر. وفي هذا الصدد ما زلنا على تقديرنا السابق بأن التريُّث الاميركي الحالي لن يمنع الاسرائيلي والاميركي من المضيّ في محاولة تثبيت مضامين الصفقة بالوقائع والمداورة، على قاعدة "قافلتنا تسير، وأنتم تسجّلون الاعتراض!"، طالما لم تتمّ ترجمة الرفض المبدئي بخطة وحراك عمليين في مختلف الاتجاهات.
- في الوضع الداخلي الفلسطيني خلال هذه الفترة، استمرت سياسة التهويد والقضم والاستيطان الاسرائيلية، كما استمرّ الخلاف الفلسطيني- الفلسطيني ما بين "حماس" والسلطة الوطنية، باستثناء اللقاء على "رفض الصفقة". وإذ۠ اتّخذت "حماس" من هذا اللقاء على الرفض سبيلاً لإعادة رفع شعار "التخلّي عن نهج المفاوضات"، فإن السلطة الوطنية - التي لا تجد إطاراً عربياً مسانداً وحاضناً بصورة عملية ومجزية - اقتربت من الطرح الحمساوي. ظهر ذلك من خلال تهديد الرئيس محمود عباس بـ" التخلّي عن كل الاتفاقيات المعقودة مع اسرائيل في إطار أوسلو". والحال أنّ ما هدّد به الرئيس الفلسطيني هو قائمٌ فعلاً من الجانب الاسرائيلي! من جهة أخرى، وباستثناء الصدامات الدورية حول الأقصى، فإنّ التوتّرات العسكرية بين اسرائيل و"حماس" قد تراجعت نسبياً في هذه الفترة، خصوصاً مع استحقاق دفعة مالية جديدة من الإمداد القطري. وهذه المرة جاء المبعوث القطري إلى غزة حاملاً هبات نقدية لعشرات الآلاف من العائلات الفلسطينية.
- إلى ذلك كان لافتاً قرارُ الرئيس الفلسطيني "تسريح" جميع مستشاريه! وإذ۠ ذهب بعض المتابعين في اتجاه ردّ الأمر إلى "أزمة مالية"، فإن مصادر فلسطينية مطّلعة عن كثب أعربت لـ"تقرير الحالةالعربية" عن تقديرها القويّ بأن هذا القرار "سياسي في المقام الأول، ويتّصل بالجدل القائم حول خيارات السلطة الفلسطينية في هذه المرحلة، بما يُتيح للرئيس الفلسطيني حرية انتقاء المساعدين الموثوقين".
- في مجمل الحالة الفلسطينية الواقعة تحت حصار غير مسبوق، نكرّر تقديرنا بأن الخروج من هذا المأزق يتوقّف على قيام سويّة عربية تضامنية، قادرة على التعامل مع الأحداث الكبرى في المنطقة، والتأثير على اتجاهها العام، بدلاً من وضعية الانفعال وردّ الفعل.
مستجدُّ الحالة اليمنية في هذه الفترة هو انكشافُ ثغرة خطيرة في صيغة التحالف العربي (السعودية، الامارات، الشرعية اليمنية والحراك الجنوبي في عدن) بوجه الانقلاب الحوثي. هذا فيما كانت ايران تستخدم الحوثيين بصورة غير مسبوقة من خلال توجيه ضربات يومية، بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، إلى المملكة السعودية، من دون تمييز بين أهداف مدنية وعسكرية ونفطية، وفي حين ارتفع منسوب التبنّي الايراني للحوثيين إلى درجة الحديث عن إمكانية "افتتاح سفارة حوثية في طهران"!
