العدد – 2 22/1/2019
تقرير الحالة العربية
يرصد هذا التقرير الدوري تطوّر الأوضاع في المنطقة العربية، بقراءةٍ جيو-سياسية، ومن منظور "نظام المصلحة العربية المشتركة"، في سياق تزاحم أنظمة المصالح الإقليمية والدولية. وهو في عمله إنما يتّخذ من "مبادرة السلام العربية" (قمة بيروت 2002) و"إعلان الرياض" الصادر عن القمة العربية 2007 مرجعيةً أساسية في تقديره للأمور.. هذا مع التفاتةٍ خاصّة إلى الحالة اللبنانية، من منظور العيش المشترك واتفاق الطائف وقرارات الشرعية الدولية الخاصة بلبنان، لاسيما القرار 1701.
مؤشرات "المرحلة الجديدة" من الصراع في المنطقة في ضوء قرار الانسحاب الأميركي من سوريا.
أهو قرارٌ مربَك (بفتح الباء) أم مربِك (بكسرها)؟
هذا التساؤل "من فوق السطوح" ينمّ بالتأكيد عن شيء من الاستياء باللغة الدبلوماسية.. وهو استياءٌ ليس من القرار بعنوانه الظاهر، بل من مراميه ومن قطبةٍ مخفيّة فيه، تتعلّق بماهيّة المرحلة الجديدة التي لم يتشاور ترامب بشأنها مع "شريكه" الروسي المفترض. من هنا جاء الإرباك الروسي على الترتيب التالي: في تعليقٍ أوّل وفوري، رحّب بوتين بالقرار، واصفاً إياه بأنه "خطوة في الاتجاه الصحيح، ومن شأنه أن يسهّل الحلّ السياسي في سوريا"، هذا الحلّ الذي من المفترض أنه قد وُضع في عهدة اللاعب الروسي. وقد جاء الترحيب الفوري منسجماً مع تصريحات بوتين المتكررة في الآونة الأخيرة، ومفادُها أن "الوجود الأميركي غير الشرعي في سوريا يعرقل جهود التسوية". بعد قليل من التفكُّر تساءل بصوت مرتفع عن ماهيّة المرحلة الجديدة، ثم استدرك بقوله: "إنّ هذا الانسحاب من شأنه أن يضيف تعقيدات كثيرة على واقع الصراع في سوريا والمنطقة". وذهب أحياناً إلى التشكيك في جدّية الانسحاب، هو الذي تراجع عن قرار روسي مشابه قبل بضعة شهور! والحال أيضاً أن تصريحاً لاحقاً صدر عن متحدّث باسم البنتاغون لم يبدّد حيرة بوتين، وربما زادها بقوله: "في المرحلة المقبلة سنتعامل مع كل الأطراف بمزيد من التدّقيق والحسابات" (28/12/2018).
عودة إلى السياق
بطبيعة الحال لا يذهب بنا الظنّ إلى احتمال أن يتخلّى أردوغان عن رفضه أية كيانية كردية مستقلّة في شمال سوريا، كما لا نظنّ أن الاميركي يطالبه بذلك (سبق للأميركي أن امتنع عن تأييد مشروع الانفصال في اقليم كردستان العراق قبل بضعة اشهر، رغم نتائج الاستفتاء الكردي التي جاءت لصالح الانفصال). علاوةً على ذلك يرى أكثر المراقبين أن الاتجاه الأقوى لدى أكراد سوريا هو اتجاه غير انفصالي. جُلّ ما في الأمر - على ما يبدو من وجهة النظر الاميركية في هذه المرحلة - أنه لا ينبغي لأكراد سوريا أن يكونوا ورقة في يد الايراني و/أو النظام السوري، خصوصاً بعد "استغاثتهم" بالنظام السوري، بوصفه "أهون الشرّين"!.. رغم تلك التصريحات النارية المتبادلة بين الاميركي والتركي على المستوى السياسي، لم تتوقف المباحثات بين الجانبين على المستوى العسكري. ويبدو أن تلك المباحثات شهدت استعصاءً مرة ثانية، الأمر الذي حمل ترامب في 13 يناير الجاري على إطلاق "زئير" على التويتر، بصورة "تغريدة": الولايات المتحدة ستحطّم تركيا اقتصادياً إذا ما ضربت الاكراد!".. في اليوم التالي ردّ أردوغان على التغريدة بتصريح: ستقيم تركيا منطقة أمنية في شمال سوريا، كما اقترح ترامب"!.
