ملخص تنفيذي:
في 14 شباط 2005، قتل انفجار في وسط بيروت 20 شخصاً، بينهم رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري. أرسل الأمين العام للأمم المتحدة بعثة تقصي حقائق إلى بيروت للتحقيق في الأسباب والظروف ونتائج الاغتيال. منذ أن وصلت إلى بيروت في 25 شباط، التقت البعثة عدداً كبيراً من المسؤولين اللبنانيين وممثلين عن مجموعات سياسية مختلفة، أجرت مراجعة للتحقيق اللبناني والإجراءات القانونية، وفحصت مسرح الجريمة والأدلة التي جمعتها الشرطة المحلية، وجمعت وحللت عينات من مسرح الجريمة، وأجرت مقابلات مع بعض الشهود في ما يتعلق بالجريمة.
لا يمكن تأكيد “الأسباب” المحددة لاغتيال السيد الحريري بشكل يعتمد عليه إلا بعد مثول مرتكبي هذه الجريمة أمام العدالة، غير أنه من الواضح أن الاغتيال حصل في سياق سياسي وأمني تميز باستقطاب حاد حول النفوذ السوري في لبنان وفشل الدولة اللبنانية في توفير حماية ملائمة لمواطنيها.
في ما يتعلق بالظروف، فإن وجهة نظر البعثة هي أن التفجير تسببت به عبوة زنتها ألف كيلوغرام من مادة ال”تي أن تي” وضعت على الأرجح فوق الأرض. تشير مراجعة التحقيقات إلى أنه كان هناك نقص جلي في التزام السلطات اللبنانية بالتحقيق الفعلي في الجريمة، وأن هذا التحقيق لم يجر وفقاً لمعايير دولية مقبولة. وجهة نظر البعثة أيضا هي أن التحقيق اللبناني يفتقد لثقة الشعب الضرورية لتكون نتائجه مقبولة.
يمكن لنتائج الاغتيال أن تكون بعيدة المدى. يبدو أنه فتح أبواب الاضطراب السياسي الذي كان يغلي خلال العام الماضي. الاتهامات والاتهامات المضادة وفيرة وقد فاقمت الاستقطاب السياسي الحاصل. البعض يتهم القيادة السورية وأجهزتها الأمنية باغتيال السيد الحريري لأنه أصبح عائقاً لا يمكن تجاوزه لنفوذها على لبنان. أما المؤيدون لسوريا فيقولون إنه اغتيل بأيدي “أعداء سوريا”، الذين يريدون خلق ضغط دولي على القيادة السورية بهدف تسريع زوال نفوذها في لبنان و/أو إطلاق سلسلة من ردود الفعل ستدفع في نهاية الأمر إلى “تغيير النظام” داخل سوريا نفسها. عبر سياسيون لبنانيون من خلفيات مختلفة، للبعثة، عن خشيتهم من أن لبنان يمكن أن يعلق وسط نزاع محتمل بين سوريا والمجتمع الدولي، مع نتائج مدمرة على السلم والامن اللبناني.
بعد جمع الحقائق المتوفرة، استنتجت البعثة أن الأجهزة الأمنية اللبنانية والاستخبارات العسكرية السورية تتحمل المسؤولية الأولية لنقص الأمن والحماية والقانون والنظام في لبنان. أظهرت الأجهزة الأمنية اللبنانية إهمالاً منظماً وجدياً في القيام بالواجبات التي تؤديها عادة الأجهزة الأمنية الوطنية المحترفة. وخلال قيامها بذلك، فشلت على نحو خطير في توفير مستوى مقبول من الأمن، وهي لذلك ساهمت في انتشار ثقافة الترهيب والإفلات من العقاب. تشارك الاستخبارات العسكرية السورية في هذه المسؤولية من خلال تورطها في إدارة الأجهزة الأمنية اللبنانية.
من النتائج التي توصلت إليها البعثة أيضا أن الحكومة السورية تتحمل المسؤولية الأولية في التوتر السياسي الذي سبق اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. من الواضح أن حكومة سوريا مارست نفوذاً يتجاوز التعاون المعقول وعلاقات الجوار. لقد تدخلت في تفاصيل حكم لبنان بطريقة ثقيلة الوطأة وغير مرنة كانت السبب الأساسي في الاستقطاب السياسي الذي تلاها. من دون استباق نتائج التحقيق، من الواضح أن هذا المناخ وفر الخلفية لاغتيال السيد الحريري.
بات واضحاً للبعثة أن عملية التحقيق اللبنانية تعاني من عيوب خطيرة وليست لديها لا القدرة ولا الالتزام بالتوصل إلى استنتاجات مرضية وذات مصداقية. لنعثر على الحقيقة، سيكون من الضروري أن نولي التحقيق إلى بعثة دولية مستقلة، تتشكل من مختلف مجالات الاختصاص التي تشارك عادة في إجراء تحقيقات كبيرة مشابهة في الأنظمة الوطنية، مع التفويض التنفيذي الضروري لإجراء تحقيقات وعمليات تفتيش وغيرها من المهام ذات الصلة. إضافة إلى ذلك، من المشكوك به جدا أن بعثة دولية كهذه يمكن أن تقوم بمهامها بشكل مرض، وتتلقى التعاون الفعال الضروري من السلطات المحلية، في ظل بقاء القيادة الحالية للأجهزة الأمنية اللبنانية في مناصبها.
تستنتج اللجنة أن إعادة المصداقية والاستقامة إلى الأجهزة الأمنية اللبنانية أمر مهم وحيوي لأمن البلاد واستقرارها. سيكون من الضروري بذل جهد مدعوم لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وإصلاحها وإعادة تدريبها للوصول إلى هذه النهاية، وسيتطلب ذلك بالتأكيد دعماً ومشاركة فعالة من قبل المجتمع الدولي.
أخيرا، وجهة نظر البعثة هي أن الدعم السياسي الدولي والإقليمي سيكون ضرورياً لحماية الوحدة الوطنية للبنان لحماية مكانته الهشة من ضغوط لا مبرر لها. سيوفر تحسين فرص السلام والأمن في المنطقة أرضية صلبة لإعادة الحالة الطبيعية إلى لبنان.
تقرير حول الوقائع التي عثرت عليها بعثة تقصي الحقائق إلى لبنان للتحقيق في أسباب وظروف وعواقب اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري.