- في الوقائع: استيلاء الحراك الجنوبي في عدن على مقرّات الحكومة الشرعية، بما في ذلك قصر الرئاسة، واندلاع حملة اتّهامات متبادلة بين الجانبين: من جهة أولى، اتّهم الرئيس اليمني عبد ربّه منصور هادي الحراك الجنوبي "بالانقلاب على الشرعية باتجاه انفصالي، وبدعمٍ من جانب الامارات العربية" ذات الوجود العسكري الوازن والمركّز في عدن. من جهة ثانية، ادّعى الحراك الجنوبي أن كلّ قام به لم يكن استيلاء على مواقع شرعية، بل كان حمايةً وتحصيناً لها، باعتبار أن قواته معترفٌ بشرعيتها من جانب التحالف العربي والحكومة اليمنية. وفي الوقت نفسه اتّهم الحراك الجنوبي الرئيس اليمني "بتسليمه صنعاء إلى الحوثيين، وبعدم فعالية الجيش في مواجهتهم".. إلى غير ذلك من الاتهامات المتبادلة. يشار أيضاً إلى أن هذا المستجدّ سبقته ورافقته تقارير صحافية وإعلامية من جانب البروباغندا المناهضة للتحالف السعودي- الاماراتي، مفادُها أن "الامارات تُعيد النظر في مستوى وحجم مشاركتها في اليمن".
- لا جدال في أن انفجار هذا الخلاف، بشكله وتوقيته، شكّل ثغرة كبيرة في جدار المواجهة العربية للنفوذ الايراني في اليمن، لناحية تشتيت الجهود وانحراف وجهتها عن الهدف المركزي... وهذا ما ادركته السعودية على الفور، واستخدمت كل دالّتها لوقف التدهور، بما في ذلك ما "يشبه الأمر" بإخلاء المراكز المستولى عليها، داعيةً في الوقت نفسه جميع الاطراف إلى الحوار في المملكة وبإشرافها. كذلك استوعبت الامارات الموقف على الفور، وقد عبّر عن ذلك الوزير قرقاش في آخر تصريحاته بأن "التحالف مع السعودية وجودي ومصيري، ولا شيء يحوّل الامارات عن التزام هذه القناعة". ومع أن جميع الاطراف وافقت على الدعوة السعودية دون تردّد، إلا أن الحوار لم يبدأ حتى كتابة هذا التقرير، لأن الشرط السعودي كان "إخلاء المراكز قبل الحوار". وبالفعل حملت أخبار 27/8/2019 عودة سيطرة قوات الحكومة على عدن.
- لا يتميّز اليمن بتضاريسه الجغرافية الاستثنائية فحسب، ما يجعل المعارك على الارض صعبة الحسم، بل يتميّز أيضاً وخصوصاً بتضاريسه القبلية والعشائرية والسياسية والجهويّة، وتتّصل بهذه الأخيرة (الجهويّة) المشكلة القائمة تاريخياً بين الشمال والجنوب، رغم أن الرئيس الحالي جنوبي الانتماء. والظاهر أن التوجّه السعودي، بموافقة اماراتية دون تحفُّظ، إنما يقوم على ترتيب الأولويات. وذلك بدعوة الاطراف جميعاً إلى تقديم المواجهة مع الخصم الحوثي (وبالتالي الايراني) على التناقضات الأخرى الداخلية. فإذا كان الحوثيون قد تمتّعوا بهامشٍ كبير من الصمود والمناورة جرّاء التعقيدات الإقليمية والدولية التي تكتنف الحالة اليمنية، فكيف إذا ما أُضيف إلى رصيدهم تصدُّع الجبهة المقابلة؟!
- بطبيعة الحال هذا لا يعني إمكانية "إلغاء المؤجّل"، لأنه يبقى دائم الكمون، وحتى الحضور أحياناً، في جاري التفاصيل. ومن هنا أهمية أن تتوجّه عناية التحالف العربي أيضاً إلى معالجة التعقيداتالداخلية، في إطار أطروحة شاملة لوضع اليمن مستقبلاً، من دون التعويل فقط على التمايز القبلي. وفي تقديرنا أن الطرح الفدرالي هو الأنسب للحالة اليمنية، لأنّ من شأنه أن يُخرج اليمن من لعبة الاستيلاء والاستيلاء المضاد على السلطة المركزية، بصورة دورية ومستدامة على مدى عقود. وبالتوازي مع العناية بهذا الشأن، يبدو من الضروري - بحسب متابعتنا للوضع ومتابعات المراقبين - تحسين الأداء اليمني المواجه للنفوذ الايراني، بحيث لا يعتمد هذا الأداء بصورة شبه كلّية على التدخُّل السعودي- الاماراتي. ذلك أن الوضع القائم منذ سنوات يشكّل حالة استنزاف مخيفة للمجتمع اليمني كما للتحالف العربي.