وعلى أيّ حال، فإن جولة وزير الخارجية الاميركي في المنطقة اعتباراً من 8/1/2019 (بدأت بالاردن ومصر، بينهما زيارة سريعة للعراق، وستشمل دول مجلس التعاون الخليجي الستّ)، تحت عنوان "توضيح السياسة الاميركية في المنطقة بعد قرار الانسحاب"، كشفت عن ملامح أساسية في هذه السياسة:
لعل الموقفين البريطاني والالماني كانا أقلّ أقلّ إرباكاً، وإن۠ كانا أكثر حسماً في نفي حكاية القضاء على داعش. ونقدّر أن قلّة ظهور الارباك لدى هذين الطرفين إنما تعود إلى اقتصادهما في الانفعال والكلام المرسَل، خلافاً لما وصفه البعض بـ" التسرّع الفرنسي والارتجال" في عهد الرئيس ماكرون. هذا ولا ننسى أن دعوة الرئيس الفرنسي إلى "اشتقاق سياسة دفاعية أوروبية بمعزل عن اميركا وحتى بمواجهتها" ما تزال موضوعَ سوء تفاهم مفتوحاً مع الادارة الاميركية.
هناك طرفان اثنان لم يظهر الارباك أو المفاجأة في مواقفهما المعلنة، وربما أظهرا العكس: الاسرائيلي والايراني. أما الاسرائيلي فذاك لشدّة اطمئنانه إلى تفاهماته الراسخة والمتجددة على الدوام مع الجانب الاميركي، وبصرف النظر عن الادارة القائمة. لذا جاء موقفه من قرار الانسحاب على صورة واحدة لم تتعدّل أو تتذبذب: "بانسحابٍ أو من دون انسحاب، فإن اسرائيل تعرف كيف تدافع عن نفسها ومصالحها، وستواصل تدخّلها في سوريا كلّما دعت الحاجة وبالطريقة التي تراها مناسبة". والمُلاحظ أن هذا التدخّل لم يتوقّف في الآونة الأخيرة، إن۠ عبر الضربات الاسرائيلية لأهدافٍ ايرانية في سوريا - على جاري القول - أو بفتح ملفّ "أنفاق حزب الله" على الحدود اللبنانية - الاسرائيلية. ويُجمع المراقبون على القول بان اسرائيل في ذلك لا تعوّل فقط على التنسيق الدائم مع الجانب الاميركي، بل "تضع في جيبها" أيضاً تعهّدات أطراف أساسية أخرى بخصوص أمنها، لا سيما الروسي والتركي.
