تقدير موقف دوري عدد 2

تقدير موقف دوري عدد 2
الثلاثاء 22 يناير, 2019

   العدد – 2                                                                                  22/1/2019

 

 

 

 

 

 

تقرير الحالة العربية

 

 

يرصد هذا التقرير الدوري تطوّر الأوضاع في المنطقة العربية، بقراءةٍ جيو-سياسية، ومن منظور "نظام المصلحة العربية المشتركة"، في سياق تزاحم أنظمة المصالح الإقليمية والدولية. وهو في عمله إنما يتّخذ من "مبادرة السلام العربية" (قمة بيروت 2002) و"إعلان الرياض" الصادر عن القمة العربية 2007 مرجعيةً أساسية في تقديره للأمور.. هذا مع التفاتةٍ خاصّة إلى الحالة اللبنانية، من منظور العيش المشترك واتفاق الطائف وقرارات الشرعية الدولية الخاصة بلبنان، لاسيما القرار 1701.

 

مؤشرات "المرحلة الجديدة" من الصراع في المنطقة في ضوء قرار الانسحاب الأميركي من سوريا.

 

أهو قرارٌ مربَك (بفتح الباء) أم مربِك (بكسرها)؟

 

  1. توقّف بوتين ملياً عند عبارة "المرحلة الجديدة" التي وردت في كلام ترمب، لدى إعلان هذا الأخير قراره بسحب قواته العسكرية من سوريا، متسائلاً (أي بوتين) بصوت مرتفع – وليس في قرارة نفسه فحسب - عمّا يقصده الرئيس الأميركي بهذه العبارة "المبهمة"!

هذا التساؤل "من فوق السطوح" ينمّ بالتأكيد عن شيء من الاستياء باللغة الدبلوماسية.. وهو استياءٌ ليس من القرار بعنوانه الظاهر، بل من مراميه ومن قطبةٍ مخفيّة فيه، تتعلّق بماهيّة المرحلة الجديدة التي لم يتشاور ترامب بشأنها مع "شريكه" الروسي المفترض. من هنا جاء الإرباك الروسي على الترتيب التالي: في تعليقٍ أوّل وفوري، رحّب بوتين بالقرار، واصفاً إياه بأنه "خطوة في الاتجاه الصحيح، ومن شأنه أن يسهّل الحلّ السياسي في سوريا"، هذا الحلّ الذي من المفترض أنه قد وُضع في عهدة اللاعب الروسي. وقد جاء الترحيب الفوري منسجماً مع تصريحات بوتين المتكررة في الآونة الأخيرة، ومفادُها أن "الوجود الأميركي غير الشرعي في سوريا يعرقل جهود التسوية". بعد قليل من التفكُّر تساءل بصوت مرتفع عن ماهيّة المرحلة الجديدة، ثم استدرك بقوله: "إنّ هذا الانسحاب من شأنه أن يضيف تعقيدات كثيرة على واقع الصراع في سوريا والمنطقة". وذهب أحياناً إلى التشكيك في جدّية الانسحاب، هو الذي تراجع عن قرار روسي مشابه قبل بضعة شهور! والحال أيضاً أن تصريحاً لاحقاً صدر عن متحدّث باسم البنتاغون لم يبدّد حيرة بوتين، وربما زادها بقوله: "في المرحلة المقبلة سنتعامل مع كل الأطراف بمزيد من التدّقيق والحسابات" (28/12/2018).

  1. وقد يحسن بنا عدم القفز من فوق دعوى "الشرعية" هذه، التي دأب كلٌ من الروسي والإيراني على التباهي بها، مستمداً إياها من تفاهمات واتفاقيات رسمية مع النظام السوري، مقابل "عدم شرعية" الوجودين الاميركي والتركي، المحرومَين من تلك "النعمة"! وسببُ توقّفنا ليس بداهة الحقيقة القائلة بأن "فاقد الشيء لا يعطيه"، وإنما بداهة الواقع المعايَن والمعروف، من دون أن يُقال إلا فيما قلّ ونَذَر.. وهو أن "شرعية" الدورين الروسي والايراني في سوريا إنما هي مستمدّة واقعياً وعملياً من "سماح اميركي". بدأ ذلك في عهد الرئيس باراك اوباما، حين "ابتلع" قراره الشهير بمعاقبة النظام السوري على استخدامه السلاح الكيمياوي ضدّ شعبه، ثم شرع في تنفيذ الاتفاق النووي مع ايران، مهتماُ بمعدّلات "التخصيب النووي" ومتجاهلاً "تخصيب النفوذ الايراني" في المنطقة العربية!.. ذلك لم يكن حبّاً بهذا الفريق وكراهيةً بالفريق الآخر، وإنما بناءً على رغبةٍ اميركية في أن تكون المنطقة بعد العام 2011 ساحةً لإنهاك جميع الأطراف، عبر آليّتين رئيسيتين: أليةُ حرب عربية- ايرانية بمضمون مذهبي (وكانت سابقةُ العراق بعد العام 2003 تمريناً "ناجحاً" في هذا الاتجاه)، والآليةُ الثانية هي "تحالف الأقليات" الدينية والعرقية ضد الأكثرية العربية السنية في المنطقة. وإذا كان الدور الايراني حيوياً ورئيساً في الآلية الأولى، بحكم طموح توسّعي تغذّيه ذاكرة قومية موتورة و"تكييفات" فقهيّة عقائدية، فالرئاسة في الآلية الثانية أعطيت للروسي، بحكم شهيّته المفتوحة لاستعادة دور تاريخي. هذان الدوران سمحا للايراني أن يجاهر بالسيطرة على أربع عواصم عربية، وسمحا للروسي بأن يتلزّم حماية النظام السوري، وأن يتقدّم على الايراني في هذا الشأن. ولقد كان لذلك المخلوق المسمّى "داعش" - مُذ۠ أُفرِج عن طلائعه الأولى من سجنَي "صيدنايا" و "أبو غريب" - دورٌ ملحوظ في تشغيل الآليتين المذكورتين، بحيث أُتيح لكلّ من أراد أن يضرب خصماً من هنا وهناك وهنالك - والكلُّ خصوم - أن يضربه متذرّعاً بمحاربة الارهاب!.. وبذلك أصبح لدينا عشرات التعريفات للإرهاب، وفقاً لمزاج المتحدّث ومصلحته الظرفية!
  2. توقُّفُنا عند مسألة "الشرعية" المشار اليها، أكانت مستمدّة من النظام السوري أو السماح الاميركي، لم يكن مجرّد تعقيب على تصريحات بوتين، بقصد المحاججة المنطقية، وإنما أردنا منه الإشارة مجدّداً إلى ما اعتبرناه في تقريرنا السابق (15 نوفمبر 2018) مفتاحاً، أو مدخلاً لقراءة الدور الاميركي والأدوار الأخرى في الأزمة السورية المتمادية. وذلك على قاعدة "غيمة هارون الرشيد" ("أم۠طري أنّى شئتِ، فإن خراجَكِ لي!"، وبمعنى أنّ الاميركي هو موزّعُ الادوار وسيّد مآلاتها، وليس باحثاً عن دور. وفي هذه اللعبة يستطيع أيُّ طرف أن يتحرّك و"يُبدع" داخل الهامش المُتاح له، كما يستطيع أن يدّعي "انتصارات إلهيّة" يُرضي بها غروره ومؤيّديه، ولكنه لا يغيّر شيئاً أساسياً في قواعد اللعبة التي تحدّدها موازين القوى "الفعلية والشاملة والعنيدة" في العالم والمنطقة حتى الآن. كذلك فإن مؤشّر قراءتنا لمرحلة ما قبل قرار الانسحاب الاميركي يبقى - على الأحوط والأرجح - هو ذاته في قراءتنا لما سمّي المرحلة الجديدة، لأنها ليست جديدة بالفعل من حيث الأهداف، وإن تعدّلت بعضُ التموضعات والشعارات وإشارات المرور.. وهو ما سيظهر من مجمل التقرير الحالي وتقديراته. على أننا، في ما سلف وسيأتي، لسنا من دًعاة الـ Paxa americana، ولا من المعادين لاميركا بالفطرة والأيديولوجيا والموضة الدارجة في بلادنا منذ نصف قرن، بل من المنادين بإعلاء شأن "نظام المصلحة العربية المشتركة"، وفق مبادئ العدالة والانصاف والسلام، وكما تعيّن هذا النظام في "إعلان الرياض" 2007.