تمحورت الشواغل اللبنانية في هذه الفترة حول ثلاث مسائل أساسية: التجاذب الاميركي- الايراني في لبنان؛ الوضع الاقتصادي- المالي المأزوم؛ و"الهجوم" السياسي من جانب فريق رئاسة الجمهورية على الجبل الدرزي.
أولاً - في التجاذب الاميركي - الايراني.
- من نافل القول أن النفوذ الايراني في لبنان، من خلال حزب الله وهيمنته على الحكم في عهد الرئيس ميشال عون، يشكّل أهمّ المواقع الايرانية في المنطقة، لا سيما بعد الادوار العسكرية التي أنيطت بهذا الحزب من سوريا إلى العراق إلى اليمن، فضلاً عن دوره التقليدي بمواجهة اسرائيل، وفق صيغة "جيش وشعب ومقاومة" التي يؤيّدها فريقٌ من اللبنانيين وتفرض نفسها على الارض بحكم الامر الواقع، وإن۠ كان هذا الامر الواقع مخالفاً لأحكام الدستور وبديهية سيادة الدولة، خصوصاً مع مجاهرة الحزب بانتمائه إلى "ولاية الفقيه الايرانية" تنظيماً وتمويلاً وتسليحاً وعقيدةً مذهبية. كذلك يمثّل لبنان بالنسبة للجانب الاميركي، وللأسباب عينها، خصوصاً في عهد الرئيس دونالد ترامب، موضوع اهتمام ومتابعة حثيثين، فضلاً عن نفوذه التقليدي في السياسة اللبنانية، وتأثيره الكبير على مؤسسة الجيش من خلال برامج التسليح والتدريب وتبادل المعلومات في إطار "محاربة الارهاب". وقد ظهر هذا الامر الأخير جلياً في "معارك الجرود" بين الجيش اللبناني ومجموعات "داعش". وقد نضيف إلى ذلك الاهتمام الاميركي الجديد بالثروة النفطية اللبنانية المكتشفة حديثاً، أكان لجهة إشكاليات حدود هذه الثروة بين لبنان واسرائيل، أو لجهة دخول الشركات الاميركية على خط الاستثمار من بين الشركات الاجنبية الاخرى. ولذلك كلّه اتّسم التجاذب الاميركي- الايراني في لبنان بالاستدامة، ولو بوتائر متفاوتة، تعيّنها أولويات الصراع في المنطقة بالنسبة لكلٍ من الطرفين.
- بَيدَ أن هذا التجاذب، وإن۠ ارتفعت نبرتُه في بعض الأوقات كما في الآونة الاخيرة، لم يكن ليبلغ حدّ الاطاحة بقواعد لعبة التعايش بين النفوذين، لأسباب ثلاثة مجتمعة: الأول، أنّ لبنان لا يشكّل مساحة مواجهة حاسمة على مستوى المنطقة؛ إذ۠ إنَّ نهائيات الصراع في المنطقة ترتسم بعيداً عنه، قبل أن تصل إليه – والسبب الثاني، وجود مصلحة للطرفين في عدم سقوط الدولة اللبنانية تحت وطأة التجاذب المشار إليه – والثالث، هو وجود اسرائيل عند الحدود اللبنانية، بإزاء التواجد الايراني، فيما لا يرغب أيٌّ من الطرفين بمواجهة حاسمة، لأن مثل هذه المواجهة لا يقع ضمن أجندتيهما الفعليّتين، رغم احتياجهما إلى رفع منسوب الخطاب الايديولوجي المعادي، لأغراضٍ تَعبَ۠ويّة في الداخل.
