تقدير موقف دوري عدد 3

تقدير موقف دوري عدد 3
الخميس 25 إبريل, 2019

   العدد – 3                                                                                    25/4/2019

 

 

تقرير الحالة العربية

 

 

يرصد هذا التقرير الدوري تطوّر الأوضاع في المنطقة العربية، بقراءةٍ جيو-سياسية، ومن منظور "نظام المصلحة العربية المشتركة"، في سياق تزاحم أنظمة المصالح الإقليمية والدولية. وهو في عمله إنما يتّخذ من "مبادرة السلام العربية" (قمة بيروت 2002) و"إعلان الرياض" الصادر عن القمة العربية 2007 مرجعيةً أساسية في تقديره للأمور.. هذا مع التفاتةٍ خاصّة إلى الحالة اللبنانية، من منظور العيش المشترك واتفاق الطائف وقرارات الشرعية الدولية الخاصة بلبنان، لاسيما القرار 1701.

 

 

مؤشرات "المرحلة الجديدة" من الصراع في المنطقة. 

- تذكير ومتابعة -

 

في هذا العدد الثالث من "تقرير الحالة العربية"، نواصل رصد مؤشّرات المرحلة الجديدة من الصراع في المنطقة، وانعكاساتها على تطوّر الأوضاع في البلدان العربية، بعد التذكير بأهمّ المؤشّرات التي عاينّاها في تقريرنا السابق. ذلك أن تلك المؤشّرات متواصلةُ الظهور تباعاً، كما أن تداعياتها في حالةٍ من التفاعل المستمرّ. ومن نافل القول أن اهتمامنا يتركّز على استبيان المصلحة العربية المشتركة ومدى كفاءة المنظومة الاقليمية العربية في الدفاع عن هذه المصلحة في خضمّ الصراعات المتعدّدة الأطراف والأجندات.

تذكير

 

في "تقرير الحالة العربية" السابق (22/1/2019) حاولنا أن نرصد" مؤشّرات المرحلة الجديدة من الصراع في المنطقة، في ضوء قرار الانسحاب الأميركي من سوريا". وقد بيّنت لنا عمليةُ الرّصد الأولي لردود الفعل المختلفة على هذا القرار، وللوقائع المعايَنة خلال شهرين سابقين على نشر تقريرنا، جملةً من المؤشّرات أبرزُها التالية:

  1. أنَّ "الانسحاب"، بالمعنى العسكري الميداني، لم يكن في واقع الأمر سوى "إعادة تموضع" للقوات الأميركية في سوريا، وإن۠ انطوى بالتأكيد على رغبة ومصلحة - من وجهة نظر الادارة الأميركية - في تقليص الوجود المادي (وفقاً لوعود الرئيس ترامب الانتخابية، وريطاً بإجراءات مماثلة في العراق وافغانستان)، من دون أن يؤثّر ذلك على الحضور الأميركي الفاعل و"المقرِّر" في شؤون المنطقة، بما فيها الشأن السوري. كذلك لاحظنا أن "الغموض المتعمَّد" في روزنامة تنفيذ القرار، كما في مقاصده الحقيقية، ما كان إلا لتوكيد الحضور المشار إليه، فاعلاً ومقرِّراً، خلافاً لما أشيع - أو أحبَّ البعض أن يُشيعه - من أن الادارة الأميركية قرّرت إدارة الظهر للمنطقة، تاركةً شؤونها في يد لاعبين إقليميين، فضلاً عن اللاعب الروسي (دولي؟).
  2. بالمقابل، ترافق ما سُمّي "انسحاباً" مع بداية "هجوم استراتيجي"، تمثَّل بعناوين ثلاثة رئيسية، ظهّرتها جولة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في المنطقة في أعقاب الإعلان عن قرار الانسحاب... وهي:
  1. التصدّي للنفوذ الايراني في المنطقة، كأولوية في المرحلة الجديدة، بعد القضاء على "داعش" وأخواتها (باعتبارها إرهاباُ سنّياً، بحسب الرواية الأميركية التقليدية) وضرورة التوجُّه لمحاربة الأذرع الايرانية (باعتبارها إرهاباً شيعياً، بحسب الرواية الجديدة). ومن الشعارات الملخّصة لهذا التوجّه الأخير: "إخراج ايران من سوريا!". وفي الأثناء لم تَنسَ إدارة ترامب أن تحمّل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مسؤولية تشجيع النفوذ الايراني في المنطقة خلال المرحلة السابقة، وهي مرحلة استدراج وتنفيذ الاتّفاق النووي مع ايران.
  2. إعلان وزير الخارجية الأميركي في جولته المشار إليها، وبصورة رسميّة، عن مشروع "التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط – MESA"، وتنشيط المساعي لوضعه في حيّز التنفيذ... وهو ما عبّرت عنه مباحثاتُه في كلٍ من دول الخليج ومصر والأردن، بوصف هذه الدول - مع الولايات المتحدة - نواةَ المشروع وحاملته الأساسية، "على أمل أن تلتحق به دولٌ أخرى"، في إشارة إلى عدم استثناء اسرائيل، بحسب أكثر المراقبين. وقد بدا لنا في التقرير السابق أن MESA، أو ما أطلق عليه البعض اسم "الناتو العربي"، قد يشكّل المَع۠لَم الأبرز في المرحلة الجديدة.
  3. أما العنوان الثالث والأهمّ للهجوم الأميركي، فهو ما أُعلِن عن "صفقة القرن" لحلّ الصراع العربي- الاسرائيلي، وفي أصله الفلسطيني- الاسرائيلي، بعيداً من "حلّ الدولتين" بمرجعياته المعلومة (قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، اتفاقيات أوسلو ومبادرة السلام العربية). وقد رأت الشرعية الفلسطينية (السلطة الوطنية وقيادة منظمة التحرير) في هذا المشروع "اقتراحاً وقحاً لتصفية القضية الفلسطينية"، ما حمل الرئيس الفلسطيني على مقاطعة الجانب الأميركي، باعتباره "وسيطاً غير نزيه" في مساعي السلام (راجع تقريرنا الأول بتاريخ (15/11/2018).

لا يخفى على أي مراقب وجودُ ترابط وتداخل بين العناوين الثلاثة أعلاه، بوصفها "سلّة" من الأولويات الأميركية في هذه المرحلة الجديدة. فمن وجهة النظر الأميركية، وبحسب كثير من التصريحات والتلميحات والمبادرات على الطريقة "الترامبية"، تقتضي مواجهةُ النفوذ الايراني قيامَ تحالف شرق أوسطي، بقيادةٍ أميركية ومشاركةٍ اسرائيلية، كما أن هذا التحالف ينبغي أن يكون مسقوفاً بهدفٍ استراتيجي هو "صفقة القرن"! بَيدَ أنّ هذا "الترابط الشّرطي" - أي المطروح بوصفه شرطاً للتحالف الاستراتيجي العتيد - يضع الجانب العربي أمام معادلة يستحيل التوفيق بين شطريها: فإذا كانت دواعي التحالف ضدّ النفوذ الايراني مسوّغةً ومغرية للجانب العربي، إلا أنّ هذه الدواعي منتفيةٌ بخصوص الهدف الأعلى للمشروع، أي حلّ الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي والعربي- الاسرائيلي بشروطٍ اسرائيليةٍ خالصة، كما دلّت حتى الآن مبادرات الإدارة الأميركية في هذا الاتجاه، معزّزةً بسلوكٍ اسرائيلي في الاتجاه نفسه داخل فلسطين (الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية وموحّدة لإسرائيل، مع نقل السفارة الاميركية إليها - التصريح بصرف النظر عن حلّ الدولتين - السعي لجعل قضية اللاجئين غير ذات موضوع - محاصرة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير بأشدّ الإجراءات العقابية - إدارة اسرائيل للصراع مع حماس في غزّة بطريقةٍ ستؤدّي (بحسب تصريحات قيادات عليا في منظمة التحرير) إلى اعتراف اسرائيلي عمليّ بحماس بديلاً عن منظمة التحرير، وبغزّة بديلاً عن الدولة... هذا إذا لم نذكر اعتراف الرئيس الأميركي مؤخراً بسيادة اسرائيل على الجولان).

والحال كذلك في تلك المعادلة المستحيلة، يكون عملُ الجانب العربي بها كمن يعمل لمصلحته في شطرها الأول، وضدّ مصلحته وكل مبادئه في شطرها الثاني. والحال أيضاً أن فريق الممانعة الايراني في المنطقة التقط باكراً هذه المفارقة، واستخدمها ضدّ الجانب العربي الرافض لنفوذه، متّهماً إيّاه بالتخلّي عن عدائه التاريخي لإسرائيل، واتّخاذه من ايران (الدولة الجارة والمسلمة و"الملتزمة بالقضية الفلسطينية") عدواً أوحد!