عودة إلى السياق

  1. بالعودة إلى سياق الكلام على "الإرباك" الروسي، نرى أن تطيُّر بوتين من مضمرات القرار الاميركي ليس في غير محلّه. فالرجل يعلم بالضبط ما قالته الادارة الاميركية بخصوص الدور الروسي في سوريا، حين اختلت ببعض أصدقائها من العرب (دول الخليج + مصر والاردن) أثناء "حوار المنامة" أوائل نوفمبر الماضي. ففي هذا اللقاء تحدّث وزير الدفاع الاميركي مطوّلاً عن صراع روسي- اميركي في سوريا، مشدّداً على "انتهازية روسيا وتجاهلها النشاطات الإجرامية لنظام بشار الأسد ضدّ شعبه، مما يثبت - على حدّ قوله - افتقادها الالتزام الصادق بالمبادئ الأخلاقية، وأن وجودها في المنطقة لا يمكن أن يحلّ محلّ الالتزام الطويل والدائم والشفاف للولايات المتحدة حيال الشرق الأوسط" (الوطن السعودية، 4 نوفمبر 2018). وقد نرى هنا أن استقالة ماتيس، اعتراضاً على قرار الانسحاب، لا تدلّ بالضرورة على تراجع الرئيس الاميركي أمام روسيا، بمقدار ما قد تدلّ على وجود خلاف تكتيكي بين الرئيس ووزير دفاعه في هذا الشأن، أو كما أشار ماتيس في رسالة الاستقالة إلى انعدام الكيمياء بين الرجلين: "من حقّك أن يكون لديك وزير دفاع تتماشى رؤيتُه بشكل أفضل مع رؤيتك" (وكالات 21/12/2018). على أي حال، وفيما كان بوتين يكرز بعدم شرعية الوجود الاميركي في سوريا، كان يسمع "تهديدات اميركية بإلغاء مسار سوتشي-استانا، لأن هذا المسار فقد جدواه وتوّج بالفشل، بشهادة المبعوث الأممي دي ميستورا المتنحّي للتوّ عن مهمته، تحت عنوان الفشل والطريق المسدود" (العربية.نت 30/11/2018).
  2. لم يقتصر الإرباك على الروسي وحده، بل شمل كل المعنيين بالقرار، من أقربين وأبعدين، وأبرزهم التركي. فأردوغان الذي كان يتهيّأ لاجتياح منطقة الاكراد في شمال سوريا، تريّث في تنفيذ تهديداته، معلناً أن خطواته ستكون منسّقة مع الجانب الاميركي. كذلك ذهب به الحماس إلى القول بأن تركيا ستحلّ محلّ الولايات المتحدة في قيادة الحرب على الارهاب في سوريا! قيل أن هذا الحماس هبط عليه من مكالمة هاتفية مع الرئيس الاميركي، جاء فيها على لسان هذا الأخير ما مؤدّاه: "سوريا لك، يا باشا!".. وأياً ما كانت حقيقة تلك المكالمة على وجه الدقّة، فإن الغموض الذي يكتنف عملية الانسحاب وما بعدها يزيّن للكثير من اللاعبين الإقليميين إمكانية استلام الراية من الاميركي. وهذا بابٌ إضافي للمزاحمة غير الودّية بين كل الطامحين، وفي مقدّمهم الروسي والتركي. بَي۠دَ أن الطموح التركي تلقى صدمة سريعة بخصوص مسألة الاكراد. فقد سارع وزير الخارجية الاميركي إلى إطلاق تحذير دراماتيكي من احتمال حدوث "مجزرة تركية بحقّ الاكراد"، متعهداً حمايتهم في جميع الاحوال. جاء ذلك بالتزامن مع جملة إجراءات وإيحاءات اميركية أبرزها ثلاثة: تمديد فترة الانسحاب من ثلاثين يوماً إلى أربعة أشهر، مفتوحة على تمديدات أخرى، ومن دون أية روزنامة محدّدة؛ تصريحات اميركية مختلفة، مفادُها أن التزام الولايات المتحدة بحماية الأكراد لا يتوقّف على الوجود العسكري المباشر (نحو 2000 جندي اميركي)، بل هناك من الحضور الاميركي في المنطقة العربية والمتوسط ما يكفي لحمايتهم؛ إطلاق تسريبات معلوماتية (قد تعكس تبليغات مباشرة أو غير مباشرة) بأن دخول "منبج" محظور على مختلف الأطراف، الأمر الذي قد يكرر تجربة "إدلب" على نحو ما.
  3. في السياق ذاته، وفي نهاية الاسبوع الأول من يناير الجاري، أسفرت الاتصالات الاميركية مع الجانب التركي عن تصريحين في غاية الأهمية والدلالة: صدر الأول عن مستشار الأمن القومي الاميركي جون بولتون، كاشفاً فيه عن "تعهّد أردوغان حماية المقاتلين الاكراد" ومؤكداً بذلك تصريح وزير الخارجية مايك بومبيو، والثاني عن أردوغان بقوله "ينبغي للانسحاب الاميركي أن يكون منسقاً مع الشركاء المناسبين". لا يخفّى ما لعبارة "الشركاء المناسبين" من دلالة على التزاحم غير الودّي بين شركاء "الحرب ضد الارهاب في سوريا"، أكان هذا التزاحم لملء الفراغ الناجم عن الانسحاب المنتظر، ودائماً بالتفاهم مع اميركا، أو كان بسبب تباين أجندات الشركاء. إلى ذلك فإن تعهُّد أردوغان "حماية المقاتلين الاكراد (بحسب رواية بولتون من اسرائيل، وعلى قاعدة التمييز بين وحدات حماية الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني) يقوّي احتمال أن يكون الحديث الاميركي- التركي قد تطرّق بشكلٍ ما إلى وجوب تصدّي تركيا لمحاولات التمدّد الايراني الميليشياوي والسوري النظامي نحو منطقة الاكراد. غير أن مسارعة أردوغان إلى نفي حكاية "التعهُّد" ورفضه استقبال بولتون بسبب تصريحاته، ينمّان عن حدوث استعصاء في عملية التفاهم بين الجانبين، كان يفضّل التركي عدم الكشف عنه بهذا الاسلوب الاميركي الفجّ، أي بحكاية التعهُّد. وقد ترافق سوء التفاهم هذا مع كلام منسوبٍ إلى "مصادر تركية"، تتّهم فيه الإدارة الاميركية بالعمل على "تقسيم المساحة السورية مناطق نفوذ متضاربة المصالح، على غرار ما فعل اتفاق سايكس بيكو قبل مائة عام ونيّف" (العربية 8/1/2019).