- ربطاً بهذه النقطة الاخيرة، أي حاجة الجانبين الاسرائيلي والايراني إلى رفع منسوب الخطاب الايديولوجي المعادي، جاءت عملية انفجار طائرتين اسرائيليّتين مسيّرتين بالقرب من موقع تابع لحزب الله في ضاحية بيروت الجنوبية. حتى الآن لم يتمكّن الحزب من تعيين هدف واضح للعملية، كما أنّ الأضرار والأثار الجانبية لم تحمل أي مراقب عسكري على اعتبارها عملية جادّة بمعنى الكلمة، خصوصاً وأن الحزب لم يزعم أنه أسقطهما بوسائله الخاصة. نعم أطلق الامين العام للحزب تهديداً في اتجاه اسرائيل ("قفوا على رجل ونصف، وانتظروا الردّ!")، رافضاً في الوقت نفسه لعبة "الدرون" الاسرائيلية من لبنان إلى سوريا إلى العراق، ورابطاً ما بين الحالات الثلاث. من هنا نقدّر أن العملية الاسرائيلية والردّ التهويلي عليها إنما يندرجان في إطار "المفرقعات الايديولوجية". ومما يرجّح تقديرنا هذا، مسارعةُ الإدارة الاميركية إلى دعوة الدولة اللبنانية لضبط النفس، ومسارعةُ رئيس الحكومة إلى طمأنة اللبنانيين بأننا "لسنا على أبواب حرب". وهذا، بطبيعة الحال، إلى استنكار لبناني عام للاعتداء على السيادة اللبنانية، معززاً بشكوى رسمية إلى مجلس الأمن، وبالدعوة إلى التزام القرار 1701، مع تشديد البعض على أن الرد على أي اعتداء اسرائيلي هو من اختصاص الدولة وحدها.
- والحال كذلك مع الستاتيكو القلق في لبنان، بقيت العقوبات المالية الاميركية على حزب الله الأداة الأشد فاعلية. وفي هذا الصدد لا تكفّ الإدارة الاميركية عن التلويح بمزيد من العقوبات، والتلميح إلى إمكانية شمولها بعض الشخصيات السياسية المتحالفة مع حزب الله، في إشارة غير مباشرة إلى قيادة التيار العوني. وقد بلغ هذا التلميح مؤخراً درجةً "كاد المُريبُ معها أن يقول خذوني!". إذ۠ صرّح رئيس الجمهورية في الآونة الأخيرة بأنه "لم يتبلّغ أية معلومات رسمية بهذا الشأن"!!!. وفي هذا السياق ارتفعت في بعض الأوساط السياسية اللبنانية، المعارضة للحكم والمناهضة للنفوذ الايراني، دعوة الدولة إلى ضرورة "التمييز الواضح، إلى حدّ الفصل، بين مصلحة الدولة ومصلحة حزب الله"، رداً على سياسة الحزب في الخلط بين المصلحتين، وتحصُّنه بمناصب الدولة. يُذكر أن النائب السابق فارس سعيد كان أوّل المبادرين إلى هذه الدعوة، التي لقيت صدىً واضحاً في تصريح رئيس الحكومة (أثناء زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة ولقائه وزير الخارجية مايك بومبيو) بأن "الدولة اللبنانية لا تستطيع شيئاً في مجال رفع العقوبات أو تخفيفها، وأنها معنيّةٌ بحماية مصلحتها الحصرية". كذلك دعا رئيس الحكومة الأمم المتحدة إلى استكمال تطبيق القرار 1701، "بالعمل على الانتقال من حالة وقف الاعمال الحربية إلى حالة وقف اطلاق نار دائم"، وفقاً لنصّ القرار. ومثل هذه الدعوة الأخيرة يدعم مفهوم "الاستراتيجية الدفاعية" القائم على "حصرية السلاح بيد الدولة" وفقاً لنص القرار 1701 واتفاق الطائف، بعدما تمّ تحوير هذا المفهوم إلى صيغة "جيش وشعب ومقاومة" على أثر حرب تموز 2006.