إذن۠ يتعيّن على الجانب العربي، أو المجموعة العربية المناهضة للتمدُّد الايراني في المنطقة، أن تتوخّى الحذر وتُحسن الأداء حيال هذه المعادلة الملتبسة. فالمصلحة العربية ليست في الانحياز إلى إسرائيل ضدّ ايران، ولا العكس، بل في مواجهة طرفين يتنازعان النفوذ على المنطقة العربية، من دون أن يكون هناك عداءٌ حقيقيّ فيما بينهما، كما بيّنت وقائع الصراع في المنطقة، رغم الثرثرة الأيديولوجية التي تطلقها منصّات الجانبين. وهذان الحذر وحُسن الأداء يقتضيان أن يكون الجانب العربي موحّداً وحاضراً بأجندته الخاصة على رقعة الصراع، لا مفرّقاً وبالتالي ملحقاً بأجندة إقليمية غير عربية، أو بأجندة أميركية متأس۠رِلة. فالواقع أن الإدارة الاميركية الحالية - فيما تبدي حرصها على تصدُّر الجانب العربي وتوظيف ثرواته في عملية المواجهة ضد ايران - تمضي بلا هوادة في تنفيذ تصوّرها لصفقة القرن، بمواصفاتٍ اسرائيلية، ومن جانبٍ واحد!.. وهذا ما نبّه إليه الرئيس الفلسطيني في الآونة الأخيرة، بقوله مخاطباً الرئيس الأميركي: "أنت لستَ حاكم العالم... بل هناك شرعياتٌ وحقوقٌ ثابتة ينبغي أن تَحكمه!".

ولا يقتصر واجبٌ الحذر وحُسن الأداء على العمل العربي المشترك في أُطُره المعروفة، من جامعةِ دولٍ عربية وتكـتّلات جِهَوية، بل يتعيّن هذا الواجب على أي بلد عربي يكون في موضع التجاذب والتنازُع بين إملاءات الخطة الاميركية من جهة، وبين الضغوط الايرانية على هذا البلد بحكم النفوذ الايراني المتمكّن فيه من جهة ثانية، كما هي الحال في لبنان والعراق واليمن وسوريا. وإذا كانت خصوصياتُ كل بلد عربي تُملي على قواه السيادية والاستقلالية بعضَ التمايز في الأداء وبعضَ الهوامش في تدبّر واقع الحال، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يُتيح له التغريد خارج السِّرب العربي وخارج نظام المصلحة العربية المشتركة بذريعة الخصوصية، لا سيما إذا تحلّت توجّهات السّرب العربي بالواقعية والحكمة والرّشاد.

 

 

متابعة رصد التطورات والمؤشرات

(17/1/2019 – 17/4/2019)

 

خلال هذه الفترة شهدت المنطقة مزيداً من التطورات في اتجاه المؤشرات الثلاثة الكبرى التي ذكرناها: اولوية التصدّي للنفوذ الايراني في المنطقة – مشروع التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط MESA – صفقة القرن. وفي رصدنا لتلك التطورات، بعناوينها الفرعية الكثيرة، لا ننسى الترابط القائم بين المؤشرات الثلاثة (سلّة واحدة)، أقلُّه من وجهة النظر الأميركية.

-  أولاً -

في مقاومة ايران للهجمة الاميركية

  1. سبقت الإشارة إلى أن وسيلة ايران الأساسية لمواجهة "الحرب" التي أعلنتها الإدارة الأميركية ضدّ نفوذها في المنطقة، إنما تقوم (تلك الوسيلة) بصورة رئيسية على استخدام مواقع نفوذها المتمكّنة في بعض البلدان العربية، بحيث تتّخذ ايران من تلك المواقع رهائن ومتاريس لمفاوضة الجانب الأميركي حول حصّتها في القِسمة الجارية على الأرض، أو المتوقّعة في قابل الأيام، على غرار ما تفعل سائر القوى الإقليمية المتنافسة. ونسارع هنا إلى القول بأن كلامنا على "قِسمةٍ وتقاسُم" لا يذهب بنا إلى الاعتقاد بأن المنطقة على عتبة تغيير الخرائط الجغرافية (سايكس-بيكو جديد)، كما ذهب البعض، بل نعني توزُّعَ النفوذ في هذه المرحلة الانتقالية الراهنة، بانتظار ما ستؤول إليه فكرة الصفقة الشاملة. إلى ذلك لا نرى بوادر وإمكانياتٍ فعلية للعودة إلى ترسيمة الحرب الباردة بثنائيتها المعهودة، ولا للذهاب نحو تعدُّدِ قطبيّات، على ما تكرِز به جوقة "المقاومات ضدّ الامبريالية".
  2. تلك الوسيلة (=الاوراق) التي تستخدمها ايران إنما تستمدّ قوّتها ونجاعتها من كونها ركائز مذهبية- سياسية- ديموغرافية في بعض البلدان (التشيُّع السياسي الملتزم أطروحة ولاية الفقيه العامة بمركزيتها الايرانية)، كما في العراق ولبنان واليمن، بحيث تبدو ايران وكأنها "قوة داخلية" في هذه البلدان، خلافاً لقوى إقليمية أخرى من مثل تركيا وروسيا وإسرائيل.. وهذه ميزة تفاضليّة لصالحها في عمليات التجاذب.
  3. إلى ذلك، وبطبيعة الحال، تترافق سياسة المقاومة الايرانية في المنطقة مع تشدُّد الحرس الثوري في الداخل الايراني بمواجهة التيارات الإصلاحية الداعية إلى التخلّي عن سياسة تصدير الثورة، بعدما باتت هذه السياسة مكلفة جداً، بل "ومُف۠قِرة للمجتمع الايراني"- بحسب ما بات يتردّد بصوت مسموع في كثير من الاوساط الايرانية- خصوصاً مع اشتداد الحصار الاقتصادي.. حتى إنَّ اشتداد هذا الحصار قد أنطق بالشكوى العلنية في الآونة الأخيرة كلاً من الخامنئي وروحاني في ايران، وتبعهما كلٌ من الحوثي في اليمن وحسن نصرالله في لبنان، ناهيك عن شكوى الحشد الشعبي في العراق. وبطبيعة الحال أيضاً، يترافق تشدّد الحرس الثوري في الداخل مع استعراضات قوّة صاروخية ومناورات عسكرية في الخارج، هي في حقيقةِ أمرها موجّهةٌ لتهديد البلدان العربية، وليس لتهديد الولايات المتحدة أو اسرائيل. فشعار "الموت لأميركا –الموت لإسرائيل" الذي ترفعه ايران هنا وثمة، هو بالترجمة الفارسية "الموت لنظام المصلحة العربية".

 

في العراق

4. رأينا في التقرير السابق أن حكومة عادل عبد المهدي الحالية جاءت على أثر توازن سياسي جديد في العراق، حصل جرّاء انزياحات سياسية شيعية من حول حزب الدعوة، مترافقةً مع تنامي الاعتراض الشعبي على الأزمات المعيشية الناجمة عن الفساد وسوء الإدارة الحكومية إبّان حكومة حيدر العبادي، من دون أن توفّر سهامُ الاعتراض الهيمنة الايرانية.

وبالتزامن مع هذه الانزياحات السياسية وهذا الحراك الشعبي الاعتراضي، لاحظ المراقبون بروز المرجعية الشيعية العليا في النجف (مرجعية السيستاني) كمركز جاذب وتوجيهي على المستويين الشعبي والسياسي. وإذ تزامن تأليف الحكومة الجديدة مع الهجمة الأميركية على النفوذ الايراني في المنطقة، فقد سارعت قيادة الحرس الثوري الايراني إلى محاولة فرض شروطها على الحكومة بإصرارها على أن تكون وزارة الدفاع بيد الحشد الشعبي الموالي لايران. وهذه المسألة ما زالت عالقة حتى الآن، رغم انقضاء عدة شهور على تأليف الحكومة "الناقصة"، ورغم المرونة الزائدة التي أبداها رئيسُها عادل عبد المهدي في تعامله مع الاشتراطات الايرانية.

وربطاً ببعض ما جاء في هذا التمهيد أعلاه، يُشار إلى أن عبد المهدي لا يستند إلى كتلة برلمانية خاصة به، الأمر الذي يجعله عُر۠ضةً للضغوط الايرانية داخل البرلمان العراقي. من ناحية أخرى، وفي إطار التنافس الشيعي على مركز رئاسة الحكومة، أعربت أوساط قريبة من حيدر العبادي إلى "تقرير الحالة العربية" عن "عَتَب" هذا الأخير على الذين دعموا عبد المهدي، متّهمةً إيّاه بـ"الانحياز إلى ايران"، ومذكِّرةً بالدور الذي لعبه العبادي في إزاحة حزب الدعوة عن صدارة الحكم. وذلك في إشارة منها إلى ما يُشبه انشقاق العبادي عن حزب الدعوة خلال الفترة الماضية، فضلاً عن محاولته استيعاب الحشد الشعبي في إطار الدولة وتحت القانون.