بطبيعة الحال لا يذهب بنا الظنّ إلى احتمال أن يتخلّى أردوغان عن رفضه أية كيانية كردية مستقلّة في شمال سوريا، كما لا نظنّ أن الاميركي يطالبه بذلك (سبق للأميركي أن امتنع عن تأييد مشروع الانفصال في اقليم كردستان العراق قبل بضعة اشهر، رغم نتائج الاستفتاء الكردي التي جاءت لصالح الانفصال). علاوةً على ذلك يرى أكثر المراقبين أن الاتجاه الأقوى لدى أكراد سوريا هو اتجاه غير انفصالي. جُلّ ما في الأمر - على ما يبدو من وجهة النظر الاميركية في هذه المرحلة - أنه لا ينبغي لأكراد سوريا أن يكونوا ورقة في يد الايراني و/أو النظام السوري، خصوصاً بعد "استغاثتهم" بالنظام السوري، بوصفه "أهون الشرّين"!.. رغم تلك التصريحات النارية المتبادلة بين الاميركي والتركي على المستوى السياسي، لم تتوقف المباحثات بين الجانبين على المستوى العسكري. ويبدو أن تلك المباحثات شهدت استعصاءً مرة ثانية، الأمر الذي حمل ترامب في 13 يناير الجاري على إطلاق "زئير" على التويتر، بصورة "تغريدة": الولايات المتحدة ستحطّم تركيا اقتصادياً إذا ما ضربت الاكراد!".. في اليوم التالي ردّ أردوغان على التغريدة بتصريح: ستقيم تركيا منطقة أمنية في شمال سوريا، كما اقترح ترامب"!.

  1. على تلك الصورة يبدو أن البوليتيكا الاميركية ماضيةٌ نحو جعل الأطراف المتأهبة لدخول منطقة الاكراد، من التركي إلى الروسي إلى النظام السوري إلى الميليشيات الايرانية، في مواجهة بعضها بعضاً، إن۠ عاجلاً أو آجلاً. وبذلك يكون "التريُّث" الاميركي، مقروناً بمناورات القوة السياسية، قد لامس مقاصد القرار ومضمراته، أكثر مما عبّر - كما فسّر البعض - عن تراجع أمام ضغوط داخلية اعترضت عليه منذ البداية. وبذلك أيضاً قد يكون التقدير الاسرائيلي بخصوص الاكراد أقرب إلى الواقع، بقوله: "إن الانسحاب الاميركي من سوريا لن يؤثّر على الاكراد.. إن ما يدور من "نُواحٍ" كردي ليس إلا دعاية إعلامية"، بحسب موقع "ديبكا" الالكتروني العبري، والمقرّب من الاستخبارات الإسرائيلية (22/12/2018).