ثانياً - في الوضع الاقتصادي - المالي المأزوم.
- استنفدت هذه الأزمة جهداً كبيراً واستثنائياً من جانب الحكومة، خصوصاً عند انكبابها على وضع ميزانية العام 2019، بما يتلاءم مع الشروط التي وضعها المجتمع الدولي بخصوص المساعدات المقدّمة إلى لبنان في إطار مؤتممر "سيدر" المقبل، وفي إطار تجاذبٍ سياسي كان أبرز ما فيه "مشاغبة" رئيس التيار العوني على توجهات رئيس الحكومة وتعهّداته في هذا الشأن، رغم التحالف القائم بين الجانبين على قاعدة "التسوية الرئاسية" المعهودة... باختصارٍ شديد، يمكن القول بأن رئيس الحكومة قد خرج من هذا الاختبار الصعب بما يشبه الانتصار. وذلك بفضل تحالف رئيس المجلس النيابي معه في هذا الشأن، وتعاونٍ واضح من جانب "القوات اللبنانية" والحزب التقدمي الاشتراكي. وإذ ذهب التجاذب السياسي حول الموازنة بعيداً جداً، إلا أنه ظهّر اتّجاهاً لخلطة جديدة على مستوى "التسوية المعهودة"، قوامها "ابتعاد الحريري نسبياً وموضوعياً عن التيار العوني، واستطراداً عن حزب الله، واقترابه الواضح من نبيه برّي وجنبلاط". ومما لا جدال فيه أن سيف الانهيار المسلّط على رقبة الاقتصاد اللبناني في هذه الآونة قد شكّل ضغطاً شديداً على جميع الاطراف، وساعد في وضع حدّ للمشاغبات والمزايدات من هنا وهناك... وسوف يتظهّر الاتّجاه المستجدّ على صعيد التحالفات الداخلية بصورةٍ أشدّ وضوحاً، مع حادثة "قبرشمون" في الجبل الدرزي؛ وهي عنوان الفقرة التالية.
ثالثاُ - في "الهجوم" السياسي من جانب التيار العوني على الجبل الدرزي.
- ظهرت بوادر ذلك من خلال الجولات الاستفزازية التي قام بها رئيس التيار العوني جبران باسيل في مختلف أنحاء الجبل، مشدّداً على "استعادة الحضور المسيحي"، ونابشاً قبور الحرب الأهلية السيئة الذكر، رغم المصالحة التاريخية في الجبل عام 2001 على يد البطريرك نصرالله صفير والزعيم الجنبلاطي. هذا ولم يخطئ معظم المراقبين في اعتبار السلوك العوني هجمة مكشوفة على الجبل الدرزي، لتضييق الخناق على وليد جنبلاط، الثابت على رفضه فكرة "تحالف الأقليات الدينية في المنطقة، ضدّ الاكثرية العربية السنّية".. وهي الفكرة التي انضوى تحتها التيار العوني بصورة علنية، إلى جانب حزب الله وفلول النظام السوري في لبنان من الدروز. في هذه الأجواء المحتقنة باستفزازات متسارعة الوتيرة، وبعُظامٍ عوني (ميغالومانيا)، حدثت مواجهة درزية - درزية في بلدة "قبرشمون"، ذهب ضحيتها اثنان من مرافقي الوزير صالح العريب، المحسوب على النائب طلال ارسلان وعضو الكتلة الوزارية العونية. هذا وقد أصرّ الفريق الارسلاني - العوني - الحزب اللّهي على رفع القضية إلى المجلس العدلي، بموقفٍ رأى فيه أكثر المراقبين، فضلاً عن الجانب الجنبلاطي، محاولة لتكرار سيناريو إخراج قائد القوات اللبنانية سمير جعجع من الحياة السياسية عام 1994، على أثر تفجير كنيسة "سيدة النجاة".