5. بخصوص متابعتنا، ما يميّز المشهد العراقي في الشهرين الأخيرين واقعتان:

  • الأولى، تصاعد التجاذب الاميركي- الايراني في بلدٍ يعاني أصلاً من ثقل النفوذين وتمكّنهما فيه منذ عقود. ومما يضاعف وطأة هذا التجاذب أنّ الطرف الايراني بات يطلب انحيازاً عراقياً حاسماً إلى جانبه في مواجهة العقوبات الاميركية، فيما لا يُبدي الاميركيون سوى بعض التساهل الشكلي في مطالبهم. فأثناء زيارة عادل عبد المهدي الأخيرة إلى ايران ومقابلته مرشد الجمهورية السيد علي خامنئي (الأسبوع الأول من نيسان الجاري)، طلب إليه الخامنئي "السعي الجاد لإخراج الجنود الاميركيين من العراق في أسرع وقت ممكن"، بحسب ما ورد في بيانات الجانبين. وبحسب معلومات بعض المراقبين والمتابعين، كان جواب عبد المهدي ما مفادُه أنّ "الاميركيين لم يدخلوا العراق بطلبٍ منّا، ولن يخرجوا بمثل هذا الطلب.. هذا مع العلم - والكلام دائماً لعبد المهدي - أنّ الوجود الاميركي حمى العراق من التقسيم..."، في إشارة إلى الاعتراض الاميركي على انفصال اقليم كردستان. وفي الحالة العراقية، فإن استقلال كردستان من شأنه أن يستدرج استقلالات شيعية وسنّية، وربما أقلّوية أيضاً.
  • الواقعة الثانية، والتي ترقى في تقديرنا إلى مرتبة "مؤشّر" في المرحلة العراقية الجديدة، هي تنامي وبروز نزعة استقلالية عراقية عن طرفي التجاذب (الاميركي والايراني). وهي نزعةٌ محمولة على "وطنية عراقية" هي من أعرق سمات الاجتماع السياسي العراقي الحديث، ومعزّزة بانفتاح مصمّم على الانتماء العربي وبيئته الحاضنة. عبّر عادل عبد المهدي عن هذا الاتجاه في أعقاب لقائه الخامنئي بقوله مشدّداً على نهج حكومته القائم على "رفض سياسة المحاور، وتعزيز فرص التعاون مع جميع دول الجوار"، لافتاً إلى "جولة قريبة تشمل دول المنطقة والجوار العربي لتعزيز هذا النهج" (وكالات). وفيما يتعلّق بالضغوط الاميركية سبق لعبد المهدي أن أعلن في مؤتمر صحافي بأن "العراق سيعطي الأولوية لمصالحه الخاصة واستقلاله فيما يخصّ مساعدة الولايات المتحدة في تطبيق عقوباتها على ايران". هذا ولم تَفُت المراقبين ملاحظة أن كلام عبد المهدي عن نهج حكومته قد جاء في أعقاب انتقاد الخامنئي للتقارب العراقي السعودي الأخير، زاعماً أن "التصريحات الاميركية والسعودية بشأن العراق تتعارض مع نيّاتهم المبيّتة"، ومتّهماً الرياض بـ "دعم تنظيم داعش بالأموال والأسلحة والمعدّات حينما كان يحتلّ الموصل، لكنهم الآن يُبدون الصداقة والودّ بعد أن تمكّن العراق من دحر التنظيم". على أيّ حال، لا يبدو رئيس الحكومة العراقية وحيداً في اتّباع هذا النهج، رغم عدم استناده إلى كتلة برلمانية، بل هو نهجٌ مؤيَّدٌ من جانب قوى سياسية شيعية متعددة، بالإضافة إلى نشاط رئيس الجمهورية الملحوظ، برهم صالح، في الاتجاه عينه، من دون أن نستثني تيار "السنّية السياسية" المعتدل. كذلك لا تفوتنا الإشارة إلى أن السيّد السيستاني كان في مقدمة المبادرين إلى تأييد هذا النهج، لا سيما أثناء استقباله رئيس الجمهورية الايرانية حسن روحاني، قبل نحو شهر من زيارة عبد المهدي إلى طهران. فقد أسمع السيستاني ضيفه الايراني كلاماً شديد الوضوح والحسم حول ضرورة أن تُقلع ايران عن سياسة التدخُّل في الشؤون الداخلية للعراق والبلدان العربية، الأمر الذي بدّد بعض التكهنات التي رافقت استقبال السيستاني، على غير عادته، لمسؤولٍ ايراني رفيع المستوى في النظام الحالي. وفي حين تسرَّع البعض في اعتبار هذا الاستقبال تأييداً للحكم الايراني بسلطته القابضة، يرى "تقرير الحالة العربية" مع أوساط قريبة من المرجعية النجفيّة أن هذا الاستقبال إنما كان بمثابة رسالة تشجيع للاتجاهات الايرانية المناهضة لسياسة تصدير الثورة، لا سيما إذا عرفنا المكانة المعتبرة لرأي السيد السيستاني في أوساط المتديّنين الايرانيين أنفسهم.

 

6. ما تقدّم حول هذه الواقعة الثانية هو ما حملنا على التقدير بأنها تشكّل "مؤشّراً" للمرحلة الجديدة في الحالة العراقية... وهو مؤشرٌ ايجابي بمعيار نظام المصلحة العربية المشتركة، في هذه المرحلة المحفوفة باختلاط المعايير وارتباك الاتجاهات. وما تقدّم لا يعني الركون إلى اشتغال تلك الظاهرات الايجابية وتطوّرها من تلقاء ذاتها، بل ينبغي أن يحظى هذا البلد العربي الأصيل والمحوري بمزيد من الاحتضان العربي، بما يطرد إلى غير رجعة تلك الذاكرة السلبية التي عُرفت باسم "التخلّي العربي عن العراق".. هذا من دون الدخول مجدداً في سجالٍ عقيم حول تحديد المسؤوليات بأسلوب تفقيطيّ. ومما يدل على هذا المؤشر الايجابي، من الجهتين العربية والعراقية، الزيارة الأخيرة التي قام بها عادل عبد المهدي إلى المملكة السعودية، حيث وقّع الجانبان 13 اتفاقية تعاون في مختلف المجالات، فكان ذلك "يوماً تاريخياً في العلاقة بين البلدين"، بحسب تصريح وزير الخارجية السعودي. وفي المقابل، حمل شهر نيسان الجاري أخباراً عن انتقال مجموعات من الحشد الشعبي العراقي و"حزب الله" اللبناني إلى منطقة الأهواز في ايران، لمساعدة الحرس الثوري الايراني في التصدّي لاحتجاجات الأحوازيين العرب على أثر الفيضانات التي أصابت ايران مؤخراً، باعتبار أن هذه المجموعات قادرة على "التفاهم لغوياً وأمنياً" مع أبناء جلدتهم بطريقةٍ أفضل!

في لبنان

7. في موضوع التجاذب الاميركي- الايراني، تعرّضت الدولة اللبنانية في هذه الآونة الأخيرة لمثل ما تعرّضت الحالة العراقية من إملاءات ايرانية واميركية متعاكسة، وضعت لبنان بصورة غير مسبوقة بين مطرقة هذه وسندان تلك. فكما طلب مرشد الجمهورية الايرانية من الحكومة العراقية، وبلهجة غير دبلوماسية، أن تعمل على "إخراج الاميركيين من العراق بأقصى سرعة ممكنة"، جاء وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو ليقول للحكومة اللبنانية، بصريح العبارة وفي بيان صحافي مكتوب ما مفادُه: "ليس أمامكم خيار ثالث: فإما الوقوف إلى جانبنا، أو إلى جانب ايران!.. وعلى أيٍّ من الموقفين سوف تترتّب عواقب في غاية الأهمية الدراماتيكية!..". وما عبّر عنه بومبيو بإملائيةٍ صارمة، تجاوزت لياقات الدبلوماسية المعهودة، مهّدت لمضمونه زيارتان سابقتان لموفَدَين من قِبَله إلى لبنان هما ديفيد هيل وديفيد ساترفيلد.

8. ولما كانت الدولة اللبنانية تتعايش منذ مدة مع هذين النوعين من الضغوط المتعاكسة، فقد اتّجهت بصورة شبه تلقائية إلى محاولة امتصاص التهديد واستيعابه. وذلك بتظهير موقفين أساسيين:

أ- موقف رئيس الجمهورية ووزير خارجيته الرافض لاعتبار "حزب الله" منظمة ارهابية، والتشديد على كونه ممثلاً شرعياً في الدولة والمجتمع لشريحة لبنانية واسعة.

ب- موقف رئيس الحكومة المتفهّم لاعتراضات الادارة الاميركية والمجتمع الدولي، ولكنّه متمسّك بسياسة "النأي بالنفس" عن محاور الصراع في المنطقة، تمسُّكه بخطة إنقاذ لبنان مؤسسياً واقتصادياً. وفي تقديرنا أن الموقفين المشار إليهما يتقاطعان موضوعياً عند رسالة موجّهة إلى الطرفين الاميركي والايراني معاً، مفادُها: "رجاءً، لا تتّخذا منّا أدواتٍ لصراعكما التناحري.. فليس لبنان المكان الأنسب لحسم هذا الصراع!..". ونعتقد أن تلك الرسالة قد وصلت إلى الطرفين وتفهّماها، بدليل عدم لجوئهما إلى التصعيد، والاكتفاء باستمرار توازن هشّ في الحالة اللبنانية، وإن۠ كان هذا التوازن يميل نسبياً لمصلحة الجانب الايراني، بحسب التوصيف الظاهري.

9. هذا الميل النسبي لمصلحة النفوذ الايراني- وتراه المجموعات الكائنة خارج "التسوية" الرئاسية والحكومية ميلاً كاملاً وكاسحاً –إنما يعود في تقديرنا إلى عاملين أساسيين: وقوع رئيس الجمهورية وفريقه في أسر "حزب الله"، ووقوع الحالة الشيعية اللبنانية برمتها تقريباً في الأسر ذاته، فيما سائر القوى السياسية اللبنانية غارقة في حسابات "دُكّنجيّة"، وحائرة في قراءة اتجاهات الصراع في المنطقة، من دون بوصلة وطنية واضحة، ومن دون قدرة على التلاقي الحرّ فيما بينها.