25 شباط 24 آذار 2005
A مقدمة
(1)
في 14 شباط 2005، قتل انفجار في وسط بيروت 20 شخصاً من بينهم رئيس الوزراء السابق رفيق بهاء الدين الحريري. كما قتل أيضا في الانفجار يحيى مصطفى العرب، محمد بن سعد الدين درويش، طلال نبيه ناصر، زياد محمد طراف، عمر أحمد المصري، محمد رياض حسين غلاييني، مازن عدنان الدهبي، يمامة كامل دامن، هيثم خالد عثمان، علاء حسن عصفور، زاهي حليم ابو رجيلي، جوزيف اميل عون، ريما محمد رائف بزي، رواد حسين حيدر، صبحي محمد القادر، عبدو توفيق بو فرح، عبد الحميد محمد غلاييني، محمود صالح الخلف، محمد صالح الحمد المحمد، بالإضافة إلى القتلى، هناك فرحان أحمد العيسى الذي لا يزال مفقوداً ويعتقد انه من بين الضحايا. وأصيب 220 شخصا بجروح.
(2)
في 15 شباط، أصدر رئيس مجلس الأمن بياناً بالنيابة عن المجلس يطلب فيه من الأمين العام “متابعة الموضوع في لبنان عن كثب وإصدار تقرير عاجل حول ظروف وأسباب وعواقب هذا العمل الإرهابي”. أعلن الأمين العام في 18 شباط انه سيرسل بعثة تقصي حقائق إلى بيروت من أجل جمع معلومات ضرورية من أجل تقديم تقرير إلى المجلس بطريقة دقيقة. بعد تبادل رسائل بين الأمين العام ورئيس لبنان، أرسلت بعثة يرئسها بيتر فيتزجيرالد، نائب مفوض في الشرطة الايرلندية، غاردا سيوشانا، وتتضمن محققين اثنين، ومستشارا سياسيا ومستشارا قانونيا، إلى لبنان لجمع الحقائق حول أسباب وظروف ونتائج الاغتيال. وتم إحضار خبراء إضافيين في المتفجرات والمقذوفات، الحمض النووي (دي ان أي)، وفي تفحص موقع الجريمة في 6 آذار بالاتفاق مع السلطات اللبنانية، لفحص موقع الجريمة والعينات التي جمعت منه.
(3)
منذ وصولهم إلى بيروت في 25 شباط، التقى أعضاء بعثة تقصي الحقائق (المعروفة بأنها “البعثة”) عدداً كبيراً من المسؤولين اللبنانيين وممثلي مجموعات سياسية مختلفة، وأجرت مراجعة شاملة للتحقيق اللبناني والإجراءات القانونية، وتفحصت مسرح الجريمة والأدلة التي جمعتها الشرطة اللبنانية، وجمعت وحللت عينات من مسرح الجريمة وأجرت مقابلات مع بعض الشهود على علاقة بالجريمة. وبما أن بعضا من الناس الذين أجرت البعثة مقابلات معهم طلبوا أن يبقوا مجهولين، فإن هذا التقرير لا يتضمن لائحة كاملة بالذين أجريت معهم المقابلات. أنهت البعثة التحقيق في لبنان في 16 آذار. يتضمن التقرير الحالي اكتشافاتها وتوصياتها.
B النتائج
(4)
تقع نتائج البعثة في 3 فئات كما عرفها مجلس الأمن: الأسباب والظروف والعواقب.
1 الأسباب
(5)
لا يمكن تأكيد “الأسباب” المحددة لاغتيال السيد الحريري قبل مثول مرتكبي هذه الجريمة أمام العدالة. لكن من الواضح أن الاغتيال حدث في سياق سياسي وأمني تميز باستقطاب حاد حول النفوذ السوري في لبنان وفشل الدولة اللبنانية في تأمين حماية ملائمة لمواطنيها.
السياق السياسي
(6)
خدم لبنان مراراً كساحة مواجهة لأطراف الصراع العربي الإسرائيلي، مع تأثير مدمر على وحدته الوطنية واستقلاله، حسبما أظهرت حربه الأهلية المؤسفة (19901975) والحملات العسكرية المتعددة على أرضه. حافظت سوريا على حضور عسكري لها في لبنان منذ أيار 1976 بموافقة الحكومة اللبنانية. كما أنها مارست نفوذاً سياسياً في الشؤون اللبنانية، ازداد باطراد منذ العام 1990 وتقونن في العام 1991 عبر معاهدة “الأخوة والتعاون والتنسيق”.
(7)
لم يتعرض الوجود السوري في لبنان بشكل عام الى التحدي، حتى سحبت إسرائيل قواتها من جنوب لبنان في العام 2000. بدأت الشخصيات اللبنانية تعلن معارضتها للنفوذ السوري المستمر ودعت إلى تطبيق ما تبقى من بنود اتفاق الطائف (للعام 1989) والذي كان سيقلص، إذا ما طبق، الوجود السوري في لبنان إلى حد الانسحاب الكامل. ورغم أن السيد الحريري تجنب بحذر هذا الجدل، فقد كانت علاقته مع الرئيس إميل لحود، الذي يوصف عامة انه المفضل لدى سوريا، متشنجة، حسبما أفاد للبعثة مسؤول أمني معروف ومقرب من سوريا. خاض الرجلان (لحود والحريري) صراعات متكررة خلال ولاية السيد الحريري (20042000) إلى حد تطلب “تدخلاً خارجياً والتوسط على أساس يومي”. أثر الخلاف بين السيد لحود والسيد الحريري على قدرة الثاني على إدارة الحكومة وتنفيذ سياساته، إلى حد الشلل في بعض الأحيان. فسرت مصاعب السيد الحريري مع السيد لحود على نطاق واسع بأنها عدم ثقة سوريا في الأول.
(8)
كان يجب أن تنتهي ولاية السيد لحود في العام 2004، بلا إمكانية للتجديد له بحسب الدستور. كان السيد الحريري يأمل بوضوح بأن انتهاء ولاية السيد لحود سيمكنه من استعادة التحكم في حكومته. لكن خلال العام 2004 اقترحت أصوات معينة في لبنان تعديل الدستور من أجل تمديد ولاية السيد لحود. أصبح هذا الاحتمال جزءاً من الجدال حول الوجود السوري في لبنان وغذاه. ونظراً لتوزيع المقاعد في المجلس النيابي، احتاج تعديل الدستور إلى دعم كتلة السيد الحريري، وهو دعم لم يكن مستعدا لتقديمه. أكثر من ذلك، علمنا من مصادر يمكن الاعتماد عليها أن السيد الحريري تمكن من الحصول على تعهد من القيادة السورية بعدم تمديد ولاية السيد لحود.