وعلى أيّ حال، فإن جولة وزير الخارجية الاميركي في المنطقة اعتباراً من 8/1/2019 (بدأت بالاردن ومصر، بينهما زيارة سريعة للعراق، وستشمل دول مجلس التعاون الخليجي الستّ)، تحت عنوان "توضيح السياسة الاميركية في المنطقة بعد قرار الانسحاب"، كشفت عن ملامح أساسية في هذه السياسة:

  • التشديد على استمرار الحضور الاميركي بقوة في الشرق الاوسط، وبكل المعاني السياسية والعسكرية والاقتصادية.. وهو ما اعتُبر "رسالة طمأنة للحلفاء على ثبات استراتيجية واشنطن في المنطقة" لا سيما بتصريح بومبيو من على متن الطائرة التي أقلّته إلى عمّان: "أريد التأكيد أن الولايات المتحدة لا تزال معنيّة بكل المهمات التي انخرطت بها في السنتين الماضيتين" (أ.ف.ب. 9/1/2019).
  • إن الادارة الاميركية ملتزمة مواصلة الحرب ضد الارهاب، بوجهيه المتلازمين: إرهاب أصولي سنّي (داعش والقاعدة - وفي مصر أضاف وزير الخارجية المصري جماعة الإخوان المسلمين، فيما كان بومبيو إلى جانبه أثناء المؤتمر الصحافي المشترك)، وإرهاب أصولي شيعي (تمثّله ايران وأذرعها الميليشياوية في المنطقة). ولعلها المرة الأولى التي تذهب فيها السياسة الاميركية نحو هذا الربط الواضح بين العنفين، خلافاً لمقولة "سنّية الارهاب" بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001، تلك المقولة التي استغلّتها ايران إلى أقصى الحدود على مدى سنوات.
  • توجيه انتقاد غير مباشر لسياسة اوباما في المنطقة، تلك السياسة التي أفضت عملياً وفي نهاية المطاف إلى "تعزيز سيطرة النظام السوري على الأرض بفضل روسيا وايران". هذا معطوفاً على تصريح سابق لبومبيو، في اكتوبر الماضي وأمام المعهد اليهودي للأمن القومي الاميركي، بأن الولايات المتحدة "لن تموّل إعادة الإعمار في سوريا طالما ان القوات الايرانية أو المدعومة من ايران لم تغادر هذا البلد نهائياً". ومعلومٌ أن إعادة الإعمار مرتبطة أيضاً بعودة النازحين السوريين وبنجاح عملية الانتقال السياسي وفق مبادئ "جنيف واحد".. وهما عمليتان تنطّحت روسيا لإنجازهما، ولكنها لم تكفّ عن الشكوى من عزوف الادارة الاميركية عن مساعدتها بشأنهما. ليس هذا وحسب، بل إن ترامب نفسه صرّح مؤخراً بأن إعادة الاعمار في سوريا ستُناط بالمملكة العربية السعودية!
  1. ما تقدّم من ملامح أساسية حتى الآن يؤشّر بوضوح إلى أن عنوان "الانسحاب" لم يكن دقيقاً - وإن۠ حاول هذا العنوان الاشتغال على تعهّدات ترامب الانتخابية السابقة - وأنّ ما حدث ويحدث على الأرض لا يتعدى كونه تعديلات طفيفة في التموضع العسكري، يصاحبها مزيدٌ من "الهجومية" الاميركية بالمنحى الاستراتيجي. وطفافة هذا التعديل تظهر فوراً بالمقارنة مع ضخامة الحضور العسكري الاميركي في المنطقة وثباته، حتى مع بعض النجاح في تقليل عدد الجنود على أرض الاشتباكات هنا وهناك (العراق، أفغانستان وأخيراً سوريا). أما الهجومية الاستراتيجية فأكثر ما تظهر في مشروع "تحالف الشرق الاوسط الاستراتيجي - MESA"، "الذي طرح فكرته للمرة الاولى الرئيس الاميركي في مايو 2017، ثم كشفت الولايات المتحدة أن الأطراف التي ستنضمّ إليه هي دول مجلس التعاون الخليجي بالإضافة إلى مصر والاردن. وكان من المفترض أن يتمّ الاعلان عنه رسمياً في أكتوبر 2018، ولكنه تأجل إلى بداية العام الجديد.. وها هي جولة وزير الخارجية الاميركي، بتوقيتها وبرنامج زياراتها والمضامين التي أفصح عنها بومبيو خلال هذه الجولة، تشكّل "إعلاناً" لهذا المشروع الذي - بحسب بعض المراقبين - ما زال ينقصه كثير من المسائل الإجرائية، كما تعترضه بعض المعوّقات، وأبرزها مشكلات قطر مع الرباعية الخليجية، ولا سيما تلك المتعلّقة بتحالفها مع تركيا على قاعدة دعم منظمات الإسلام السياسي الجهادية في المنطقة" (التقرير الاستراتيجي الاول 2018-2019، الصادر عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة - الامارات العربية المتحدة). وفي تقديرنا أن الإسلام السياسي، بشقّيه الجهاديين السنّي والشيعي، بات متعذراً انسجامُه مع التوجهات الاستراتيجية للدول العربية المعنيّة بتحالف MESA، خصوصاً مع إعلان بومبيو أن الهدف الرئيس لهذا التحالف الجديد هو التصدّي لمخاطر الإرهابين، معاً وجميعاً.. ولا يبدو حتى الآن كيف ستحلّ الادارة الاميركية هذه الاشكالية، مع استمرار إصرارها على وجود قطر ضمن التحالف (آخر التصريحات الاميركية بهذا الخصوص، هو كلام بومبيو على أن وحدة الموقف الخليجي تشكل شرطاً أساسياً لنجاح المشروع). وفي تقديرنا أن تحالف MESA يمثّل المؤشر الأبرز للمرحلة المقبلة.
  2. استكمالاً لجردة المواقف المربَكة (بفتح الباء)، قد يكون الارباك الفرنسي هو الأكثر ظهوراً. ففي ردّ فعلٍ أول صرّحت مساعدة وزيرة الدفاع الفرنسية بأن بلادها ستلتزم قرار الانسحاب، رغم اعتراضها على ما زعمه ترامب من "قضاء على داعش". ولكنّ وزيرة الدفاع سرعان ما صرّحت بخلاف ذلك، مؤكدة استمرار فرنسا في محاربة داعش رغم القرار الاميركي. ثم إن الوزيرة نفسها، وبسرعة أيضاً، عادت إلى القول بأن بلادها "عازمة على إنهاء المهمة ضد داعش في سوريا قبل إنجاز الانسحاب الاميركي المعلن" (وكالات 1/1/2019). هذا ولا يتوقّع المراقبون أي ترجمة عملية للاتصالات الفرنسية -الروسية الأخيرة "بهدف مواصلة الحرب على داعش وبمعزلٍ عن القيادة الاميركية".