10. ولعلّه من المفيد هنا أن نشير إلى مبادرتين أعقبتا زيارة بومبيو، وكان لكل منهما دلالاتٌ بارزة لا تنسجم مع مشهديّة التوافق الداخلي حيال الزائر الاميركي:

المبادرة الاولى هي قيام رئيس الجمهورية بزيارة رسمية إلى موسكو، بناءً على دعوة مسبقة. بيد أن هذه الزيارة تمخَّضت عن "خيبةٍ لانتظارات الرئيس اللبناني"، بحسب تعليقات المراقبين. ففي حين تعيّن الهدف المركزي للزيارة من الجانب اللبناني بـ "التنسيق مع الجانب الروسي في عملية إعادة النازحين السوريين إلى بلدهم، بمعزل عن الحلّ السياسي وإعادة الاعمار، ومن دون شرط العودة الطوعية والآمنة"، وفيما كان الرئيس اللبناني يتّهم المجتمع الدولي بـ "العمل على توطين النازحين في لبنان"، إذا بالرئيس الروسي يُسمع نظيره اللبناني كلاماً عن التزامه الشروط التي وضعها الاميركيون والاوروبيون لتلك العودة!... هذا رغم أنّ الرئيس اللبناني مهّد لموضوعه بـ "شكر روسيا على الدور الكبير الذي تقوم به لحماية الأقليات المسيحية في الشرق". وقد أثار هذا الشكر استغراباً وامتعاضاً في بعض الأوساط المارونية اللبنانية، إذ۠ رأت فيه مجافاةً لتوجيهات الفاتيكان الذي دأب في السنوات الأخيرة على رفضه فكرة حماية المسيحيين في الشرق، فضلاً عن رفضه اعتبارهم أقليّة، مكرراً دعوته إلى تلاقٍ إسلامي- مسيحي وعربي- اوروبي للحفاظ على واقع العيش المشترك ورسالته في هذه المنطقة من العالم. وفي هذا الصدد لا تفوتنا الإشارة إلى الزيارتين التاريخيتين اللتين قام بهما قداسة البابا فرنسيس إلى كل من الإمارات العربية والمغرب، وإصداره مع شيخ الأزهر "وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك"، فضلاً عن مواكبته القريبة للمؤتمرات التي عقدها الأزهر خلال السنتين الأخيرتين للغاية ذاتها. إذن۠ فقد ظهّرت زيارة موسكو مجدّداً، ومن حيث لم يتوقّع رئيس الجمهورية وفريقُه، خلافاً داخلياً لبنانياً حول مسألتي عودة النازحين السوريين، وحماية المسيحيين وفق أطروحة "تحالف الأقليات" المدعومة روسياً وايرانياً، إن۠ لم يذهب بنا القول إلى أبعد من ذلك!

أما المبادرة الثانية فهي زيارة رئيس البرلمان اللبناني نبيه برّي إلى العراق ولقائه المطوّل مع المرجع الشيعي الأعلى في النجف السيد علي السيستاني. ورغم ندرة المعلومات التفصيلية عن فحوى اللقاء، إلا أن مختلف المراقبين أجمعوا على وضعه تحت عنوان: "توكيد تموضع الرئيس برّي شيعياً في كنف المرجعية النجفية، المتمايزة أصلاً عن قُم۠، وذات المزاج العربي تاريخياً". نقول بتوكيد التموضع، لأنه ليس مستجداً. فالمعروف أن تيار "أمل" الشيعي، والذي يقف برّي على رأسه، كان على الدوام من مقلّدي مرجعية السيستاني وقبله الإمام الخوئي. لذا تعود أهمية هذا التوكيد إلى "توقيته". وفي هذا التوقيت نلمح توجُّهاً من جانب نبيه برّي لملاقاة الموقف الشيعي الذي تبلور مؤخراً في العراق حيال التجاذب الاميركي الايراني، في الفترة ما بين زيارة حسن روحاني إلى النجف وزيارة عادل عبد المهدي إلى طهران (راجع الفقرات تحت عنوان "في العراق"). أما إذا أخذنا بعين الاعتبار، وعلى ذمّة بعض المعارضين الايرانيين المقيمين في الخارج، تلك المعلومة القائلة بأن وزير الخارجية الاميركي، أثناء لقائه الرئيس برّي في لبنان، قد "عرض على هذا الأخير دعماً أميركياً سخياً لزعامته، إذا ما قرّر الابتعاد عن "حزب الله"".. نقول: إذا أخذنا ذلك بشيء من الاعتبار، يكون من المنطقي والطبيعي والملائم أن لا يقبل برّي بمثل هذا العرض، وأن يذهب في خياره إلى حيث ذهب... ومثلُ هذا الخيار/الموقف من شأنه -على قاعدة الحذر والتوقّي- أن يجنِّبه مجازفة التموضع الكامل في أيٍّ من الجانبين الاميركي والايراني. وقد نرى مع بعض القائلين بأن حال نبيه برّي مع "حزب الله" في لبنان هي كحال حسن روحاني مع الحرس الثوري في ايران، وأنّ الرجل- مثل صديقه وليد جنبلاط- "قاعدٌ على ضفّة النهر"!

11. ومما يطعن أيضاً في مشهديّة التوافق الداخلي (لناحية "التسوية" التي أتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وبسعد الحريري رئيساً للحكومة الحالية، بعد انتخاباتٍ نيابية أرست التسوية على نصابٍ مجافٍ لروحية اتفاق الطائف والدستور) أنّ تحالف "حزب الله"- عون اندفع مؤخراً في عملية ابتزاز لشريكه في "التسوية" (سعد الحريري)، ذاهباً في اتجاه تصفية الحساب مع الحريرية نفسها، بما تمثّل من حيثيّة طائفية ومن خيارات وطنية وعربية واقتصادية -تنموية. أعطى "حزب الله" إشارة البدء بعملية الابتزاز هذه، حينما أثار سياسياً وإعلامياً وقضائياً دعوى "مخالفاتٍ وارتكابات مالية" تعود إلى أيام حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، مصوّباً سهامه على هذه الشخصية ذات الرمزية القوية في مسيرة الحريرية الاقتصادية، في محاولة مكشوفة لتحميل هذا النهج وفريقه المسؤولية الكاملة عن الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعيشها لبنان حالياً، والتي وضعته على حافة "اختبار يوناني". وقد ترافقت هذه الحملة مع تضخيم استثنائي لمشكلة الفساد المالي والاداري، جاعلةً من هذه المشكلة خبز الكلام اليومي لدى جميع الاطراف السياسية، في محاولة مكشوفة أيضاً لصرف النظر عن الفساد الأكبر المتمثّل بمصادرة "حزب الله" لقرارات الدولة السيادية.. وهذا ما بيّنه فؤاد السنيورة في ردّه على دعوى "حزب الله"، مبيّناً في الوقت نفسه تهافُتَها قانونياً ومحاسبياً، بالإضافة إلى "كيديّتها" بالمنحى السياسي- الطائفي. لذا كان من الطبيعي أن يُحاط السنيورة باحتضان كبير من قبل تيار "المستقبل" وبيئته الطائفية، جرياً على "قواعد اللعبة المذهبية" التي أعقبت انفراط عقد القوى الاستقلالية في إطار "14 آذار" السابق. وإذ۠ كانت خيبة "حزب الله" قوية، جرّاء فشله في استفراد السنيورة، فقد تابع التيار العوني مهمة "حزب الله" في هذا الصدد، بدفعه أحد أنصاره (مدير عام وزارة المالية) إلى تكرار التصويب على السنيورة، وبدفع نصير آخر إلى التصويب على "شعبة المعلومات" في قوى الأمن الداخلي، هذا الجهاز المحسوب على التيار الحريري، والذي كانت له اليد الطولى في كشف الكثير من شبكات التخريب الاسرائيلية وغير الاسرائيلية في لبنان، فضلاً عن دوره المشهود في مساعدة التحقيق الدولي على كشف الخيوط الأولى لعملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

وإذا أضفنا إلى ذلك تلك المناكفات اليومية بين التيار العوني والقوات اللبنانية، حول الحصص في الدولة والنفوذ في البيئة المسيحية، أكثر مما هي حول خيارات كبرى، يمكن القول مع كثير من المراقبين أن "التسوية" الداخلية الشهيرة أصبحت آيلةً إلى السقوط، ولا يعصمها من ذلك حتى الآن سوى عدم جاهزية البدائل المعقولة والآمنة، في وضعٍ لبناني هو على كفّ عفريت، أو "على صوص ونقطة" بحسب عبارتنا المحلّية.

12. وفي هذه الآونة الأخيرة اجتمع تصنيف الإدارة الاميركية لـ"حزب الله" "منظمة ارهابية" مع تصنيف كل من الحشد الشعبي العراقي والحرس الثوري الايراني تحت العنوان ذاته. هذا الامر - بحسب معظم المراقبين - سيشكّل إحراجاً قوياً وإضافياً لكلٍ من الحكومتين العراقية واللبنانية، لأن الكيانين المذكورين (الحزب والحشد) محسوبين على الدولة في البلدين. وإذ سمعنا أصواتاً عراقية وازنة، من بينها رئيس الحكومة العراقية الأسبق أياد علاوي، تقول بأن الحشد الشعبي في العراق "لم يعد لوجوده أيُّ مبرّر"، لم نسمع ما يعادل تلك الأصوات في لبنان بخصوص "حزب الله"!.. وهذا مؤشّر على تعقيدات دراماتيكية مقبلة، لا سيما وأن تصنيف الحرس الثوري الايراني منظمةً إرهابية - وهو بمثابة الجيش الرسمي للنظام، والمسيطر على قسم كبير من مجمل الاقتصاد الايراني - قد اجتاح خطاً أحمر أساسياً في قواعد اللعبة بين الجانبين الاميركي والايراني. نقول بهذا التقدير لأن تصنيف الحرس على هذا النحو يتجاوز موضوعياً شعار "تغيير سلوك النظام" إلى "تغيير النظام نفسه".. إلا إذا كان الأمر يجري على قاعدة: "اطلب الحدّ الأقصى، بالتهويل الأقوى، لتحصل على حدٍّ أدنى"!.. وما هذا ببعيد عن أسلوب الرئيس الاميركي ومزاجه الارتجالي.