- باختصار، ومن دون استعادة تفاصيل السجال، الذي استمر لأسابيع، والذي استحضر أجواء حرب أهلية جديدة، يمكن القول أن هذه الأزمة طُويت بتراجع الهجوم العوني مع حلفائه، خصوصاً بعد وقوف كلٍ من سعد الحريري ونبيه برّي وقائد الجيش ضدّ مطلب المجلس العدلي. ولكنّ النتيجة السياسية تمثّلت اكثر ما تمثّلت في تظهير تضامنٍ هو أقرب ما يكون إلى التحالف، فيما بين الحريري وبرّي وجعجع وجنبلاط. كذلك تراجع رئيس الجمهورية عن تسرّعه بالقول أن "الاعتداء على الوزير صالح الغريب إنما كان معَدّاً للوزير جبران باسيل"، في محاولة شديدة "الخِفّة" لنقل المشكلة من درزية - درزية إلى درزية - مسيحية!... الآن، ومع انتقال رئيس الجمهورية إلى المقرّ الصيفي في بيت الدين، لا شيء سوى لقاءات الترحيب والوداد المتبادل، بما يؤكد أن الزعيم الجنبلاطي سجّل انتصاره الأكبر، وربما الأوحد، منذ اجتباح بيروت والجبل في أيار 2008... وقد لا نبالغ إذا قلنا بأن جرأته على "استخدام العصا" في اللحظة المناسبة قد جنّبته احتمالاتٍ وخيمة.
- وفي إطار الحالة اللبنانية ينوّه "تقرير الحالة العربية" بمبادرتين قيد التبلور والاكتمال في هذه الآونة الأخيرة:
أ- المبادرة الأولى، هي تسارع التحضيرات والاتصالات لانعقاد "مؤتمر مسيحي عربي" في باريس، أواخر تشرين الاول المقبل، تحت عنوان: مواجهة مشروع تحالف الاقليات في المنطقة، ومنطق المطالبات المسيحية بحمايات أجنبية، بالإضافة إلى بلورة الخطاب المسيحي المقابل، والمنسجم مع خيار الاندماج المسيحي في المنطقة العربية، ومع المصلحة المسيحية الفعلية.
يشار إلى أن هذه المبادرة انطلقت من جانب "لقاء سيدة الجبل" الذي يرأسه النائب السابق فارس سعيد، بالتعاون مع شخصيات وفاعليات لبنانية، مسيحية واسلامية.
ب- المبادرة الثانية، هي جملة اتصالات وأنشطة ومراكمات، بعناية رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، في اتجاه تكوين "هيئة حكماء" واسعة ومتنوّعة، من شأنها المساهمة في حماية اتّفاق الطائف والدستور، والمساهمة تالياً في تقويم الحياة السياسية العامة.
- شهد النصف الثاني من آب التوصّل إلى اتفاق كامل في السودان حول "وثيقة دستورية" وخطة انتقالية، بين مختلف مكوّنات الحالة السودانية، لا سيما بين المجلس العسكري الانتقالي الذي أطاح بحكم عمر البشير، وبين مجموع التشكيلات المعارضة التي انضوت في الهبّة الشعبية العارمة ضد الحكم السابق. هذا بعد مشادّات سياسية على مدى ثلاثة شهور بين الاتجاهين العسكري والمدني في البلاد.
- تمحورت المشادّات حول الضمانات التي ينبغي أن يقدّمها كلٌ من جانبي الاتفاق لعملية الانتقال: ضمانة أن لا يتحوّل المجلس العسكري إلى مجرّد عملية انقلابية، على غرار تجارب سابقة في السودان وسواه من البلدان العربية، وضمانة أن لا يتحوّل الحراك الشعبي العام إلى "ثورة فوضوية" تتيح للنظام السابق العودة من بوابة جانبية واسعة، لا سيما وأن مرتكزات هذا النظام، السياسية والامنية والايديولوجية، ما تزال على أهبة الاستعداد، رغم سَوق معظم رموزه إلى المحاكمات.