وأما الايراني فما وِسعَه إلا تشغيل اسطوانته الايديولوجية المعهودة: "قرار الانسحاب يدل على إرباك الادارة الاميركية.. لا بل هو دليلٌ ساطع على هزيمة اميركا في المنطقة"! مثلُ هذا الموقف لا يخاطب إلا جمهور البروباغندا الايرانية في الداخل أولاً وفي الخارج استطراداً. أما في واقع الأمر فهو هروبٌ إجباري إلى الأمام. ذلك أن النظام الايراني يدرك تماماً ما معنى "فتح ملف نفوذه في المنطقة"، على ما أجمعت كل التصريحات الاميركية في عهد ترامب، ولا سيما توضيحات بومبيو في جولته الأخيرة، باعتبار أن انسحابه من الإقليم و"رجوعه نظاماً على رأس دولة عادية أو طبيعية" - بحسب المطلب الاميركي المعلَن والمطابق للمطلب العربي الرسمي - يؤديان على الأرجح إلى سقوطه في الداخل!.. وما التصريحان الأخيران لكل من مرشد الجمهورية خامنئي ("العقوبات أصبحت تشكل ضغطاً شديد الوطأة على المجتمع الايراني") ورئيس الجمهورية روحاني ("ترسانة الاتحاد السوفياتي العسكرية لم تحمه من السقوط") إلا مؤشّر قوي على التجاذب القائم في ايران بين خيارين: خيار الحرس الثوري في مواصلة "اختبار القوة"، استناداً إلى تشغيل مواقع نفوذه الرئيسية في المنطقة العربية (سوريا، لبنان، العراق واليمن)، مقابل خيار "الواقعية الليبرالية" الداعي إلى إنقاذ النظام في الداخل بتراجعات مدروسة في الإقليم. وهذا الخيار الأخير يمثّله روحاني (بتقاطعاته الكثيرة مع إرث المعارضة الايرانية الممتدّة من الخاتمية إلى الرفسنجانية) كما يدعمه موضوعياً تصريح خامنئي المشار إليه.
مؤشّرات الممانعة الايرانية
شكل "احتجاز الدولة" في لبنان العنوان الجامع والرئيس لما تقوم به ايران في هذا البلد - بواسطة حزب الله - من "مواجهةٍ مع الولايات المتحدة واسرائيل" - بحسب الشعار المرفوع - واستطراداً مع العالم العربي. تمثّل ذلك بالعمل في خطوط أربعة:
في اللحظة الراهنة تطغى على المشهد السياسي اللبناني صورة التعطيل الحكومي الذي فرضه حزب الله منذ ثمانية أشهر، بالتزامن مع العقوبات الاميركية الجديدة على ايران. وقد اختلق لتلك الغاية أعذاراً داخلية جرّاء اشتراطاته على عملية التأليف.. وإلا "لا حكومة!"، على حدّ تعبيره وعلى ما أبلغه إلى كل المعنيين. من تلك الاشتراطات: عدد الوزراء وتوزيع الحقائب، ثم إصراره على تمثيل حلفائه من النواب السنّة، وصولاً إلى رفضه حصول رئيس الجمهورية وتيّاره السياسي على 11 وزيراً في الحكومة الثلاثينية.. وهو نِصاب التعطيل أو ما يعرف بالثلث المعطل.. بَي۠دَ أنّ هذه العناوين الخلافية وأمثالها لا تشكل - في نظر المراقبين الموضوعيين - السبب الحقيقي للتعطيل، بمقدار ما تمثّل ذريعةً لقرار ايران بمواصلة ارتهان الحالة اللبنانية في مواجهة الهجوم الاميركي عليها منذ اعلان قرار الانسحاب من سوريا. وهذا العامل الإقليمي أقرّ به أخيراً رئيس الجمهورية، وللمرة الأولى، بقوله: "إنّ اللاستقرارالسياسي في لبنان يعود إلى طموحات الأفرقاء الداخليين والصراع الدائر في المنطقة" (14/1/2019). بالإضافة إلى معاندة رئيس الحكومة المكلّف (بخصوص تمثيل سنّة حزب الله) وعدم استجابة رئيس الجمهورية لاشتراطات حزب الله (بخصوص الثلث المعطّل)، جاءت زيارة وكيل وزارة الخارجية الاميركية ديفيد هيل (15/1/2019) لتعطي دفعةً قويّة لمن يريدون مواجهة النفوذ الايراني في لبنان. وذلك بتشديده على التزام الادارة الاميركية دعم المؤسسات الأمنية المخوّلة حصرياً الدفاع عن لبنان، واعتباره حزب الله - بصفته الميليشياوية فضلاً عن تصنيفه إرهابياً بنظر الادارة الاميركية - عقبة أساسية في وجه قيام الدولة، وصولاً إلى تشجيعه حكومة تصريف الاعمال القائمة على المبادرة لمواجهة التحديات الاقتصادية...