في اليمن

13. رغم انقضاء نحو خمسة أشهر على اتفاق ستوكهولم لحلّ الأزمة اليمنية المتمادية منذ خمس سنوات، ما زال الانقلاب الحوثي ومن ورائه ايران يمارس لعبة الكرّ والفرّ، و"القطة والفأر"، مع الأمم المتحدة والتحالف العربي، مجتمعين أو منفصلين على حدّ سواء!..

وذلك رغم أن الاتفاق مُحكَمٌ لجهة مرجعيته النظرية (القرار الدولي 2216 والمبادرة الخليجية ومُخرجات الحوار اليمني)، ومعزّزٌ بمراقبين دوليين وبصلاحيات إضافية للمبعوث الأممي الخاص باليمن مارتن غريفت. وهذا مما حيّر المراقبين، وما زال يحيّرهم، حيال معادلةٍ غير منطقية، سواء بمعيار ميزان القوى الظاهري أو معيار القانون الدولي. ففي أواخر تصريحاته (أواسط نيسان/ابريل) أخبرنا غريفت أن "الكلام على الحلّ السياسي في اليمن، بموجب اتفاق ستوكهولم، لن يبدأ إلا بعد تنفيذ الاتفاق حول الحديدة وموانئها"، فيما ظلّ الجانب الحوثي مصراً على القول بأن "الاتفاق كناية عن بنود كثيرة، وكلّ بندٍ فيه يحتاج إلى تفسير واتفاق"!

14. قبل ستوكهولم سمعنا الجانب العربي ينتقد أداء المبعوثين الدوليين إلى اليمن، لجهة تعاملهم مع طرفي النزاع (شرعية يمنية ومجموعة دول عربية مقابل ميليشيا انقلابية) على قدم المساواة، واعتمادهم اسلوب الوساطة المكّوكية بدلاً من العمل على تنفيذ قرار دولي (2216)تحت الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، ما أتاح للحوثيين التمادي في عصيانهم والمراوغة. ومن هنا جاء التصعيد العسكري من جانب التحالف العربي، تحت مطالعةٍ مفادُها أن الحوثيين لن يأتوا إلى طاولة المفاوضات إلا تحت الضغط العسكري. والحال أن المراوحة بعد ذلك الاتفاق ظلّت سيّدة الموقف، على الأرض كما على المستوى السياسي، وظلّت بيانات الخروق والخروق المقابلة هي لغة الخطاب المتبادل.. ذلك بالإضافة إلى الواقعة الأشدّ إيلاماً، وهي استمرار معاناة الشعب اليمني على حافة الكارثة الانسانية، إن۠ لم نَقُل في أتونها.

15. هل من جديد طرأ على المشهد اليمني خلال الشهرين الأخيرين، رغم استمرار معادلة أرض الصراع على ما قدّمنا؟

قد يمكن القول أن هذا الجديد، أو المستجدّ، تمثّل في نقطتين اساسيتين: الأولى، تصريحات اميركية منحازة إلى جانب التحالف العربي، على نحو أكثر وضوحاً من السابق، بالتزامن مع تصعيد لهجة التهديدات الاميركية ضد ايران. والنقطة الثانية، مبادرة الشرعية اليمنية، للمرة الأولى منذ خمس سنوات، إلى إحياء مجلس النواب من منطقة حضرموت، ليعود إلى عمله بعد انقطاع طويل، بسبب الاحتلال الحوثي للعاصمة صنعاء وتشرّد أعضائه في الداخل والخارج، بالإضافة إلى احتجاز عدد منهم في مناطق النفوذ الحوثي. هذا إلى قيام ائتلاف من 18 حزباً وتشكيلاً سياسياً يمنياً "لدعم الشرعية"، مع ظهور علامات على تقدُّم التفاهم مع "الحراك الجنوبي". كذلك طرأ تطوّر على مواقف البعثة الأممية، في اتجاه تحميل الحوثيين مسؤولية الخروق والتملّص من تنفيذ الاتفاقات. وهذا مما يُرضي التحالف العربي الذي كان يأخذ على البعثة الأممية في اليمن تهرّبها من تسمية الطرف المسؤول عن الانتهاكات.

16. الملاحظ إذا ً أن وضع التحالف العربي في اليمن قد تحسّن نسبياً في الآونة الأخيرة، بما قد يفتح كوّةً في الأفق المسدود. وعلى أي حال فإن التحسّن النسبي، مدعوماً بشيء من "العزم" على الأرض، كما تشير البيانات الأخيرة للشرعية، ليس من شأنه أن يتعارض مع التوافق العربي والدولي على أنّ الحلّ في اليمن هو في نهاية المطاف حلٌّ سياسي وليس عسكرياً. وإذا أخذنا بالاعتبار أن الجانب الحوثي- الايراني ليس في وارد التراجع سريعاً، فيما التجاذب الاميركي- الايراني على أشدّه في المنطقة، فإن مصداقية "العزمين" العربي والدولي تتوقّف على مدى نجاحهما في سدّ منافذ التمويل والتسليح والإمداد للحوثيين، خصوصاً من بوابة الحديدة وموانئها. وهذه المسألة الأخيرة برسم تحالف الدول العربية المطلّة على البحر الأحمر قبل سواها.

17. ثمة شبهٌ قويّ بين الحالتين اليمنية والليبية، لجهة المراوحة القاتلة جرّاء استنكاف المجتمع الدولي عن دفع الأمور نحو خواتيمها المنطقية السليمة. هذا الاستنكاف هو ما عبّر عنه المبعوث الأممي إلى ليبيا، غسان سلامة، بقوله: "إن عدم التوافق الدولي هو ما شجّع قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر على اقتحام طرابلس". وقد برز عدم التوافق هذا في آخر جلسة لمجلس الأمن حول ليبيا. والحال أنّ هجومية حفتر، المؤيَّدة بوضوح من جانب مصر وفرنسا والسعودية وحكومات عربية أخرى، ليست في رأينا من خارج سياق الحل السياسي المنشود، خصوصاً إذا لاحظنا مع معظم المراقبين أن حكومة الوفاق الوطني الليبية واقعةٌ في أسر المجموعات الميليشياوية، التي تتلقى السلاح من الخارج "بصورة مذهلة"، حسب تعبير غسان سلام. وقد بات معلوماً بالوقائع ما لتركيا وقطر من دور مشهود في إمداد الميليشيات الليبية (ذات الارتباطات القاعدية أو الداعشية أو الإخوانية المسلمة) بالسلاح والمال، فضلاً عن مصادر أخرى لو كشف عنها غسان سلامة لأذهلنا معه! في تقديرنا وقناعتنا أن "العزم" العربي والدولي، هنا وثمة، هو من شروط التوصُّل إلى حلول سياسية معقولة، ومن دون ذلك تبقى المراوحة القاتلة تفعل فعلها في بعض البلدان العربية المأزومة، كما في نظام المصلحة العربية المشتركة.

هل نتوقّع اتجاه الأوضاع في ليبيا نحو كسر المراوحة ووضع النقاط على الحروف، بفعل حزمٍ عربي وفرنسي مثلاً؟.. لا يبدو أن هذا الامر ميسور في الوقت الراهن، خصوصاً ‘ذا لاحظنا الضغط الدولي لوقف اندفاعة حفتر، مع إصرار هذا الضغط على عدم تحديد المسؤوليات عن الفوضى المسلحة القائمة في ليبيا، وذلك بـ" إصرار عدد من أعضاء مجلس الأمن على عدم تسمية أي جهة مسؤولة عن هذه الفوضى"، كما صرّح مندوب الكويت عقب الجلسة الأخيرة المشار إليها.

في سوريا

18. ما زال المشهد السوري يقدّم لوحةً لتوزُّع النفوذ الاقليمي المتعدّد الأطراف على الأرض السورية.. وهو توزّعٌ محكوم بالتنافس والتدافع، ودائماً تحت سقف ما سمّيناه في تقريرنا السابق "السماح الاميركي". ويبدو أن هذا السقف ازداد ضغطاً ورقابة على مختلف الأطراف، رغم كل ما قيل عن "الانسحاب الاميركي". يظهر ذلك من خلال الوقائع الرئيسية التالية:

  • لم تتمكّن تركيا أردوغان، من تحقيق رغبتها المعلنة في رسم "منطقة أمنية" شرقي الفرات تحت سيطرتها، برضا الولايات المتحدة وعلى حساب كلٍ من النظام السوري وقوات سوريا الديموقراطية الكردية. على العكس من ذلك تمكّن الأكراد - أو مُكِّنوا - من احراز نصر كبير على داعش، مستقرّين تحت راية الحماية الاميركية، ومبدّدين في الوقت نفسه طموح كلٍ من أردوغان والأسد في التقدّم نحو منطقتهم. أكثر من ذلك، قُدِّر للأكراد السوريين أن يتباهوا بكونهم أسروا أكبر عدد ممكن من مقاتلي داعش دفعةً واحدة وعلى اختلاف جنسياتهم، مقدّمين هؤلاء الأسرى "شاهد إثبات" على أصول تنظيمهم ومصادر دعمه، بالإضافة إلى آليّات تجنيدهم. وبطبيعة الحال من مصلحة آسريهم الحصول على اعترافات تدين بالدرجة الأولى النظامين التركي والسوري. إلى ذلك وفي سياقين آخرين، تلقّى أردوغان في الآونة الأخيرة ضربتين موجعتين: خسارتُه المدوّية في معركة الانتخابات البلدية، وانكشاف ضعفه أمام الولايات المتحدة وحلف الناتو في مسألة صفقة الصواريخ الروسية. وفي هذه الفترة أيضاً، برز اتجاه عربي راجح لوضع تركيا على قدم المساواة مع ايران في عدائها للمصلحة العربية.. وهو ما عبّرت عنه كلمة الأمين العام للجامعة العربية في جلسة افتتاح أعمال القمة في تونس، الأمر الذي حمل أمير قطر على الانسحاب مباشرةً!