(9)
لكن القيادة السورية قررت لاحقا دعم تمديد الولاية الرئاسية، وإن ل3 سنوات عوضا عن 6 سنوات. كان الضغط من اجل التمديد كبيرا ومصمما وله نتائج بعيدة المدى. وكما قال مسؤول لبناني مقرب من القيادة السورية للبعثة، بعث القرار السوري برسالة واضحة إلى السيد الحريري بأنه كان عليه الرحيل: “لم تكن هناك من طريقة لكي يعملا (لحود والحريري) مع بعضهما البعض”. التقى السيد الحريري بالرئيس (السوري بشار) الأسد في دمشق في محاولة أخيرة لإقناعه بعدم دعم التمديد. تسلمت البعثة روايات حول هذا اللقاء من مصادر مختلفة في داخل لبنان وخارجه، وجميعها يدعي بأنها سمعت هذه الرواية من السيد الحريري نفسه بعد فترة قصيرة من عقد اللقاء. ليس لدى البعثة رواية للقاء من جانب السيد الأسد. امتنعت السلطات السورية عن الاستجابة لطلب البعثة بعقد لقاء معه. تعزز الشهادات التي تسلمتها البعثة بعضها بشكل حرفي تقريبا.
(10)
بالاستناد إلى هذه الشهادات، ذكّر السيد الحريري السيد الأسد بتعهده عدم السعي لتمديد ولاية السيد لحود، ورد السيد الأسد انه كان هناك تحول في السياسة وان القرار قد اتخذ. وأضاف انه يجب أن ينظر إلى السيد لحود كممثله الشخصي في لبنان وان “معارضته تساوي معارضة الأسد نفسه”. وأضاف عندها انه (السيد الأسد) “يفضل أن يحطم لبنان فوق رأسي السيد الحريري و (الزعيم الدرزي وليد) جنبلاط على أن يرى كلمته في لبنان تنكسر”. وحسب الشهادات، فإن السيد الأسد هدد عندها كلاً من السيد الحريري والسيد جنبلاط بأذى جسدي إذا عارضا التمديد للسيد لحود. دام اللقاء 10 دقائق وكانت المرة الأخيرة التي يلتقي فيها السيد الحريري مع السيد الأسد. بعد هذا اللقاء، أبلغ السيد الحريري مؤيديه انه لا خيار أمامهم سوى دعم التمديد للسيد لحود. تلقت البعثة أيضا روايات عن تهديدات أخرى للسيد الحريري من مسؤولين أمنيين في حال امتنع عن التصويت لصالح التمديد أو “حتى إذا فكر في ترك البلد”.
(11)
في الثاني من أيلول 2004، تبنى مجلس الأمن القرار 1559 الذي طالب، إلى جانب فقرات شرطية أخرى، “بانسحاب جميع القوات الأجنبية المتبقية في لبنان، وأعلن دعمه لعملية انتخابية حرّة وعادلة في الانتخابات الرئاسية اللبنانية المقبلة على أن تجري وفقا للقوانين الدستورية اللبنانية من دون أي تدخل أو نفوذ أجنبي”. ويعتقد، على نطاق واسع داخل لبنان وخارجه، أن السيد الحريري دعمً هذا القرار بشكل فاعل. وقد أبلغت مصادر عديدة في لبنان البعثة بأن القيادة السورية حمّلت السيد الحريري شخصيا مسؤولية تبني هذا القرار، وبأن هذا القرار أنهى أية ثقة كانت تقوم بين الجانبين. في الثالث من أيلول، وصل التمديد إلى البرلمان. صوّت السيد الحريري وكتلته النيابية لصالحه. ثلاثة نواب صوّتوا ضدّه، بينهم مروان حمادة وهو حليف مقرّب لكل من السيد الحريري والسيّد جنبلاط. مرّ التعديل، وتم تمديد ولاية السيّد لحود الرئاسية لثلاث سنوات. في التاسع من أيلول أعلن السيد الحريري استقالته.
(12)
بلغ التوتر السياسي بعداً جديداً مع تلك الاستقالة. التحق عدد آخر من الشخصيات السياسية بما أطلق عليه لاحقاً “المعارضة”، التي دعت بشكل أساسي إلى إعادة النظر في العلاقات السورية اللبنانية. فضل بعض زعماء المعارضة إعادة النظر بتلك العلاقات بما يتناسب مع قرار مجلس الأمن 1559، في حين آثر آخرون إعادة النظر فيها تحت مظلة اتفاق الطائف. ونظر إلى الانتخابات التشريعية المقبلة على أنها نقطة تحول وبات واضحاً بالنسبة للجميع أن الأفرقاء يستعدون لكشف نهائي للأوراق. حتى التمديد للرئيس لحود، كانت المعارضة مؤلفة بشكل أساسي من سياسيين ومجموعات مسيحية. وأتى قرار كتلة السيد جنبلاط بالانضمام إلى تلك القوى ليشكل تطوراً أساسياً، إذ توسع التحالف المعارض إلى ما وراء الحدود المذهبية المقسمة، خاصة في ضوء تحالف السيد جنبلاط التقليدي مع سوريا. أضافت استقالة السيد الحريري مزيداً من القوة إلى المعارضة عبر ضمّ الطائفة السنية العريضة والنافذة.
(13)
في الثاني من تشرين الأول، نجا النائب مروان حمادة بأعجوبة من الموت عندما انفجرت عبوة بالقرب من سيارته. قتل مرافقه في الانفجار. وقد أثارت محاولة اغتيال السيد حمادة الصدمة في كل لبنان وأضيفت إلى الاستقطاب المتنامي. لم يتم تحديد هوية مرتكبي محاولة الاغتيال، وساد شعور عام بأن ذلك لن يتم. سيطر مناخ ضاغط على الساحة اللبنانية حيث “الجميع كان مهدّدا”، حسبما قال مسؤولو أمن عديدون للبعثة. قالت شريحة كبيرة من الناس داخل لبنان وخارجه للبعثة إن السيد الحريري والسيد جنبلاط خشيا على حياتهما ورأيا محاولة اغتيال السيد حمادة جزءاً من صراع القوى الدائر مع القيادة السورية.