- في هذا السياق من المشادّة، استخدم كلّ جانب وسائله المتاحة في الضغط على الجانب الآخر للحدّ من غلوائه. وقد جرى ذلك، ومن الجانبين، بمقادير حذرة ومدروسة، من دون إفراط ولا تفريط. ولعل هذا الامر هو أكثر ما ميّز جولات التفاوض، سواءٌ في الغرف المغلقة أو في ساحات الحراك. كذلك يمكن القول أن معادلة "لا إفراط ولا تفريط" قد جنّبت البلاد انزلاقات خطيرة، رغم بعض الخروق التي شابت البنيتين العسكرية والشعبية بصوَر يمكن اعتبارها "طبيعية".
- بّيدَ أن الاتفاق كان بحاجة أيضاً إلى مساهمة أفريقية وعربية، ومن دون تدخّلات تخريبية إقليمية أو دولية، كما يحدث في غير مكان من البلدان العربية. ولقد توفّرت تلك المساهمة بالفعل، وعلى درجة عالية من الحرص على السودان، لا سيما من جانب المجموعة الافريقية (وأثيوبيا بالتحديد)، ومن جانب المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية. وقد تمّ تظهير تلك المساهمات في الصورة "الاحتفالية" الأخيرة للاتفاق.
- ولعل المشهد السوداني، في صورته الأخيرة، يجسّد واقعة سعيدة، وربما وحيدة، في المشهد العربي منذ سنوات. وإذا كان ثمة عبرةٌ أساسية تُستخلص من ذلك، فهي أن التطرُّف، بصرف النظر عن نيّاته أو إعلاناته، هو أقصر طريق إلى خراب البلدان، فيما يمثّل الاعتدال أضمن طريق إلى الخلاص.
- على أي حال، يبقى السودان على محكّ الاختبار في المرحلة الجديدة، بإزاء التحدّيات الكثيرة والأولويات الملحّة، كما لم يقصّر في تعيينها رئيس الحكومة المكلّف. ومعيارُ ذلك كلّه هو القدرة على إدارة التنوّع والاختلاف، من دون الجنوح إلى إلغائهما، كما تفعل العقول الكلّيانية التوتاليتارية.
- 1. لم تصل الحالة الجزائرية بعد إلى صورة الخبر السعيد، على غرار المشهد السوداني الأخير، رغم تزامن مبادرتي الجيش في البلدين إلى الاطاحة بالحكم الاستبدادي، والامتثال للإرادة الشعبية العامة.
- بَيدَ أن تطور الأحداث ومنطوق التجاذب بين الجيش والحراك الشعبي ظهّرا مشتركاً اساسياً وفارقاً أساسياً بين الحالتين السودانية والجزائرية. أما المشترك فهو الإدارة السلمية للتجاذب من جانبي الجيش والحراك الشعبي، وربما فاقت السلمية الجزائرية نظيرتها السودانية. وأما الفارق فهو أن الجيش السوداني دخل مباشرة في التفاوض على الشراكة والمرحلة الانتقالية، فيما يصرّ الجيش الجزائري على انتقالٍ دستوري سلس، من دون مقاربة فكرة الشراكة بين العسكري والمدني. ولعل عقليّة الجيش الجزائري، بلحاظ هذا الفارق غير التفصيلي، تكون أقرب إلى "المدنية" من نظيرتها السودانية.
- على أي حال، يجري في الجزائر استهداف رموز النظام السابق، من أمنيين ورجال أعمال، على إيقاع المشادّة بين الجيش والحراك الشعبي، كما في ظل الرقابة المتبادلة والصارمة من الجانبين. وعلى أي حالٍ أيضاً، هذا أمرٌ حسن، وتبقى الجزائر من العلامات المضيئة في هذه الآونة. كذلك تبقى العبرة التي استخلصناها في الفقرتين 5 و6 من الحالة السودانية قائمة بخصوص الجزائر.