 

  • لم يتمكّن بوتين من إنجاز "تعهّده" بإبعاد بشار الأسد عن ايران، رغم نجاحه لفترة غير وجيزة في حمايته من السقوط، لدرجة أنه (أي بوتين) بدا متفوّقاً على الايراني في هذا الصدد. على العكس من ذلك، ومع اشتداد الضغط الاميركي على ايران مؤخراً، سارع الأسد إلى زيارة مرشد الثورة في ايران وتقديم الولاء له. ولما كان قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، هو الذي دبّر تلك الزيارة، من دون علم وزير الخارجية محمد جواد ظريف، كان مفهوماً أن يسارع هذا الأخير إلى تقديم استقالته احتجاجاً، وكان مفهوماً أيضاً أن يعود عنها سريعاً، بإخراج تلفيقيّ يحفظ ماء الوجه للطرفين، من دون أن يحجب هيمنة الحرس الثوري حتى على السياسة الخارجية. والواقع أن انحياز الأسد إلى طهران في هذا الوقت، بما لا يلائم "تعهُّد" بوتين، لم يفاجئ المراقبين الذين كانوا يعتقدون دائماً بأن دالّة (مَو۠نة) ايران على النظام السوري أقوى من دالّة بوتين عليه، نظراً لتجذُّر النفوذ الايراني في سوريا مقابل حداثة النفوذ الروسي. وفي تقديرنا أن هذا التفسير، على أهميته، يحتاج إلى القول أيضاً بأن الشروط والعقبات الكثيرة التي وضعتها الإدارة الاميركية أمام الدور الروسي في سوريا (مسار استانة وعودة النازحين السوريين على سبيل المثال لا الحصر) كان من شأنها أن تُضعف قدرة هذا الدور على اجتذاب الأسد حتى النهاية، فذهب "مضطراً" إلى ايران.

 

  • مع لجوء الأسد الاضطراري إلى ايران، فإنه بذلك لم يحمِ نفسه، بل وضعها في حالةٍ من الحصار أشدّ من السابق، وفي مزيدٍ من العزلة عن العالم العربي. عبّر عن هذه الحالة الأمين العام لجامعة الدول العربية بقوله: "تعود سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية عندما نتأكّد من أن هذا المقعد لن يحتلّه الايراني!". علاوةً على ذلك، وجرّاء سياسة حرق المراكب التي اعتمدها النظام السوري، انكفأ التّسابق العربي إلى إعادة العلاقات معه، ذلك التسابق الذي جرى في الشهور الأخيرة تحت مطالعةٍ قدّمها المتسابقون مفادُها أن "الاقتراب العربي من النظام السوري من شأنه أن يُساهم في إبعاده عن ايران، كما من شأنه أن يُتيح دوراً عربياً أكثر فاعلية في الحالة السورية". ولا بدّ من القول أنه كان للسعودية ومصر، قبل وبعد زيارة الأسد الاخيرة إلى طهران، دورٌ كبير في لجم ذلك التسابق الذي جرى من قبل البعض بصورة هرولة غير متبصّرة. خلاصة القول أن وضع ايران في سوريا بات محشوراً في زاوية الدفاع المستميت عن الذات، وبالتالي لم يعد "مرتاحاً" كالسابق في مجال المناورة، وإن كان يختطف رأس النظام السوري. وما تحرزه ايران من نجاح مع أسيرها السوري مختلفٌ تماماً عما حاولت احرازه مؤخراً مع الحكومة العراقية: هنا (في سوريا) فإن حليفها قابعٌ معها في دائرة الحصار الشديد، وهناك (في العراق) فإن ما توصّلت إليه من تفاهمات الحدّ الأدنى، جرّاء زيارة رئيس الحكومة العراقية للمرشد الايراني، ترافق مع اندفاعةٍ عراقية غير مسبوقة نحو العالم العربي، كما نجح هذا الخيار العراقي في عدم الاصطدام مع الجانب الاميركي.

 

  • ماذا عن وضع اسرائيل، كقوة تدخّليه إقليمية، في المشهد السوري؟.. لا خلاف على أنها في غاية الارتياح والانشراح. فعلاوةً على اطمئنانها للتحالف الثابت مع الولايات المتحدة - وقد بات هذا التحالف الاستراتيجي معزّزاً بنفحة دينية مع الادارة الاميركية الحالية - واطمئنانها للضمانة الروسية في إبعاد الميليشيات الايرانية عن حدودها، فإنها تمارس العربدة العسكرية، متى وأين شاءت، دون رقيب أو حسيب. ليس هذا وحسب، بل تلقّت في الآونة الأخيرة مجموعة "هدايا"، قدّمها بوتين "بالتعاون مع النظام السوري" - على ما أشار بنفسه - وأبرزُها جثّة الجاسوس الاسرائيلي الشهير كوهين الذي أُعدم في سوريا عام 1965، وجثث بعض الجنود الاسرائيليين الآخرين. أمّا ردُّ النظام السوري على الاعتراف الاميركي بضمّ الجولان إلى اسرائيل، فقد جاء بصورة نمطيّة مدهشة: "لا يغيّر هذا الأمر شيئاً من واقع الاحتلال ولا من كون الجولان أرضاً سورية.. وعلى أي حال، فنحن من يحدّد مكان وزمان وأسلوب المواجهة!" ويلاحظ تقريرنا مع كثير من المراقبين، أن القوى الإقليمية المتدخّلة عسكرياً في سوريا - وقد لا نستثني أحداً - غالباً ما تلجأ إلى استرضاء اسرائيل بطريقةٍ أو بأخرى، كلما وجدت نفسها في وضع صعب مع الضغط الاميركي!

 

-  ثانياً -

في متابعة مشروع MESA وصفقة القرن

بما في ذلك الحالة الفلسطينية

 

مشروع MESA (الناتو العربي)

19. في هذه الفترة ظلّ مشروع "التحالف الاستراتيجي للشرق الاوسط) MESA يحاول التقدّم بأسلوب التّلمُّس tatonnement، من دون أن يتوصّل إلى حيازة قوامٍ ناجز. بعبارات أخرى: ظلّت الادارة الاميركية تدفع بهذا المشروع بأسلوب الخطوات التجريبية والاستطلاعية، نظراً لما يعترضه من عقبات موضوعية أو ذاتية. على رأس العقبات الموضوعية الكبرى يقف الاشتراط الاميركي بأن تكون اسرائيل عضواً أصيلاً ومؤسساً في هذا التحالف. وهذا الاشتراط شكّل إحراجاً كبيراً للجانب العربي، ما دام المشروع مسقوفاً بما سمّي "صفقة القرن"، وما دام الصراع العربي - الاسرائيلي لم يصل إلى خاتمة متوازنة تُرضي الحقيقة والأطراف المعنيّة، على ما أشرنا في الفقرات تحت الرقم (3) من هذا التقرير. ومن العقبات الذاتية وجود حكومات عربية كثيرة تغرّد خارج السّرب العربي، أو غارقة في مشكلاتها الداخلية. ولما كانت الادارة الاميركية الحالية من الصنف الذي يمضي في خياراته دون التفاتٍ لرأي الشركاء، فإنها تحاول تمرير المشروع بشروطها، وبمن حضر، وبأسلوب الأمر الواقع de facto، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. وهذه الانتقائية المزاجية من شأنها الإضرار بالمصلحة العربية، إذا ما واصلت عملها في غياب أجندة عربية موحّدة، تستطيع مخاطبة الأجندات الأخرى والتعامل معها، إن۠ سلباً أو إيجاباً.

20. والواقع أن الجانب العربي تنبّه أخيراً إلى هذه المسألة، فخطا خطوةً معتبرة على طريق تعريف أجندته وتفعيل بعض آلياتها. تمثّل ذلك في "اعلان تونس" الصادر عن القمة العربية (31 آذار/مارس 2019)، والذي قدّم تعريفاً لهذه الأجندة على درجة عالية من المبدئية والراهنية في مختلف القضايا والاتجاهات: مركزية القضية الفلسطينية والتمسك بحل الدولتين على أساس مبادرة السلام العربية، بما في ذلك رفض كل المشاريع والأفكار الرامية إلى تصفية هذه القضية وتهميش مركزيتها - التصدّي للتدخل الايراني في مختلف البلدان العربية - دعم السيادة الوطنية والاستقرار في البلدان العربية - مواجهة الارهاب بكل صنوفه وألوانه، وفي جميع الميادين العسكرية والأمنية والفكرية، بما في ذلك مطالبة المجتمع الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة بإصدار تعريف موحّد للإرهاب - تنشيط التعاون الاقتصادي والتنموي في العالم العربي، لا سيما بمدّ البلدان المقتدرة مالياً يدَ العون إلى البلدان المأزومة... وقد أحسنت القمة حين اعتبرت "العزم والتضامن" المدخلَ الرئيس والشرط الضروري للشروع في تحقيق تلك الأولويات. ذلك أنّ غيابهما على مدى عقود شكّل عِلّة الوهن العربي المقيم.