(14)
في ظل التوتر المتزايد، استمر توثيق التحالف المعارض وكذلك التحضيرات للانتخابات التشريعية المقبلة. جرت اتصالات ومفاوضات بين السيّد جنبلاط والسيّد الحريري وبين الزعيم الماروني المنفي السيد ميشال عون. ومع نهاية كانون الثاني 2005، كانت هناك كتلة قوى هائلة تبرز في لبنان، تضم، للمرّة الأولى، ممثلين عن كل الجماعات السياسية والدينية المختلفة تقريباً، باستثناء المجموعتين الشيعيتين أمل وحزب الله. كانت كتلة القوة تلك مستقلة عن النفوذ السوري، إن لم تكن معادية له، وبدت واثقة من الفوز بغالبية واضحة في الانتخابات المقبلة. وتمتعت أيضاً بدعم لاعبين أساسيين في المجتمع الدولي وبدت واثقة من قدرتها على دفع سوريا إلى تحقيق التزاماتها بحسب اتفاق الطائف و/ أو قرار مجلس الأمن 1559. وسط كتلة القوى تلك، برز رجل واحد على أنه المهندس: رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. في 14 شباط تم اغتياله.
(15)
من الواضح أن اغتيال السيّد الحريري جرى على خلفية صراع القوى مع سوريا، بغض النظر عمن قاد الاغتيال وبأي هدف. ومع ذلك، من المهم التذكير بأنه فقط بمقدور تحقيق مناسب لا تحليلات سياسية أن يؤدي إلى تحديد هوية من أمر وخطط ونفّذ هذه الجريمة النكراء. وسيشكل القفز إلى استنتاجات بشأن منفذي الاغتيال من دون تحقيق مناسب وأدلة مقنعة ومحاكمة صحيحة انتهاكاً للقواعد الأساسية للعدالة.
الخلفية الأمنية
(16)
كان ثمة إجماع على وصف السيد الحريري، ل”البعثة”، بأنه “الشخصية الأكثر أهمية في الحياة العامة اللبنانية”. إن اغتياله، بالتالي، يثير تساؤلات حول مستوى الحماية الذي كان مؤمناً له من قبل جهاز الأمن اللبناني. يتألف نظام الأمن اللبناني من أجهزة عديدة. تحتل الاستخبارات العسكرية موقعا رئيسيا في هذا التشكيل؛ وهي تغطي مجالات الأمن القومي، ومكافحة التجسس، ومكافحة الإرهاب، وقوة ضاربة. كذلك يشمل قسما لاعتراض الاتصالات. يغطي “الأمن العام” مجالات مرتبطة بالأجانب، وجوازات السفر والحدود، بالإضافة إلى مسائل أمنية ذات أرضية سياسية. هناك “قوى الأمن الداخلي” وهي تشمل قوة شرطة وقسماً لتقصي المعلومات على حد سواء. إن “جهاز امن الدولة” مسؤول إسميا عن مسائل أمنية ذات أرضية سياسية. الحرس الجمهوري مكلف حماية الرئيس، تحت السلطة الإجمالية لقائد الجيش. ثمة فرع لجهاز الاستخبارات العسكرية السورية في سوريا، مع مكاتب في أماكن متفرقة بينها بيروت. وخلافا لما تم التأكيد عليه أمام “البعثة” من قبل رؤسائه (جهاز الاستخبارات العسكرية السورية المترجم)، تقودنا الدلائل والشهادات المتطابقة، إلى الاعتقاد من دون أدنى شك معقول بأن هذا الفرع أدى دورا رئيسيا في الحياة السياسية اللبنانية وكان له دور فعال، ما لم يكن الأمر إشرافا مباشرا، على إدارة الشؤون الأمنية في لبنان.
(17)
استنادا إلى القوانين والقواعد المتبعة، تنسق هذه الأجهزة المختلفة في ما بينها، وهي جميعا أعضاء في “مجلس الأمن المركزي” الذي يجتمع مرة في الشهر برئاسة وزير الداخلية. غير ان مصادر عديدة، بينها مسؤولون أمنيون، ووزراء ورؤساء سابقون، أبلغوا “لبعثة” أن الممارسة تتبع أنماطا مختلفة. أولا، إن التنسيق بين الأجهزة غير موجود تقريبا: إن المجلس المذكور هو أمر شكلي أكثر من كونه آلية تنسيق. ثانيا، إن القنوات التي تسلكها التقارير الأمنية الموضوعة، تتبع الولاءات الشخصية والسياسية وليس الترتيبات الدستورية. إن رؤساء الأجهزة الأمنية يرفعون المعلومات الجوهرية إلى “أولئك الذين عينوهم، إلى أولئك الذين يدينون بالولاء لهم”، ويحيلون الشكليات والمسائل التافهة فقط إلى “مجلس الأمن المركزي”. بالإضافة إلى ذلك، ثمة نقص كبير في الإشراف و/أو المراجعة القضائية لعمل الأجهزة الأمنية. على سبيل المثال، إن ل”قسم اعتراض الاتصالات” في جهاز الاستخبارات العسكرية “تفويضا دائما” لاعتراض اي من الاتصالات التي يعتبرها القسم مناسبة، بدعم يقتصر على رئيس الجهاز من دون أي شكل من أشكال الإشراف أو المراجعة الخارجيين. وبشكل مماثل، من الواضح أن ثمة مساءلة قليلة للغاية، إذا كانت موجودة أصلا، ما خلا تلك المرتبطة بالولاءات غير الرسمية والتي تتجاوز الدستور.
(18)
هذا التشكيل يشرح جزئيا النقص في الثقة التي يبدو أن الشعب اللبناني يشعر به إزاء أجهزته الأمنية. إن جميع الذين تحدثوا إلى “البعثة”، من دون استثناء تقريبا، بينهم بعض المسؤولين الأمنيين، أعربوا عن شكوكهم بشأن قدرة و/أو إرادة الأجهزة الأمنية لتوفير الأمن لشخصيات سياسية معرضة لتهديدات. فيما اتهم البعض الجهاز الأمني بالتورط الصريح في تهديد سياسيين، قال آخرون إن الثقافة السائدة تتمثل في انه يتعين على السياسيين أن يحموا أنفسهم بوسائلهم الخاصة أو، في أفضل الأحوال، أن الأجهزة الأمنية لم يكن لديها سلطة كافية لحماية الشخصيات المهددة. أشار كثيرون إلى واقع أن لبنان شهد عددا كبيرا من الاغتيالات السياسية في السنوات الثلاثين الأخيرة، وان غالبيتها لم يتم حلها حتى الآن.