وفي تقديرنا أن الكلام الجريء الذي أطلقه البطريرك الماروني أثناء اجتماعه بالقيادات المارونية في بكركي (16/1-2019)، وتحذيره الشديد اللهجة من "مشاريع لإلغاء اتفاق الطائف، ودعوات في السرّ والعلن إلى مؤتمر تأسيسي جديد من شأنه إحلال المثالثة محلّ المناصفة في صيغة الحكم، يُضاف إلى ذلك عملٌ متواصل لتكريس أعراف جديد مخالفة للدستور..." - نقول بأن هذا التحذير يعدُّ من أبرز المؤشرات المستجدّة في لبنان والدالّة على تحدّي سلطة الأمر الواقع التي يمثلها النفوذ الايراني. نقول بهذا لعلمنا وعلم الجميع أن البطريرك الماروني نفسه ذهب في بعض الأوقات السابقة إلى المطالبة بعقدٍ اجتماعي جديد، تحت وطأة الضغط الذي مارسته أطروحة "تحالف الأقليات". بعبارات أخرى: إذا كانت موجة "تحالف الأقليات" التي ركبها الايراني سابقاً، والتي أدّت فيما أدّت إلى مطالبة مسيحيي الشرق بحماية دولية، فإن الموجة الجديدة التي تطلقها الادارة الاميركية بوجه النفوذ الايراني في المنطقة من شأنها أن تغذّي دينامية معاكسة للسابقة على المستوى المسيحي.. وهذه فرصة مؤاتية لدعاة "عودة الدولة بشروط الطائف والدستور القائم، مع وفاء لبنان لانتمائه العربي، والتزامه قرارات الشرعية الدولية الداعمة لسيادته واستقلاله" كي يشكل هؤلاء فريقاً وطنياً، اسلاماً - مسيحياً، بدلاً من بقائهم متفرّقين وعلى أنصبةٍ مذهبية.
ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى المحاولات التي بذلها التحالف السوري- الايراني في لبنان، لإلغاء أو تأجيل القمة العربية الاقتصادية، عشية انعقادها في بيروت (20/1/2019)، تارةً بالاعتراض على عدم دعوة سوريا، وطوراً بالاعتراض على دعوة ليبيا!.. وهذا مؤشر إضافي على "فشل محاولات عزل لبنان عن بيئته العربية"، بحسب تصريح بعض الدبلوماسيين العرب المشاركين.
خلاصة القول في الحالة اللبنانية الراهنة هي أنّ هذه الحالة باقيةٌ في مدار التجاذب، لأن ايران لن تتخلّى بسهولة عن هذا الموقع المميّز لنفوذها في المنطقة. بَي۠دَ أن معادلة التجاذب باتت مفتوحةً على مزيد من إمكانية تعديل ميزان القوى في لبنان لغير صالح ايران، بعد عودة الاهتمام الاميركي بهذا البلد من بعد "إهمال". هذا ولا بد من التشديد على وجوب تفادي أفخاخ العنف والفوضى في سياق "استعادة السيادة".
تتماثل الحالتان العراقية واللبنانية من بعض الوجوه، وتتميزان من وجوه أخرى.. وحديثُنا هنا ما يزال يدور حول "مؤشرات الممانعة الايرانية".