لعل الموقفين البريطاني والالماني كانا أقلّ أقلّ إرباكاً، وإن۠ كانا أكثر حسماً في نفي حكاية القضاء على داعش. ونقدّر أن قلّة ظهور الارباك لدى هذين الطرفين إنما تعود إلى اقتصادهما في الانفعال والكلام المرسَل، خلافاً لما وصفه البعض بـ" التسرّع الفرنسي والارتجال" في عهد الرئيس ماكرون. هذا ولا ننسى أن دعوة الرئيس الفرنسي إلى "اشتقاق سياسة دفاعية أوروبية بمعزل عن اميركا وحتى بمواجهتها" ما تزال موضوعَ سوء تفاهم مفتوحاً مع الادارة الاميركية.

هناك طرفان اثنان لم يظهر الارباك أو المفاجأة في مواقفهما المعلنة، وربما أظهرا العكس: الاسرائيلي والايراني. أما الاسرائيلي فذاك لشدّة اطمئنانه إلى تفاهماته الراسخة والمتجددة على الدوام مع الجانب الاميركي، وبصرف النظر عن الادارة القائمة. لذا جاء موقفه من قرار الانسحاب على صورة واحدة لم تتعدّل أو تتذبذب: "بانسحابٍ أو من دون انسحاب، فإن اسرائيل تعرف كيف تدافع عن نفسها ومصالحها، وستواصل تدخّلها في سوريا كلّما دعت الحاجة وبالطريقة التي تراها مناسبة". والمُلاحظ أن هذا التدخّل لم يتوقّف في الآونة الأخيرة، إن۠ عبر الضربات الاسرائيلية لأهدافٍ ايرانية في سوريا - على جاري القول - أو بفتح ملفّ "أنفاق حزب الله" على الحدود اللبنانية - الاسرائيلية. ويُجمع المراقبون على القول بان اسرائيل في ذلك لا تعوّل فقط على التنسيق الدائم مع الجانب الاميركي، بل "تضع في جيبها" أيضاً تعهّدات أطراف أساسية أخرى بخصوص أمنها، لا سيما الروسي والتركي.

وأما الايراني فما وِسعَه إلا تشغيل اسطوانته الايديولوجية المعهودة: "قرار الانسحاب يدل على إرباك الادارة الاميركية.. لا بل هو دليلٌ ساطع على هزيمة اميركا في المنطقة"! مثلُ هذا الموقف لا يخاطب إلا جمهور البروباغندا الايرانية في الداخل أولاً وفي الخارج استطراداً. أما في واقع الأمر فهو هروبٌ إجباري إلى الأمام. ذلك أن النظام الايراني يدرك تماماً ما معنى "فتح ملف نفوذه في المنطقة"، على ما أجمعت كل التصريحات الاميركية في عهد ترامب، ولا سيما توضيحات بومبيو في جولته الأخيرة، باعتبار أن انسحابه من الإقليم و"رجوعه نظاماً على رأس دولة عادية أو طبيعية" - بحسب المطلب الاميركي المعلَن والمطابق للمطلب العربي الرسمي - يؤديان على الأرجح إلى سقوطه في الداخل!.. وما التصريحان الأخيران لكل من مرشد الجمهورية خامنئي ("العقوبات أصبحت تشكل ضغطاً شديد الوطأة على المجتمع الايراني") ورئيس الجمهورية روحاني ("ترسانة الاتحاد السوفياتي العسكرية لم تحمه من السقوط") إلا مؤشّر قوي على التجاذب القائم في ايران بين خيارين: خيار الحرس الثوري في مواصلة "اختبار القوة"، استناداً إلى تشغيل مواقع نفوذه الرئيسية في المنطقة العربية (سوريا، لبنان، العراق واليمن)، مقابل خيار "الواقعية الليبرالية" الداعي إلى إنقاذ النظام في الداخل بتراجعات مدروسة في الإقليم. وهذا الخيار الأخير يمثّله روحاني (بتقاطعاته الكثيرة مع إرث المعارضة الايرانية الممتدّة من الخاتمية إلى الرفسنجانية) كما يدعمه موضوعياً تصريح خامنئي المشار إليه.

 

مؤشّرات الممانعة الايرانية

  1. بالإضافة إلى ما أطلقه الحرس الثوري مؤخراً من بالونات ممانعة (أبرزها الإكثار من استخدام الصواريخ الباليستية، وإرسال اقمار اصطناعية إلى الفضاء، وصولاً إلى التصريح بعزمه على استئناف التخصيب النووي بما يتجاوز المعدّلات المتّفق عليها)، تبقى مواقع نفوذه الرئيسية في المنطقة العربية هي المعوّل عليها في ممانعته. وذلك على النحو التالي:

 

  • في لبنان.

شكل "احتجاز الدولة" في لبنان العنوان الجامع والرئيس لما تقوم به ايران في هذا البلد - بواسطة حزب الله - من "مواجهةٍ مع الولايات المتحدة واسرائيل" - بحسب الشعار المرفوع - واستطراداً مع العالم العربي. تمثّل ذلك بالعمل في خطوط أربعة:

  • التحكُّم بقرار السلم والحرب بين لبنان واسرائيل (حرب تموز 2006 نموذجاً)، ثم قتال حزب الله في سوريا لصالح الأجندة الايرانية اعتباراً من العام 2013.
  • الإبقاء على موقع رئاسة الجمهورية شاغراً لمدة سنتين ونصف، لم تنتهِ إلا بوصول مرشّح حزب الله (العماد ميشال عون) إلى سدّة الرئاسة عام 2016.
  • تعطيل تأليف الحكومة نحو ثمانية أشهر حتى الآن، لفرض المعادلة الوزارية التي يُريدها حزب الله.
  • السعي الدائم لإلغاء اتفاق الطائف لعام 1989، القائم على المناصفة الاسلامية - المسيحية في صيغة الحكم، والاستعاضة عنه بمؤتمر تأسيسي جديد يقوم على المثالثة الشيعية – السنّية - المسيحية، الأمر الذي من شأنه أن "يضرب العيش اللبناني المشترك"، بحسب عبارة البطريرك الماروني الأسبوع الفائت. ولقد كان لايران مداخلات مباشرة في هذا المسعى منذ العام 2007 (على هامش مؤتمر الحوار اللبناني في سان كلو - فرنسا).