(19)
بعد مناقشات مع مسؤولين أمنيين عديدين، بينهم رؤساء الاستخبارات العسكرية، وقسم “القوات الخاصة ومكافحة الإرهاب” في الاستخبارات العسكرية، وقسم “اعتراض الاتصالات” في الاستخبارات العسكرية، الأمن العام، قوى الأمن الداخلي، والحرس الجمهوري، توصلت “البعثة” إلى استنتاج بأنه كان ثمة قصور خطير من قبل جهاز الأمن اللبناني لتوقع اغتيال السيد الحريري وإحباطه. برغم الشائعات الواسعة الانتشار بشأن تهديدات بالإيذاء الجسدي ضد السيد الحريري و/أو السيد جنبلاط، بينها إمكان الاعتداء على حياتهما و/أو على حياة أفراد من عائلتيهما، وبرغم محاولة الاعتداء على حياة الوزير السابق مروان حمادة، لم تتخذ أي من أجهزة الأمن إجراءات إضافية لحماية أي منهم.
(20)
تنفي جميع الأجهزة الأمنية أن تكون قد تلقت معلومات عن تهديد أو تهديد محتمل ضد السيد الحريري، والسيد جنبلاط، أو ضد أي من أفراد عائلتيهما. غير أن كل من تحدث إلى “البعثة” من خارج الأجهزة الأمنية كان يبدو انه مدرك لتلك التهديدات. بالإضافة إلى ذلك، وبرغم الارتفاع المعترف به في حدة التوتر، إن أيا من الأجهزة الأمنية لم يعد “ملفاً تقييمياً” بشأن أمن السيد الحريري، “الشخصية السياسية الأكثر أهمية في لبنان”. إن أيا من الأجهزة الأمنية لم يقترح أو ينصح أو يحاول رفع مستوى الحماية المؤمن للسيد الحريري. على العكس من ذلك، إن فريق الحماية الخاص المؤمن للسيد الحريري من قبل قوى الأمن الداخلي، تم تقليصه من حوالى 40 إلى 8 أشخاص، بعد وقت قليل من تركه منصبه. برغم أن تقليص العدد هذا ينسجم مع القواعد، إلا انه شكل إهمالا صارخا في ضوء الظروف الخاصة السائدة. في لحظة اغتياله، كانت حماية السيد الحريري مؤمنة بشكل شبه كامل من قبل فريقه الأمني الخاص.
(21)
حين ناقشت “البعثة” هذا الجانب مع المسؤولين الأمنيين اللبنانيين، حاجج العديد منهم بأن “الوقاية” هو مفهوم غريب عن الإدارة الأمنية في لبنان. هذه الحجة غير مقبولة: الوقاية هي جزء لا يتجزأ ومهم من أي نظام أمني عامل. بالإضافة إلى ذلك، هذه الحجة غير صحيحة أيضا: فقد أبلغنا الحرس الجمهوري انه حافظ على “ملف تقييمي” دوري بشأن أمن الرئيس، بينه تقييم مستوى التهديد والخطر اللذين يتعرض لهما، وذلك استنادا إلى قراءتهم للوضع السياسي، والشائعات، والوضع الأمني إجمالا. إن جهازا أمنيا يعمل بفاعلية، ويتمتع بمصداقية، ومحترف، يتعين أن يكون قد أعد، وحافظ على، وحدّث ملفا تقييميا مماثلا في ما يتعلق بأمن “الشخصية السياسية الأكثر أهمية في لبنان”.
(22)
استنادا إلى ما سبق ذكره، ترى “البعثة” ان جهاز الأمن اللبناني أخفق في توفير حماية مناسبة للسيد الحريري وبالتالي وفر بيئة ملائمة لاغتياله.
2 الظروف
(23)
في جمع الوقائع المتصلة بالظروف، حددت “البعثة” التحرك الأخير للسيد الحريري قبل حدوث الاغتيال بالضبط، كما حددت سبب الانفجار ونوعه ووزن الشحنة المستخدمة، وراجعت الجادات الرئيسية للتحقيق الذي أجرته السلطات اللبنانية، استنادا إلى المقاييس الدولية المقبولة. إن مراجعة التحقيق تتضمن الأمكنة الحاسمة لإدارة ساحة الجريمة، والحفاظ على الأدلة، والتحقيق في ادعاء المسؤولية عن الاعتداء الذي بثته قناة “الجزيرة”، والتحقيق بشأن المفجر المشتبه به، والتحقيق في سيارة المفجر، وملاحظات عامة حول مصداقية التحقيق.
التحركات الأخيرة للسيد الحريري
(24)
في يوم الاثنين 14 شباط 2004، حوالى الساعة الثانية عشرة والنصف، غادر السيد الحريري مبنى البرلمان في وسط بيروت وسار حوالى 70 مترا إلى مقهى (بلاس دو ليتوال) في ساحة النجمة، حيث التقى عددا من الأشخاص. حوالى الساعة الثانية عشرة وخمسين دقيقة، غادر المقهى برفقة الوزير السابق والنائب باسل فليحان. كان موكبه الأمني يتألف من 6 مركبات؛ أولا، سيارة جيب على متنها 4 من رجال الشرطة المحليين (السيارة الأولى في الموكب)؛ ثانيا، سيارة مرسيدس سوداء تنقل 3 حراس أمنيين خاصين؛ ثالثا، سيارة مرسيدس مصفحة مموهة سوداء يقودها الحريري يرافقه السيد فليحان؛ رابعا، سيارة مرسيدس على متنها 3 حراس أمنيين خاصين؛ خامسا، سيارة مرسيدس على متنها 3 حراس أمنيين خاصين؛ وسادسا، سيارة جيب سوداء (سيارة إسعاف) في نهاية الموكب تقل 3 حراس أمنيين خاصين. إن ثلاثاً من سيارات المرسيدس كانت مجهزة بأجهزة تشويش عالية المستوى (4 ghz)، كانت تعمل خلال الرحلة الأخيرة. إن جميع المركبات كانت مجهزة بأسلحة رشاشة، وجميع المرافقين كانوا مدربين.