على صعيد التماثُل، رأينا خلال الشهرين الأخيرين كيف أن ايران حاولت فرض شروطها على تشكيل حكومة عادل عبد المهدي، بإصرارها على الإمساك بحقيبتي الدفاع والداخلية، وبالتساوق مع اصرارها على دور مستمر ومستقلّ لميليشيات "الحشد الشعبي" الخاضعة لتوجيهات الحرس الثوري الايراني. وهذا الدور "المستقلّ والمستمرّ" للحشد الشعبي في العراق هو محاولة للتماثل مع دور "حزب الله" في لبنان، ودائماً بذريعة ضعف الجيش الوطني النظامي هنا وهناك. ومعلومٌ لدى المراقبين أن الأطروحة الايرانية تروّج منذ مدّة غير قصيرة لفكرة الاعتماد على الحشود الشعبية في بلدان الاضطرابات العربية، بدلاً من الجيوش النظامية.. وهي فكرةٌ تستلهم واقع الثنائية الدفاعية في ايران، بين الجيش والحرس الثوري، مع رجاحة هذا الأخير وتغوّله. وعلى صعيد التماثُل أيضاً لاحظنا تمسّك ايران بشروطها حيال الحكومتين، بالتزامن مع الإعلانات الاميركية (جولة بومبيو) بخصوص المواجهة المفتوحة مع ايران في المنطقة العربية. ومن وجوه التماثُل البارزة ما يشعر به رئيسا الحكومتين المكلّفين، عبد المهدي والحريري، من وجودهما بين ضغطين شديدَي الوطأة: ضغط النفوذ الايراني في بلديهما، وضغط السياسة الاميركية على مستوى المنطقة في المرحلة الراهنة، الأمر الذي جعلهما يعبّران، كلٌ على طريقته، عن مطلب واحد يمكن صياغته بهذه العبارات: "رفقاً بنا يا جماعة الخير.. سواءٌ بشأن العقوبات، أو بشأن التعامل مع قوى الأمر الواقع بخصوص خطتنا الدفاعية- الأمنية!".
أما على صعيد الاختلاف بين الحالتين، فابرز ما يحقّقه ذاك الحضور الاميركي المباشر في العراق منذ العام 2003. وإذا كان هذا الحضور قد ترافق مع نوع من المساكنة الاميركية- الايرانية هناك لمدة تزيد على عشر سنوات، إلا أنه شكّل في الوقت نفسه عامل ضبطٍ وكبح لطغيان النفوذ الايراني، الأمر الذي ساهم أخيراً في توهين الاصطفاف الشيعي العام خلف سياسة حزب الدعوة الموالي لايران، لا سيما بالتزامن مع انكشاف تلك السياسة عند واقعتين كبيرتين: السقوط المشين للجيش العراقي أمام داعش في الموصل، والفساد المالي بأرقام فلكية ذهبَ أكثرها لتمويل "الجهاد الايراني" في المنطقة. يُضاف إلى ذلك العامل الاميركي - وربما يعادله بالمعيار الاجتماعي - تمايزُ المرجعية الدينية الشيعية في النجف عن اتجاه حزب الدعوة، واستطراداً عن ايران، ما جعلها في الوقت المناسب رافعةً معنوية كبرى لحركات الاحتجاج الشعبي ضد ايران في العراق، كما لانفكاك بعض القوى السياسية الشيعية عن التحالف بقيادة حزب الدعوة.. وهو ما تجسّد في معادلات تأليف حكومة عبد المهدي، فضلاً عن تكليفه بالذات. وبالمقارنة مع الحالة الشيعية في لبنان، فهذه ما تزال ممسوكة ايرانياً وبقوّة، لأنّ الدولة اللبنانية المتعثّرة بعد الطائف، وحتى بعد انتفاضة السيادة والاستقلال عام 2005، عجزت عن أن تمثّل كنفاً آمناً وجاذباً لعموم الشيعة، الذين تُركوا في هذه الحالة نهباً لحزب الله، بمن فيهم حركة "أمل" الشيعية، رغم أن التشيُّع اللبناني كان تاريخياً أقرب إلى النجف، عقيدياً وعروبياً، منه إلى قُمّ.