21. بالإضافة إلى تعريف الأجندة العربية (الأوليات)، ثمة خطوات أقدم عليها الجانب العربي في الشهور الأخيرة وباتجاهات مختلفة، من شأن مواصلتها وتطويرها أن يوفّرا حضوراً عربياً وازناً ومستقلاً على مساحة الصراع في المنطقة، كما على الصعيد الدولي. لعل أبرز تلك الخطوات:

  • تفعيل التنسيق والتضامن بين الدول العربية المطلّة على البحر الأحمر، بما يعزّز الأمن فيه وفي ممراته المائية الدولية، باعتباره ركيزةً من ركائز السلم الاقليمي والدولي.
  • مواصلة التنسيق والتضامن على خط الخليج –الاردن –مصر، بما يوفّر ركيزةً أساسية للموقف العربي الموحّد حيال مشكلات وقضايا كثيرة. وهذه الركيزة أعطت إشارات متعدّدة إلى انفتاحها في اتجاه كلٍ من السودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب والعراق (مؤخراً)، فضلاً عن حضورها المستمر في اليمن والمسألة الفلسطينية.
  • بروز قناعات مشتركة حول خط الاعتدال في الاسلام على مستوى العالم العربي، لا سيما من خلال التناغم بين حاضرات اسلامية كبرى: من مكة إلى الأزهر إلى النجف إلى الزيتونة إلى المغرب.
  • مواصلة الحضور العربي في إطار منظمة التعاون الاسلامي، بما وفّر احتضاناً إسلامياً للقضايا العربية المحقّة.
  • المبادرة إلى الانفتاح على اوروبا، تحت عنوان "التضامن العربي –الاوروبي من أجل السلام"، بما يساهم في توفير الأمن لحوض المتوسط، بالإضافة إلى وقاية الموقف العربي من الانحباس في اتجاه واحد من اتجاهات الاستقطاب الدولي.
  • أخيراً وليس آخراً، مبادرات الحوار الاسلامي- المسيحي من أجل السلام والأخوّة الانسانية، أكان في نطاق العالم العربي (أبرزها مبادرات الازهر)، أو بين العالم العربي وحاضرة الفاتيكان (أبرزها زيارتا البابا فرنسيس لكل من أبو ظبي والمغرب، وما رافقهما من بيانات تاريخية).

صفقة القرن

22. حتى الآن لم تطرح الادارة الاميركية بصورة رسمية وكاملة مشروع "صفقة القرن"، بعدما تمّت صياغته خلال العامين الماضيين على أيدي مجموعة صغيرة من مساعدي الرئيس دونالد ترامب، ابرزهم المستشار جاريد كوشنير والمبعوث الخاص جيسون غرينبلات. وما كُشف عن مضمون الصفقة من الجانب الاميركي لا يتعدّى إشارات قليلة بالغة الاقتضاب، ولكنها بالغة الدلالة، بحيث بادر الرئيس الفلسطيني محمود عباس، قبل نحو ثلاثة أشهر، إلى اعتبارها "اقتراحاً وقحاً ومرفوضاً لتصفية القضية الفلسطينية"، كما أسلفنا. وقد اعتمد الرئيس الفلسطيني في حينه على ما فاتحه به بصورة مباشرة كلٌ من كوشنير وغرينبلات، حول فكرة "كونفدرالية بين الضفة الغربية والاردن، مع بقاء غزة خارج الموضوع". ولهذين التردُّد في الاعلان الرسمي والاقتضاب في الإشارة تفسيرٌ في تقديرنا، سنأتي على ذكره.

23. وفي نيسان/ابريل الجاري" كشفت صحيفة واشنطن بوست أن خطة الادارة الاميركية للسلام بين اسرائيل والفلسطينيين، والتي باتت تُعرف بصفقة القرن، لا تنصّ مطلقاً على إقامة دولة فلسطينية، ولا تقدّم سوى بعض المقترحات العملية لتحسين وضع الفلسطينيين على المستوى الاقتصادي. إلى ذلك نقلت الصحيفة عن مسؤول كبير في البيت الأبيض قوله: بما أن الخطط والجهود السابقة لحل النزاع العربي- الاسرائيلي لم تثمر، فقد اعتمدنا مقاربةً بديلة تقوم على عدم حجب الواقع، والحديث بشكل صريح لقول الحقيقة. وفي غضون ذلك أبدى وزير الأمن الاسرائيلي، جيلاد إردان، ترحيباً بعدم إشارة صفقة القرن إلى الدولة الفلسطينية، قائلاً: إذا فهمت الادارة الاميركية أن الدولة الفلسطينية لم يعد لها مبرّر ولا جدوى ولا حظوظ، فتلك أخبارٌ مهمة" (سكاي نيوز-عربية 15 ابريل 2019).

24. بالإضافة إلى الرفض الفلسطيني الحاسم، والرفض الاردني الذي لا يقلّ حسماً، استوفى بيان القمة العربية الأخيرة الكلام على رفض الصفقة - دون أن يسمّيها - بإدانته كل الاجراءات الاسرائيلية والمواقف الاميركية بشأن القدس واللاجئين والجولان، مؤكداً وقوف الدول العربية إلى جانب الشرعية الفلسطينية وقراراتها. ومن الواضح أن عدم التسمية في بيان القمة إنما يعود إلى عدم طرح المشروع رسمياً حتى الآن. إلى ذلك نشرت صحيفة الغارديان البريطانية "رسالةً معارضةً لصفقة القرن، وجّهها إلى الاتحاد الاوروبي وحكومات دوله الأعضاء، مسؤولون أوروبيون سابقون، من بينهم ست رؤساء حكومات و25 من وزراء الخارجية و2 من الأمناء العامين السابقين لحلف الناتو. وقد أكّدت هذه الشخصيات في رسالتها دعم حلّ الدولتين، وإدانة انحياز الرئيس ترامب إلى الجانب الاسرائيلي، رافضةً خطة الادارة الاميركية لأنها مجحفة بحق الفلسطينيين" (سكاي نيوز، 15 ابريل 2019). إلى ذلك أيضاً اعتبر المتحدّثون باسم الأمم المتحدة أن الاجراءات الاسرائيلية والمواقف الاميركية بخصوص القدس واللاجئين والجولان هي مخالفة للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.

25. يبدو أن الرفض الواسع لصفقة القرن، بما كُشف من مندرجاتها وبما دلّت عليه الاجراءات الاسرائيلية ومواقف الرئيس الاميركي المناقضة للقانون الدولي - هذا الرفض هو ما جعل الادارة الاميركية تتريّث في طرحها رسمياً حتى الآن. بيد أن هذا التريُّث لا ينفي تقديرنا أنّ السياستين الاميركية والاسرائيلية ماضيتان في تجسيد مضامين الصفقة، بأسلوب فرض الوقائع أمراً واقعاً، ولو تدريجياً، إذا لم تواجِها ترجمةً عملية لذاك الرفض، عربياً ودولياً. وهنا تبدو الشرعيتان العربية والدولية أمام اختبارٍ مصيري لجدارتهما ومصداقيتهما، غير مسبوق. وإذ۠ جنح بعض المحللين إلى تضخيم الاعتبارات الانتخابية في مواقف الرئيس الاميركي، بمنطق تهوينيّ لأبعادها الاستراتيجية الخطيرة، فإننا نرى في هذين التضخيم والتّهوين مجازفةً أخلاقية، وإن۠ غير متعمّدة.

في فلسطين

26. ما زال تعذُّر المصالحة بين "حماس" و"فتح" يشكل "كعب أخيل" (نقطة الضعف القاتلة) في الحالة الفلسطينية، رغم جهود بعض الدول العربية في هذا السبيل على مدى سنوات، وأبرزُها الجهد المصري المتواصل حتى الآن. فهذا الانقسام الدامي لم يبدّد فقط كثيراً من الجهد الفلسطيني المقاوم للاحتلال، بل شكّل أيضاً وخصوصاً عقبة كأداء أمام فكرة الدولة الفلسطينية، المنشودة موحَدةً ومتواصلة ما بين الضفة الغربية وقطاع غزّة. ذلك أن استحواذ حماس على قطاع غزة منذ العام 2006 وابتعادها عن السلطة الوطنية في رام الله، تطوّر إلى صورة انفصال كامل، بحيث باتت حماس تغرّد بإمارتها الغزّية خارج فضاء البرنامج الوطني الفلسطيني، رغم أن السلطة الوطنية ظلّت حتى اللحظات الأخيرة تخصّص نصف ميزانيتها للقطاع. وهذا الانفصال الواقعي، والمعمّد بالكراهية والدم بين هذين الجانبين الفلسطينيين، هو ما أتاح لمشروع "صفقة القرن" أن يقوم على فكرة الفصل النهائي بين الضفة والقطاع. وقد بات واضحاً في أذهان المراقبين والمتابعين أن الترجمة العملية لفكرة الفصل النهائي، في التصورين الاسرائيلي والاميركي، تقوم على مسارين: الأول، مواصلة قضم الضفة الغربية، بتهويد القدس وضمّ المستعمرات واقتطاع ما تيسّر من أجزاء أخرى، ليُقذف بما تبقى منها نحو الاردن، إن بصورة ترحيل أو تحت عنوان "كونفدرالي" لا يمتّ إلى الكونفدرالية بصلة. والمسار الثاني هو ترك غزّة لمصيرٍ تتقاذفه نفوذات محلّية متنازعة، ومقاصّات اقليمية، وشركات استثمارية، فضلاً عن استمرار القطاع بؤرة لتصدير الارهاب. ولا شك في أن هذا المصير المشار إليه هو أشدّ ما يقلق الدولة المصرية.