(25)
إن الطريق التي تم سلوكها، أُبلغت السيارة التي تتصدر الموكب بها فقط لحظة غادر السيد الحريري المقهى. غادر الموكب ساحة النجمة ومر عبر شارع الأحدب وشارع فوش. في نقطة اتصال شارع فوش وشارع المرفأ، استدار الموكب يسارا وأخذ الطريق الساحلية باتجاه عين المريسة وفندق السان جورج.
(26)
عند الساعة الثانية عشرة و56 دقيقة و26 ثانية، كان موكب السيد الحريري يمر مباشرة خارج فندق السان جورج، وهي طريق مر بها 6 مرات فقط في الأشهر الثلاثة الأخيرة. حصل انفجار ضخم ما أدى إلى مقتل السيد الحريري، و7 من مرافقيه الأمنيين و12 مدنيا آخرين كانوا في الجوار. أحضر السيد الحريري إلى مستشفى الجامعة الأميركية، حيث تعرف إلى جثته طبيبه الخاص وطبيب قانوني عينته الحكومة. كان ممكنا التعرف إلى الجثة من خلال علامات الجسد، والأشعة السينية، وسجلات الأسنان. كان سبب الوفاة جرحاً فورياً في الدماغ أدى إلى توقف في عمل القلب.
الانفجار
(27)
تفحصت “البعثة” وحللت وأجرت اختبارات في ساحة الانفجار، طيلة 7 أيام. إن وجهة نظر (البعثة المترجم) حول طبيعة الانفجار ونوعيته، تستند إلى تفسير خبرائها لأربعة عناصر أساسية: أ التشتت وحجم وشكل الشظايا التي تسبب بها الانفجار؛ ب حجم وشكل الحفرة التي خلفها الانفجار؛ ج التفسيرات الخاصة بالمقذوفات؛ د التفسيرات للدمار الذي لحق بالأبنية في موقع الانفجار وحوله.
(28)
إن تحليل الشظايا التي تسبب بها الانفجار ولشكل الحفرة وهيئتها، يعطي مؤشرات تدعم أيضا فرضية حصول انفجار فوق الأرض وتحته. غير أن تحليل الدمار الذي خلفه الانفجار في الأبنية، وفي موقع الجريمة وحولها، يوحي بأن الانفجار حصل فوق الأرض. إن إثبات وجود ترسب حراري على عدد من الشظايا المعدنية، هو مؤشر واضح إلى وجود شحنة تفجير كبيرة؛ إن واقع أن خبراء “البعثة” وجدوا أدلة على ترسب حراري على شظايا مركبات وعلى شظايا من مماسك دروع حديدية موضوعة أمام فندق السان جورج، يدعم فرضية أن حدوث الانفجار فوق الأرض. إن العثور على شظايا حديدية ملتصقة بجوانب السيارات، يؤشر إلى حصول انفجار لسيارة ثقيلة وتشتت تلك الشظايا في ذاك الاتجاه.
(29)
إن العديد من المؤشرات التي تشير الى حصول انفجار تحت الأرض، مثل الشظايا على زفت الطريق والفجوات وأمور أخرى عثر عليها في الطوابق العليا لفندق السان جورج، والآثار على سطوح المركبات، والدمار في الطوابق العليا في المباني المجاورة، لا تتضارب مع حصول انفجار واسع فوق الأرض.
(30)
بعدما أجروا جميع التحليلات والأبحاث بشأن العينات التي تم جمعها، وصل خبراء “البعثة” إلى استنتاج بأنه من المرجح أن يكون الانفجار فوق الأرض، وان المتفجرات التي استخدمت هي من نوع “تي أن تي” ووزنها التقريبي يبلغ ألف كيلوغرام.
ساحة الجريمة
(31)
تقع ساحة الجريمة في عين المريسة، مدينة بيروت، خارج فندق السان جورج. إن الحالة المباشرة لما بعد الانفجار تمثلت في مشهد فوضى، مع فرق الإنقاذ من أجهزة متعددة، وإعلاميين، ومئات المارين والمقيمين في بيروت وهم يصلون إلى المكان للمساعدة والمراقبة. إن نقل المتوفين والجرحى بدأ على الفور تقريبا. إن الكثير من عمليات الإنقاذ الأولية قام بها بشكل غير رسمي أشخاص وصلوا إلى المكان قبل وصول فرق الإنقاذ.
(32)
في الحالة المباشرة لما بعد الانفجار، في 14 شباط، كُلفت المحكمة العسكرية بالتحقيق في الجريمة، وتحمل القاضي رشيد مزهر من تلك المحكمة المسؤولية الإجمالية للإدارة والتحقيق في الجريمة، بينها إدارة ساحة الجريمة والحفاظ على الدلائل وجمعها من قبل السلطات المحلية المعنية. وفي إجراء يرتبط بأمن الدولة، أحيلت القضية إلى المجلس العدلي، وذلك تطبيقا للقانون الوطني ذي الصلة، وفي 21 شباط عين قاضي المحكمة الجزائية ميشال أبو عراج، كقاض محقق بدلا عن القاضي رشيد مزهر.
(33)
إن الفشل في تحمل معظم المهام الأساسية المرتبطة بهذه المسؤولية، بدا جليا منذ البداية عندما تم اكتشاف الآتي:
أ. تم اكتشاف جثة شخص في 15 شباط يُعتقد انه بقي حيا حوالي 12 ساعة تقريبا بعد وقوع الانفجار.
ب. تم اكتشاف جثة عن طريق الصدفة في 22 شباط 2005.
ج. تم تحديد موقع جثة واكتشافها عن طريق أفراد عائلتها في الأول من آذار 2005.
د. تم الإبلاغ عن فقدان شخص ويُعتقد انه لا يزال في موقع الحادث حيث وقع الانفجار.
الحفاظ على الأدلة
(34)
إن الحفاظ على الأدلة، برغم انه أساسي لإنجاح أي تحقيق، يأتي في المرتبة الثانية مقارنة مع الحفاظ على حياة بشرية والعثور على الجثث. في هذه الحالة كما في غيرها من حالات الطوارئ الكبرى، لم يكن الحفاظ على موقع (الجريمة المترجم) يشكل أولوية بالنسبة لفرق الإنقاذ التي جاءت لتقديم المساعدة. ولكن، وبعد حالة الفوضى الأولية ونقل الجثث والجرحى، كان يتعين على الأجهزة الأمنية تحت توجيه وإشراف قاضي التحقيق رشيد مزهر، أن تخلي المكان من الناس وأن تمنع أي شخص غير مرخص له من الدخول إلى الموقع. وبعد إكمال بحث دقيق في المكان من أجل التأكد من اكتشاف جميع الجثث والجرحى، كان يتوجب حماية الموقع بشكل كاف للحفاظ على جميع الأدلة المتوفرة. إن السلطات المعنية أخفقت في القيام بذلك.