تقديرنا، وكما قلنا بصدد الحالة اللبنانية، أن ايران لن تتخلّى بسهولة عن موقعها المميّز في العراق، وستواصل الممانعة بكل ما ملكت من أدوات، وإن كانت هذه الممانعة مفتوحةً على مزيد من الوهن في هذا البلد، نظراً لأنّ "زواج المتعة" الاميركي- الايراني هناك قد انتهى أجله.. ومعلومٌ أن زواج المتعة هو بالتعريف الفقهي "عقدٌ منقطع بتحديد الأجل".
جاء اتفاق ستوكهولم، برعاية أممية، على أثر الهجوم العسكري المكثّف الذي شنّه التحالف السعودي- الاماراتي منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي ضد مواقع الحوثيين في الحديدة. وكانت وجهة نظر التحالف العربي المعلنة أنّ الحوثيين لن يأتوا إلى طاولة المفاوضات بمرجعيّاتها المعلومة (المبادرة الخليجية + مُخرَجات الحوار الوطني اليمني + القرار الدولي 2216) إلا مرغَمين. هذا مع العلم أن ذاك الهجوم كان محفوفاً بإحراجات سياسية وإنسانية، نظراً لما سبقه من تركيز إعلامي ودبلوماسي غربي على الحجم الكارثي للدمار الذي تُحدثه غارات التحالف، لا سيما على صعيد المنشآت والأفراد المدنيين، فضلاً عن عنوان "المجاعة" الذي تصدر تقارير كثير من الجمعيات الانسانية والتصريحات الدولية.
وقد اعتبر التحالف أن توقيع اتفاق ستوكهولم ببنوده الأساسية جاء مصدِّقاً لتوقّعاته. وتلك البنود هي: "وقف الاشتباكات بإشراف مراقبين دوليين- إشراف دولي على ميناء الحديدة والموانئ الأخرى القريبة- تسليم الأمن في المنطقة إلى قوات محلية تابعة للشرعية الحكومية- تبادل الأسرى بين الطرفين- مواصلة المفاوضات بعد تنفيذ البنود السالفة الذكر.
والحال أن الحوثيين لم يلتزموا أياً من تلك البنود حتى منتصف يناير الجاري.. إذ۠ تابعوا سياسة التحايل والالتفاف على القرارات، ابتداءً من السطو على المساعدات الانسانية وإعاقة وصولها، مروراً بالتحايل على تشكيل القوات المحلية، وصولاً إلى الاستنكاف عن تبادُل الأسرى والاعتداء على موكب قائد المراقبين الدوليين، بالإضافة إلى مواصلتهم إطلاق الصواريخ البالستية والطائرات الموجّهة، من صنع ايراني.. التقدُّم الوحيد والمتأخّر تمثّل بالتوافق على الشروع في إجراءات التبادل، بعد وساطة أردنية، بحسب ما صرّح المبعوث الأممي غريفتس.
وفقاً لتصريحات سعودية واماراتية كثيرة في هذه الآونة الأخيرة، فإن جُلّ المشكلة يكمن في أسلوب التعامل الدولي مع الأزمة اليمنية.. وهو تعاملٌ يقوم عملياً على مساواةٍ غير منصفة بين ميليشيا خارجة على الدولة، ومدانة بموجب قرار دولي يقضي بتجريدها من السلاح وإخلاء كل المواقع التي احتلّتها منذ بداية الانقلاب، وبين تحالف عربي يضمّ أكبر البلدان الخليجية فضلاً عن الشرعية اليمنية ممثلةً بحكومة الرئيس المنتخب. فالمفارقة إذاً هي أن المبعوثين الأمميين إلى اليمن (ثلاثة حتى الآن على التوالي)، والمكلّفين بتطبيق قرار دولي تحت الفصل السابع (2216)، تصرّفوا كسعاة بين الطرفين، وباحثين عن مرجعيةٍ للحلّ، هي في الواقع موجودة ومعروفة.. فتأمّل!!