في اللحظة الراهنة تطغى على المشهد السياسي اللبناني صورة التعطيل الحكومي الذي فرضه حزب الله منذ ثمانية أشهر، بالتزامن مع العقوبات الاميركية الجديدة على ايران. وقد اختلق لتلك الغاية أعذاراً داخلية جرّاء اشتراطاته على عملية التأليف.. وإلا "لا حكومة!"، على حدّ تعبيره وعلى ما أبلغه إلى كل المعنيين. من تلك الاشتراطات: عدد الوزراء وتوزيع الحقائب، ثم إصراره على تمثيل حلفائه من النواب السنّة، وصولاً إلى رفضه حصول رئيس الجمهورية وتيّاره السياسي على 11 وزيراً في الحكومة الثلاثينية.. وهو نِصاب التعطيل أو ما يعرف بالثلث المعطل.. بَي۠دَ أنّ هذه العناوين الخلافية وأمثالها لا تشكل - في نظر المراقبين الموضوعيين - السبب الحقيقي للتعطيل، بمقدار ما تمثّل ذريعةً لقرار ايران بمواصلة ارتهان الحالة اللبنانية في مواجهة الهجوم الاميركي عليها منذ اعلان قرار الانسحاب من سوريا. وهذا العامل الإقليمي أقرّ به أخيراً رئيس الجمهورية، وللمرة الأولى، بقوله: "إنّ اللاستقرارالسياسي في لبنان يعود إلى طموحات الأفرقاء الداخليين والصراع الدائر في المنطقة" (14/1/2019). بالإضافة إلى معاندة رئيس الحكومة المكلّف (بخصوص تمثيل سنّة حزب الله) وعدم استجابة رئيس الجمهورية لاشتراطات حزب الله (بخصوص الثلث المعطّل)، جاءت زيارة وكيل وزارة الخارجية الاميركية ديفيد هيل (15/1/2019) لتعطي دفعةً قويّة لمن يريدون مواجهة النفوذ الايراني في لبنان. وذلك بتشديده على التزام الادارة الاميركية دعم المؤسسات الأمنية المخوّلة حصرياً الدفاع عن لبنان، واعتباره حزب الله - بصفته الميليشياوية فضلاً عن تصنيفه إرهابياً بنظر الادارة الاميركية - عقبة أساسية في وجه قيام الدولة، وصولاً إلى تشجيعه حكومة تصريف الاعمال القائمة على المبادرة لمواجهة التحديات الاقتصادية...

وفي تقديرنا أن الكلام الجريء الذي أطلقه البطريرك الماروني أثناء اجتماعه بالقيادات المارونية في بكركي (16/1-2019)، وتحذيره الشديد اللهجة من "مشاريع لإلغاء اتفاق الطائف، ودعوات في السرّ والعلن إلى مؤتمر تأسيسي جديد من شأنه إحلال المثالثة محلّ المناصفة في صيغة الحكم، يُضاف إلى ذلك عملٌ متواصل لتكريس أعراف جديد مخالفة للدستور..." - نقول بأن هذا التحذير يعدُّ من أبرز المؤشرات المستجدّة في لبنان والدالّة على تحدّي سلطة الأمر الواقع التي يمثلها النفوذ الايراني. نقول بهذا لعلمنا وعلم الجميع أن البطريرك الماروني نفسه ذهب في بعض الأوقات السابقة إلى المطالبة بعقدٍ اجتماعي جديد، تحت وطأة الضغط الذي مارسته أطروحة "تحالف الأقليات". بعبارات أخرى: إذا كانت موجة "تحالف الأقليات" التي ركبها الايراني سابقاً، والتي أدّت فيما أدّت إلى مطالبة مسيحيي الشرق بحماية دولية، فإن الموجة الجديدة التي تطلقها الادارة الاميركية بوجه النفوذ الايراني في المنطقة من شأنها أن تغذّي دينامية معاكسة للسابقة على المستوى المسيحي.. وهذه فرصة مؤاتية لدعاة "عودة الدولة بشروط الطائف والدستور القائم، مع وفاء لبنان لانتمائه العربي، والتزامه قرارات الشرعية الدولية الداعمة لسيادته واستقلاله" كي يشكل هؤلاء فريقاً وطنياً، اسلاماً - مسيحياً، بدلاً من بقائهم متفرّقين وعلى أنصبةٍ مذهبية.

ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى المحاولات التي بذلها التحالف السوري- الايراني في لبنان، لإلغاء أو تأجيل القمة العربية الاقتصادية، عشية انعقادها في بيروت (20/1/2019)، تارةً بالاعتراض على عدم دعوة سوريا، وطوراً بالاعتراض على دعوة ليبيا!.. وهذا مؤشر إضافي على "فشل محاولات عزل لبنان عن بيئته العربية"، بحسب تصريح بعض الدبلوماسيين العرب المشاركين.

خلاصة القول في الحالة اللبنانية الراهنة هي أنّ هذه الحالة باقيةٌ في مدار التجاذب، لأن ايران لن تتخلّى بسهولة عن هذا الموقع المميّز لنفوذها في المنطقة. بَي۠دَ أن معادلة التجاذب باتت مفتوحةً على مزيد من إمكانية تعديل ميزان القوى في لبنان لغير صالح ايران، بعد عودة الاهتمام الاميركي بهذا البلد من بعد "إهمال". هذا ولا بد من التشديد على وجوب تفادي أفخاخ العنف والفوضى في سياق "استعادة السيادة".

  • في العراق.

تتماثل الحالتان العراقية واللبنانية من بعض الوجوه، وتتميزان من وجوه أخرى.. وحديثُنا هنا ما يزال يدور حول "مؤشرات الممانعة الايرانية".