27. إنّ مجمل النقد الذي وجهته السلطة الوطنية ومنظمة التحرير إلى سلوك حماس في الآونة الأخيرة يصبّ في هذا التقدير، ولا تحجبه مزايدات وطنية وثرثرات أيديولوجية. وقد ذهب هذا النقد إلى حدّ توجيه اتهام صريح لحماس بالتواطؤ المكشوف مع الخطة الاسرائيلية، أكان لجهة غائيّة الانفصال وتوظيفه في مشروع صفقة القرن، أو على مستوى حفلات التصعيد العسكري المتناغم بين حماس واسرائيل. وفي تصريحات أخيرة لعدد من قادة "فتح" ومنظمة التحرير، أنّ سقوط كل محاولات المصالحة وعشرات الاتفاقات خلال الفترة الماضية، لا يعود إلى تعقيدات المشكلة وصعوبات التنفيذ، بمقدار ما يعود إلى أن حماس لديها قرارٌ مسبق وثابت بالانفصال النهائي.. وما ذهابُها إلى المفاوضات إلا لكسب الوقت! وفي يقين السلطة الوطنية وملاحظات بعض المراقبين، أن "صمود" حماس في موقعها الانفصالي هذا لا تستمدُّه فقط من تناغمها الموضوعي أو المدبَّر مع اسرائيل - وإن۠ كان هذا العامل جوهرياً ومركزياً - بل تستمدُّه أيضاً من مساعدة أطراف أخرى، يشكّل تنظيم الإخوان المسلمين الدولي همزة وصلٍ فيما بينها، كما يمثّل التحالف التركي القطري أبرز حلقاتها في المنطقة، فيما تمتد علاقات التنظيم الدولي ما بين "القاعدة" وطهران، فضلاً عن عواصم غربية معروفة، شكّلت تاريخياً ملاذات ومقرّات لقيادة هذا التنظيم. ولا ينبغي أن يهوِّل هذا التوصيف على القارىء، لأنّ كل ما تقدّم عن نفوذ "الإخوان" لا يعوّض عن انتكاستهم العظمى في مصر عبد الفتاح السيسي، وفيما تتهاوى أو تترنّح مواقعُ لهم أخرى في السودان وتونس والجزائر وليبيا...

28. لا جدال في أن الحالة الوطنية الفلسطينية تعاني اليوم من ضغط وحصار غير مسبوقين منذ اتفاقيات أوسلو. وفي تقديرنا أن تجاوز هذا الوضع لا يتوقّف فقط على مصادر القوة الذاتية في الداخل الفلسطيني، وإن۠ كانت كثيرة: من الهبّات الشعبية المدهشة لحماية الأقصى، متجاوزةً حال الانقسام السياسي، ومستقطبةً مشاركةً لافتة من جانب الفلسطينيين في أراضي الـ48، مسلمين ومسيحيين - إلى تمرُّس الشعب الفلسطيني في تحمُّل كل أنواع العَس۠ف الاسرائيلي - وصولاً إلى جرأته في غزة على التظاهر المتواصل ضد إجراءات حماس القمعية - ومروراً بثبات السلطة الوطنية ومنظمة التحرير على حراسة المعنى الفلسطيني التحرّري... نقول بأن التجاوز لا يتوقّف فقط على النضالية الفلسطينية، بل أيضاً وخصوصاً على "السويّة العربية". ونعني بهذه السويّة قدرة العرب مجتمعين على مواجهة التحدّيات الكبرى الراهنة بأجندة عربية موحّدة، لا بأجندات متفرّقة وملحقة بالآخرين، كما أسلفنا. فنُصرةُ فلسطين لا تتوقّف على مساعدات مالية وانسانية للفلسطينيين وبيانات تأييد لقضيتهم، بل باتت المعادلة أكثر من أي وقت مضى: ننهض معاً وجميعاً، أو نسقط فرادى!.. ونعتقد أن ترابط وتداخل المعارك الجارية على الأرض العربية يؤكدان هذه المعادلة، كما تؤكدها إشارات "صفقة القرن"، بما يتعدّى منطوقها وما تسرّب منها إلى الاعلام.

________________

 

وقفة عند تطوّرين بارزين

في الجزائر والسودان

29. بصورة غير متوقّعة إلى حدّ بعيد، استفاقت المنطقة العربية خلال شهر نيسان/ابريل على تطوّرين بارزين، في غاية الأهمية والجِدّة، هما سقوط السلطة الحاكمة في كل من الجزائر والسودان. هما في غاية الأهمية لما لهذين البلدين من ثقل جيوسياسي في المنطقة العربية وأفريقيا.. وهما في غاية الجِدّة، لأنهما حدثا في سياقٍ مختلف تماماً عن سياقات العنف والفوضى التي وسمت أحداث ما سمّي "الربيع العربي" اعتباراً من أواخر العام 2011، بحيث وُضع ذلك الربيع لاحقاً تحت عناوين خريفية، وحتى شتائية مكفهرّة... والذين استمروا على حنينٍ إلى المعاني النبيلة في الشهور الأولى من الربيع الأول، لا سيما مع البوعزيزي وغنيم وكرمان والقاشوش في كلٍ من تونس ومصر واليمن وسوريا، وجدوا في ما استفاقوا عليه اليوم انبعاثاً لشيء من تحت الرماد، أشدَّ نُضجاً ونضارةً وبهاء!

30. من دون مبالغات، وأيضاً من دون الدخول في تفاصيل أخبارية، يمكن تسجيل سمات مشتركة بين الحدثين الراهنين في كلٍ من الجزائر والسودان، هي التالية:

  • انطلاق مظاهرات شعبية، سرعان ما أصبحت مليونية، مطالبة بإصلاحٍ جذري، لم يعد يحتمل التأجيل بعد تمادي الديكتاتورية والفساد لأكثر من عشرين سنة متواصلة، بما شكّل امتهاناً لكرامة الأمة، فضلاً عن إفقارها.
  • مبادرة الجيش، وبسرعة لافتة، إلى تبنّي المطالب الشعبية، وإجبار السلطة السياسية على التّنحّي. كذلك سارعت قيادة الجيش في كلٍ من البلدين إلى إعلان صريح بأن ما قامت به ليس انقلاباً عسكرياً، وإنما هو انحيازٌ لمطالب الشعب المحقّة، وبالتالي فإن الشعب هو مصدرُ أيّ سلطةٍ بديلة، يُنشئها بآلياتٍ ديموقراطية ودستورية.
  • بذلك حالت مبادرةُ الجيش دون استخدام السلطة لأداتها القمعية الرئيسية، كما أنها - وبذات الأهميّة - حالت دون استدراج عنفٍ مقابل من جانب المجتمع.
  • غياب العنف حتى الآن، واستمرار سلميّة التعبير، هما أثمن ما تجلّى في الحدثين الجزائري والسوداني، خصوصاً بالمقارنة مع ما حدث ويحدث في المنطقة العربية، ورغم وجود كثير من سوابق العنف في البلدين. لذا فإنّ أبرز ما سجّله المراقبون بهذا الصدّد، هو أنّ كلا الطرفين (الجيش والمجتمع الأهلي) قد استخلص دروس التجارب العنفيّة السابقة والجارية حالياً، فخطا خطوةً نوعية على طريق النُّضج والرشاد.
  • ويضيف "تقرير الحالة العربية" أنّ ما لاحظه المراقبون على هذا الصعيد في المشهدين الجزائري والسوداني، ليس غريباً ولا منقطعاً عما يتنامى في المجتمعات الأهلية العربية، لا سيما في الأوساط ذات الحساسية المدنية، من عزوفٍ عن الاستجابة لأبواق العنف، كما عن استقباله واستدخاله وتوطينه. وهذه مسألةٌ جديرة بالتأمُّل والمتابعة.
  • تجري الآن، في الحالتين الجزائرية والسودانية، "مغالبةٌ" واضحة بين اتجاهين: اتجاه يدعو إلى الانتقالية الهادئة، التدريجية والقانونية- الدستورية (دعوة المجلس العسكري الانتقالي)، واتجّاه يلحّ على السرعة ومطالب الحدّ الأقصى (المعارضة أو المعارضات السياسية والحزبية). وهذه المغالبة مفهومة جيداً بالنظر إلى ضعف الثقة المتبادلة تاريخياً بين الجيش والمجتمع في معظم البلدان العربية. ولكننا نلاحظ في الوقت نفسه اقتراب الجانبين، يومياً، من التفاهم والوقوف على أرض وسطية... وهذا حسنٌ في تقديرنا.
  • أخيراً، يمكن القول أن الحدثين الجزائري والسوداني (وقد يُضاف إليها بصورة جزئية التطوّر الليبي المتمثّل بمبادرة الجيش الوطني باتجاه العاصمة طرابلس) يساهمان عملياً في بلورة وتظهير اصطفاف عربي، جارٍ منذ بعض الوقت، خلفَ ما أطلقنا عليه في تقاريرنا "نظام المصلحة العربية المشتركة".