على ما تقدّم لا يرى المراقبون أيّ حلّ قريب للأزمة اليمنية، بل ستبقى المراوغة الحوثية، وسيواصل الايراني ممانعته في اليمن، على غرار ما لاحظنا في العراق ولبنان، ولو اضطُرّ إلى "تمويل حرب الحوثيين ببراميل النفط، بدلاً من العملة الصعبة غير المتوفّرة لديه"، بحسب تقرير دولي صدر مؤخراً (العربية 18/1/2019). هذا ولا بدّ من القول أنّ مواصلة الممانعة الايرانية في اليمن تعني بلا مواربة مواصلة استنزاف التحالف العربي بقيادة السعودية، لا سيما إذا تواصلت "ميوعة السياسة الأممية" هناك!
معركة الممانعة في سوريا تمثّل أمُّ المعارك بالنسبة لايران في هذه المرحلة. وذلك لسببين مجتمعين: الأول، أن الهدف الرئيس والمعلن للسياسة الاميركية قد تعيّن بصورة أكثر وضوحاً وحسماً من أي وقت مضى، وهو إخراج ايران من سوريا.. ولا حاجة بنا إلى استعادة التصريحات الاميركية بهذا المعنى في الآونة الأخيرة. والسبب الثاني الذي لا يقلّ عن الأول وضوحاً ودلالة، هو أن خروج ايران من سوريا يؤدي إلى خروج نفوذها من كل المنطقة العربية، على طريقة متواليات انهيار أحجار الدومينو. ذلك أن استراتيجية التدخل الايراني في شؤون المنطقة العربية، على رافعة "المقاومات"، قد انبنت منذ أواخر الثمانينيات على "حجر زاوية" هو التفاهم مع نظام البعث السوري، واتخاذ سوريا ولبنان منطلقاً لتحقيق تلك الاستراتيجية. يضاف إلى ذلك أن معركة سوريا الآن باتت معركة كل القوى المعنيّة بالشرق الأوسط، كما يبدو جلياً بأبسط المشاهدة الجيوبوليتيكية. وعليه فإن ما رأينا في هذا التقرير حتى الآن، من ممانعات ايرانية في كل من لبنان والعراق واليمن، يبدو على صلة بأمّ المعارك في سوريا، من دون أن نهمل خصوصياته المحليّة.
كيف ستُخرِج الادارة الاميركية ايران من سوريا؟
أجاب وزير الخارجية الاميركية عن هذا السؤال بعبارة مقتضبة، ولكنها مفتاحية: "بالدبلوماسية".
في تقديرنا، واستناداً إلى قراءتنا الجيوبوليتيكية لما يجري، فإن الدبلوماسية هنا تعني: إعادة هندسة الأدوار والمهمات والتقاربات والتباعدات في سوريا، على نحو يفضي إلى إبعاد النظام السوري عن ايران. وعليه يكون المعروض على النظام السوري هو المعادلة التالية: "إذا أردتَ المحافظة على رأسك- وهي غايةُ الغايات بالنسبة إليك- فما عليك سوى الابتعاد عن ايران. وفي هذه الحالة سنوفّر لك تقبُّلاً عربياً. وأمّا اسرائيل فأنت أدرى الناس بحرصها عليك..".
تلك المعادلة نفسها تخاطب الجانب العربي بالمنطق التالي: "احتضان بشار الأسد عربياً يساعد على ابتعاده عن ايران، ويوفّر في الوقت نفسه إمكانية عودة دور عربي إلى سوريا، بعدما تراجع هذا الدور إلى حدّ الغياب منذ التدخّل الروسي والتركي الواسع..".
بطبيعة الحال فإن كل العروض الاميركية على مختلف الأطراف تندرج تحت عنوان "الدبلوماسية"، بما تعنيه هذه الكلمة هنا من "إعادة هندسة الأدوار والمهمات والتقاربات والتباعدات في سوريا". بَي۠دَ أن هذه الدبلوماسية لا تنفكّ عن سياسة استعراض القوّة في المنطقة... وسيتابع "تقرير الحالة العربية" في الشهرين المُقبلَين تطوّر الأوضاع في ضوء هذا التقدير.