على صعيد التماثُل، رأينا خلال الشهرين الأخيرين كيف أن ايران حاولت فرض شروطها على تشكيل حكومة عادل عبد المهدي، بإصرارها على الإمساك بحقيبتي الدفاع والداخلية، وبالتساوق مع اصرارها على دور مستمر ومستقلّ لميليشيات "الحشد الشعبي" الخاضعة لتوجيهات الحرس الثوري الايراني. وهذا الدور "المستقلّ والمستمرّ" للحشد الشعبي في العراق هو محاولة للتماثل مع دور "حزب الله" في لبنان، ودائماً بذريعة ضعف الجيش الوطني النظامي هنا وهناك. ومعلومٌ لدى المراقبين أن الأطروحة الايرانية تروّج منذ مدّة غير قصيرة لفكرة الاعتماد على الحشود الشعبية في بلدان الاضطرابات العربية، بدلاً من الجيوش النظامية.. وهي فكرةٌ تستلهم واقع الثنائية الدفاعية في ايران، بين الجيش والحرس الثوري، مع رجاحة هذا الأخير وتغوّله. وعلى صعيد التماثُل أيضاً لاحظنا تمسّك ايران بشروطها حيال الحكومتين، بالتزامن مع الإعلانات الاميركية (جولة بومبيو) بخصوص المواجهة المفتوحة مع ايران في المنطقة العربية. ومن وجوه التماثُل البارزة ما يشعر به رئيسا الحكومتين المكلّفين، عبد المهدي والحريري، من وجودهما بين ضغطين شديدَي الوطأة: ضغط النفوذ الايراني في بلديهما، وضغط السياسة الاميركية على مستوى المنطقة في المرحلة الراهنة، الأمر الذي جعلهما يعبّران، كلٌ على طريقته، عن مطلب واحد يمكن صياغته بهذه العبارات: "رفقاً بنا يا جماعة الخير.. سواءٌ بشأن العقوبات، أو بشأن التعامل مع قوى الأمر الواقع بخصوص خطتنا الدفاعية- الأمنية!".

أما على صعيد الاختلاف بين الحالتين، فابرز ما يحقّقه ذاك الحضور الاميركي المباشر في العراق منذ العام 2003. وإذا كان هذا الحضور قد ترافق مع نوع من المساكنة الاميركية- الايرانية هناك لمدة تزيد على عشر سنوات، إلا أنه شكّل في الوقت نفسه عامل ضبطٍ وكبح لطغيان النفوذ الايراني، الأمر الذي ساهم أخيراً في توهين الاصطفاف الشيعي العام خلف سياسة حزب الدعوة الموالي لايران، لا سيما بالتزامن مع انكشاف تلك السياسة عند واقعتين كبيرتين: السقوط المشين للجيش العراقي أمام داعش في الموصل، والفساد المالي بأرقام فلكية ذهبَ أكثرها لتمويل "الجهاد الايراني" في المنطقة. يُضاف إلى ذلك العامل الاميركي - وربما يعادله بالمعيار الاجتماعي - تمايزُ المرجعية الدينية الشيعية في النجف عن اتجاه حزب الدعوة، واستطراداً عن ايران، ما جعلها في الوقت المناسب رافعةً معنوية كبرى لحركات الاحتجاج الشعبي ضد ايران في العراق، كما لانفكاك بعض القوى السياسية الشيعية عن التحالف بقيادة حزب الدعوة.. وهو ما تجسّد في معادلات تأليف حكومة عبد المهدي، فضلاً عن تكليفه بالذات. وبالمقارنة مع الحالة الشيعية في لبنان، فهذه ما تزال ممسوكة ايرانياً وبقوّة، لأنّ الدولة اللبنانية المتعثّرة بعد الطائف، وحتى بعد انتفاضة السيادة والاستقلال عام 2005، عجزت عن أن تمثّل كنفاً آمناً وجاذباً لعموم الشيعة، الذين تُركوا في هذه الحالة نهباً لحزب الله، بمن فيهم حركة "أمل" الشيعية، رغم أن التشيُّع اللبناني كان تاريخياً أقرب إلى النجف، عقيدياً وعروبياً، منه إلى قُمّ.

تقديرنا، وكما قلنا بصدد الحالة اللبنانية، أن ايران لن تتخلّى بسهولة عن موقعها المميّز في العراق، وستواصل الممانعة بكل ما ملكت من أدوات، وإن كانت هذه الممانعة مفتوحةً على مزيد من الوهن في هذا البلد، نظراً لأنّ "زواج المتعة" الاميركي- الايراني هناك قد انتهى أجله.. ومعلومٌ أن زواج المتعة هو بالتعريف الفقهي "عقدٌ منقطع بتحديد الأجل".

  • في اليمن

جاء اتفاق ستوكهولم، برعاية أممية، على أثر الهجوم العسكري المكثّف الذي شنّه التحالف السعودي- الاماراتي منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي ضد مواقع الحوثيين في الحديدة. وكانت وجهة نظر التحالف العربي المعلنة أنّ الحوثيين لن يأتوا إلى طاولة المفاوضات بمرجعيّاتها المعلومة (المبادرة الخليجية + مُخرَجات الحوار الوطني اليمني + القرار الدولي 2216) إلا مرغَمين. هذا مع العلم أن ذاك الهجوم كان محفوفاً بإحراجات سياسية وإنسانية، نظراً لما سبقه من تركيز إعلامي ودبلوماسي غربي على الحجم الكارثي للدمار الذي تُحدثه غارات التحالف، لا سيما على صعيد المنشآت والأفراد المدنيين، فضلاً عن عنوان "المجاعة" الذي تصدر تقارير كثير من الجمعيات الانسانية والتصريحات الدولية.

وقد اعتبر التحالف أن توقيع اتفاق ستوكهولم ببنوده الأساسية جاء مصدِّقاً لتوقّعاته. وتلك البنود هي: "وقف الاشتباكات بإشراف مراقبين دوليين- إشراف دولي على ميناء الحديدة والموانئ الأخرى القريبة- تسليم الأمن في المنطقة إلى قوات محلية تابعة للشرعية الحكومية- تبادل الأسرى بين الطرفين- مواصلة المفاوضات بعد تنفيذ البنود السالفة الذكر.