(35)
حددت “البعثة” أيضا نقاط الضعف الآتية:
أ. في 14 شباط قبيل منتصف الليل بقليل، تمت إزالة المركبات الست التابعة لموكب السيد الحريري، بالإضافة إلى سيارة من طراز بي أم دبليو (ليست من ضمن الموكب) من الموقع، ونقلت إلى ثكنة الحلو في مدينة بيروت. برغم أن المركبات تمت تغطيتها بعد نقلها، إنها لا تزال حتى اللحظة غائبة عن موقعها الخاص في موقع الانفجار، ما يعيق بالتالي إجراء أي تحليل خاص بالمقذوفات، وتحليل للمتفجرات، وتجميع الأدلة في ساحة الجريمة.
ب. إن الجيش اللبناني، والشرطة ورجال الاستخبارات، وبينهم خبراء متفجرات، تدخلوا وأزالوا مواد ذات قيمة دلالية محتملة من دون توثيق ذلك على نحو دقيق، والإبلاغ عن أنشطتهم أو مقارنتها.
ج. بمعزل عن الدخول الأولي لوسائل الإعلام إلى المكان مباشرة بعد وقوع الانفجار، حصلت وسائل الإعلام على قرار رسمي أصدره القاضي مزهر، سمح لها بالدخول إلى موقع الانفجار في 15 شباط، بعدما تمت حماية الموقع من قبل أجهزة الأمن.
د. إن موقع الانفجار (الحفرة الناجمة عنه) كانت تغمره الماء في الأيام التي تلت الانفجار، بعدما أخفقت السلطات والشرطة المحلية من منع المياه من التدفق إلى الحفرة من خلال الأنابيب المكسورة في الموقع، ما تسبب بإلحاق الضرر أو حتى إزالة أدلة حيوية.
هـ. جلب أعضاء من القوى الأمنية أجزاء من الشاحنة إلى الموقع بعد مرور بعض الوقت على الحادث ووضعت الأجزاء في الحفرة ثم إلتقطت لها صور واعتبرت أدلة.
و. وصولا إلى السادس من آذار، رصدت البعثة عددا كبيرا من شخصيات مجهولة وأشخاصا في ثياب مدنية يحومون حول الموقع، ولم يكن هناك تسجيل للأشخاص الداخلين أو الخارجين من الموقع ولم يكن هناك مراقبة لإخلاء أو جلب المواد/النماذج إلى الموقع.
ز. خلال اللقاء مع فريق التحقيق المحلي في الثامن من آذار طلب أعضاء البعثة تقريرا يؤرخ لموقع الجريمة من ناحية: دخول الشخصيات، الأدلة التي جمعت، الأغراض التي أخذت، الفحوصات التي أجريت والتنظيم العام لموقع الجريمة. في 15 آذار أعلمت البعثة أن مثل هذا التقرير لم يوضع ولا يمكن تأمينه.
ح. هناك دليل قوي يشير إلى أن قضاة التحقيق كانوا غير متحكمين بالتحقيق.
ط. أجهزة المخابرات/ الحكومة دخلت عنوة إلى الموقع وبطريقة ظاهرة للعيان ومن دون إذن قضائي، وفي ما بعد فشلت في تنسيق ما عثر عليه. Failed to coordinate findings
(36)
لذا، فإن البعثة ترى أن موقع الجريمة لم ينظم أو يحمى بطريقة مناسبة وأنه نتيجة لذلك فإن دليلاً مهماً قد أزيل أو دمر من دون تسجيل. ويجب تحميل المسؤولية للمسؤولين عن عدم التنظيم هذا.
بث قناة الجزيرة
(37)
نحو الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر 14 شباط، تلقى مدير مكتب الجزيرة في بيروت اتصالا من رجل يصف مدير المكتب لغته العربية بالضعيفة أو أن الرجل يدّعي هذا. وقال الرجل إن “مجموعة النصرة والجهاد في بلاد الشام تدّعي مسؤوليتها عن إعدام العميل رفيق الحريري، باسم المظلومين، النصرة والجهاد”. بثت الجزيرة التصريح عند الساعة الثانية من بعد الظهر. عند الساعة 2 و19 دقيقة و25 ثانية اتصل رجل آخر بقناة الجزيرة متحدثا “بعربية جيدة جدا” قائلا إنه يمكن إيجاد شريط في شجرة بالقرب من مبنى مقر الأمم المتحدة في بيروت. طلب من أحد أعضاء مكتب بيروت في الجزيرة الذهاب لجلب الشريط لكنه فشل في إيجاده. أرسل عضو آخر من المكتب حيث وجد الشريط وجلبه وسلمه إلى مدير المكتب. عند الساعة الثالثة و27 دقيقة و37 ثانية أجري اتصال ثالث بالمكتب حيث سأل رجل صوته يختلف عن صوتي المتصلين السابقين عن سبب عدم بث الشريط. أخبره مدير المكتب أنه لا يمكن بث الشريط قبل اتخاذ القرار في مكتب الجزيرة الرئيسي في قطر. المتصل الذي كان خلال هذا الوقت يصرخ بصوت عال هدد المدير بأنه سيندم في حال لم يبث الشريط. عند الساعة الخامسة و4 دقائق و35 ثانية أجري اتصال أخير بمكتب الجزيرة بصوت الرجل نفسه، غاضبا بشدة، سائلا المدير ما إذا كان الشريط سيبث أم لا. وضع المدير المتصل في الانتظار ثم عرف أن القرار اتخذ ببث الشريط، وعندها أعلم المتصل أن عليه أن يشاهد التلفزيون. أظهر الشريط الذي بث عبر الجزيرة شابا ملتحيا يدّعي مسؤوليته عن قتل الحريري باسم مجموعة النصرة والجهاد في بلاد الشام. عُرف أن الشخص الذي يظهر في الشريط هو أحمد أبو عدس من سكان بيروت وعمره 22 عاما.