والحال أن الحوثيين لم يلتزموا أياً من تلك البنود حتى منتصف يناير الجاري.. إذ۠ تابعوا سياسة التحايل والالتفاف على القرارات، ابتداءً من السطو على المساعدات الانسانية وإعاقة وصولها، مروراً بالتحايل على تشكيل القوات المحلية، وصولاً إلى الاستنكاف عن تبادُل الأسرى والاعتداء على موكب قائد المراقبين الدوليين، بالإضافة إلى مواصلتهم إطلاق الصواريخ البالستية والطائرات الموجّهة، من صنع ايراني.. التقدُّم الوحيد والمتأخّر تمثّل بالتوافق على الشروع في إجراءات التبادل، بعد وساطة أردنية، بحسب ما صرّح المبعوث الأممي غريفتس.

وفقاً لتصريحات سعودية واماراتية كثيرة في هذه الآونة الأخيرة، فإن جُلّ المشكلة يكمن في أسلوب التعامل الدولي مع الأزمة اليمنية.. وهو تعاملٌ يقوم عملياً على مساواةٍ غير منصفة بين ميليشيا خارجة على الدولة، ومدانة بموجب قرار دولي يقضي بتجريدها من السلاح وإخلاء كل المواقع التي احتلّتها منذ بداية الانقلاب، وبين تحالف عربي يضمّ أكبر البلدان الخليجية فضلاً عن الشرعية اليمنية ممثلةً بحكومة الرئيس المنتخب. فالمفارقة إذاً هي أن المبعوثين الأمميين إلى اليمن (ثلاثة حتى الآن على التوالي)، والمكلّفين بتطبيق قرار دولي تحت الفصل السابع (2216)، تصرّفوا كسعاة بين الطرفين، وباحثين عن مرجعيةٍ للحلّ، هي في الواقع موجودة ومعروفة.. فتأمّل!!

على ما تقدّم لا يرى المراقبون أيّ حلّ قريب للأزمة اليمنية، بل ستبقى المراوغة الحوثية، وسيواصل الايراني ممانعته في اليمن، على غرار ما لاحظنا في العراق ولبنان، ولو اضطُرّ إلى "تمويل حرب الحوثيين ببراميل النفط، بدلاً من العملة الصعبة غير المتوفّرة لديه"، بحسب تقرير دولي صدر مؤخراً (العربية 18/1/2019). هذا ولا بدّ من القول أنّ مواصلة الممانعة الايرانية في اليمن تعني بلا مواربة مواصلة استنزاف التحالف العربي بقيادة السعودية، لا سيما إذا تواصلت "ميوعة السياسة الأممية" هناك!

  • في سوريا

معركة الممانعة في سوريا تمثّل أمُّ المعارك بالنسبة لايران في هذه المرحلة. وذلك لسببين مجتمعين: الأول، أن الهدف الرئيس والمعلن للسياسة الاميركية قد تعيّن بصورة أكثر وضوحاً وحسماً من أي وقت مضى، وهو إخراج ايران من سوريا.. ولا حاجة بنا إلى استعادة التصريحات الاميركية بهذا المعنى في الآونة الأخيرة. والسبب الثاني الذي لا يقلّ عن الأول وضوحاً ودلالة، هو أن خروج ايران من سوريا يؤدي إلى خروج نفوذها من كل المنطقة العربية، على طريقة متواليات انهيار أحجار الدومينو. ذلك أن استراتيجية التدخل الايراني في شؤون المنطقة العربية، على رافعة "المقاومات"، قد انبنت منذ أواخر الثمانينيات على "حجر زاوية" هو التفاهم مع نظام البعث السوري، واتخاذ سوريا ولبنان منطلقاً لتحقيق تلك الاستراتيجية. يضاف إلى ذلك أن معركة سوريا الآن باتت معركة كل القوى المعنيّة بالشرق الأوسط، كما يبدو جلياً بأبسط المشاهدة الجيوبوليتيكية. وعليه فإن ما رأينا في هذا التقرير حتى الآن، من ممانعات ايرانية في كل من لبنان والعراق واليمن، يبدو على صلة بأمّ المعارك في سوريا، من دون أن نهمل خصوصياته المحليّة.

كيف ستُخرِج الادارة الاميركية ايران من سوريا؟

أجاب وزير الخارجية الاميركية عن هذا السؤال بعبارة مقتضبة، ولكنها مفتاحية: "بالدبلوماسية".

 في تقديرنا، واستناداً إلى قراءتنا الجيوبوليتيكية لما يجري، فإن الدبلوماسية هنا تعني: إعادة هندسة الأدوار والمهمات والتقاربات والتباعدات في سوريا، على نحو يفضي إلى إبعاد النظام السوري عن ايران. وعليه يكون المعروض على النظام السوري هو المعادلة التالية: "إذا أردتَ المحافظة على رأسك- وهي غايةُ الغايات بالنسبة إليك- فما عليك سوى الابتعاد عن ايران. وفي هذه الحالة سنوفّر لك تقبُّلاً عربياً.  وأمّا اسرائيل فأنت أدرى الناس بحرصها عليك..".

تلك المعادلة نفسها تخاطب الجانب العربي بالمنطق التالي: "احتضان بشار الأسد عربياً يساعد على ابتعاده عن ايران، ويوفّر في الوقت نفسه إمكانية عودة دور عربي إلى سوريا، بعدما تراجع هذا الدور إلى حدّ الغياب منذ التدخّل الروسي والتركي الواسع..".

بطبيعة الحال فإن كل العروض الاميركية على مختلف الأطراف تندرج تحت عنوان "الدبلوماسية"، بما تعنيه هذه الكلمة هنا من "إعادة هندسة الأدوار والمهمات والتقاربات والتباعدات في سوريا". بَي۠دَ أن هذه الدبلوماسية لا تنفكّ عن سياسة استعراض القوّة في المنطقة... وسيتابع "تقرير الحالة العربية" في الشهرين المُقبلَين تطوّر الأوضاع في ضوء هذا التقدير.