(38)
عند الساعة الثانية و11 دقيقة و25 ثانية من اليوم نفسه، أي 14 شباط، تلقت مستشارة لدى وكالة رويترز اتصالا من رجل تشرح أن لكنته ليست لبنانية لكنه “يستخدم اللكنة الفلسطينية بطريقة خاطئة”. تقول إن الرجل الذي كان يصرخ بطريقة آمرة طلب منها أن “اكتبي، اكتبي ولا تتكلمي”، نحن مجموعة النصرة والجهاد في بلاد الشام، أوقعنا العقاب العادل في الكافر رفيق الحريري حتى يكون مثلا للآخرين من أمثاله”. وبناء على تعلميات موظف من رويترز لم ينشر محتوى هذا الاتصال لأنه لا يمكن التوثق من مصدره.
(39)
من أصل الاتصالات الخمسة التي أجريت بالجزيرة ورويترز، تم تحديد مواقع أربعة اتصالات. كل المواقع التي حددت من قبل الشرطة اللبنانية كانت من أجهزة هاتف عامة في مدينة بيروت. مكان وضع شريط الفيديو من قبل شخص أو أشخاص مرتبطين باغتيال الحريري أمن لقوى الأمن معطى مهماً لسير التحقيق. لكن سلطات التحقيق فعلت القليل للتحري عن هذا المعطى. أعضاء البعثة وثقوا أن نظامي ال CCTV في موقعين مهمين للغاية لم يجر التحقق منهما قط. شهود يعملون في المنطقة تعرفت عليهم البعثة لم تجر مقابلات معهم ومعظم التحقيقات الأساسية لم تحصل. أولئك المسؤولون عن هذا العنصر من التحقيق أظهروا إهمالا فادحا.
المتهم
(40)
أحمد أبو عدس فلسطيني الأصل ولد في جدة في السعودية بتاريخ 29 آب 1982 وأتى مع عائلته إلى لبنان سنة 1991. هو ابن تيسير ابو عدس ونهاد موسى. لديه شقيقتان تعيشان في بيروت وشقيق واحد يعيش حاليا في ألمانيا. كان عاطلا عن العمل. تظهر التحقيقات أنه نحو الساعة السابعة صباح 16 كانون الثاني 2005 غادر أحمد ابو عدس بيته في الطابق الأول في بناية اسكندارني في محيط جامعة بيروت العربية في بيروت وأعلن رسميا أنه مفقود بتاريخ 19 كانون الثاني.
(41)
أفادت تحقيقات البعثة أنه منذ نحو ثلاث سنوات مضت، تغير أحمد ابو عدس من مراهق لا مبالٍ إلى متدين أصولي. وقبل شهر تقريبا من اختفائه، أخبر أبو عدس عائلته أنه التقى صديقا جديدا في جامع الحوري حيث يؤم هذا المصلين أحيانا. بحسب المعلومات من والدة أبو عدس، فقد اتصل “الصديق الجديد” ببيت أبو عدس حوالى التاسعة مساء 15 كانون الثاني وقال لأحمد انه قد يرسل في طلبه عند السابعة صباح 16 كانون الثاني قائلا إن مفاجأة ستكون في انتظار أحمد. تدعي الوالدة أنه حوالى السابعة صباح 16 كانون الثاني أرسل أحدهم في طلب أحمد عبر إطلاق أبواق سيارته المتوقفة أمام المبنى، وتقول ايضا ان أحمد الذي كان مستيقظاً لأداء الصلاة طلب منها بعض المال ثم أخذ ألفي ليرة لبنانية فقط (حوالى دولار واحد و33 سنتا) وقال لها إنه سيغيب لساعات قليلة فحسب. تقول الوالدة أيضا إن أحمد طلب منها أن تعتذر بالنيابة عنه من صديق آخر كان على موعد معه في ذاك التاريخ.
(42)
في 14 شباط كانت عائلة ابو عدس تشاهد التلفزيون عندما بثت قناة الجزيرة الشريط المسجل يدّعي فيه ابنها أحمد مسؤوليته عن قتل الحريري باسم جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام. حوالى الساعة الثامنة والنصف مساء سلّم الأب والأم والشقيقة الصغرى أنفسهم لقوى الأمن وتم اعتقالهم جميعا. في اليوم التالي أطلق سراح الشقيقة وبقي الوالدان محجوزين لسبعة ايام تقريبا. التحقيق في قضية أحمد ابو عدس شمل اعتقال وإخضاع أفراد العائلة للاستجواب، استجواب الأصدقاء، التدقيق في المخابرات الهاتفية وتفتيش البيت حيث يسكن أحمد مع عائلته. معلومات التحقيق تشير إلى أخذ جهاز الكومبيوتر الخاص بأحمد من منزله كدليل في التحقيق. وشملت الأدلة ايضا 11 شريط فيديو، 55 قرصا مدمجا (cd) ، “فلوبي ديسك” واحد، وقرص صلب (hard drive) واحد. وما خلا المعلومات التخريبية الظاهرية التي وجدت على القرص الصلب، هناك إشارة ضعيفة جدا إلى أن لدى أحمد ابو عدس ميولا تخريبية أو عنفية.
(43)
التحقيق في هذا الجانب من الجريمة أظهر العيوب التالية:
أ. أكد الضباط الذين قادوا التحقيق للبعثة أن أحمد ابو عدس كان متصلا بالإنترنت من منزله وأن المعلومات الموجودة على القرص الصلب كانت قد حملت مباشرة إلى الجهاز في المنزل. لكن معلومات البعثة أكدت أن أحمد أبو عدس لا يملك وسيلة اتصال بشبكة الإنترنت من منزله وهو بالتالي لا يستطيع الدخول إلى المواقع الالكترونية المقترحة. تشير معلومات البعثة الى أن قوى الأمن لم تستبن أو تستخرج معلومات من مقاهي الإنترنت المجاورة للمنزل كمحاولة للوصول إلى مصدر المعلومات المحفوظة على كومبيوتر أحمد ابو عدس.
ب. هناك دليل ضعيف على مقولة ميول أحمد ابو عدس العسكرية او المتطرفة.
ج. لا دليل يؤكد أن أحمد ابو عدس خطط لمغادرة المنزل أو انه قرر ألا يعود إليه عندما تركه في 16 كانون الثاني 2005.
د. لا توجد معلومات مخابراتية تدل على وجود “جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام” قبل أو بعد الانفجار.
هـ. تتطلب عملية اغتيال مثل هذه تمويلا كبيرا ودقة وإتقانا في التنفيذ ودعما لوجستيا اساسيا تتخطى مقدرة أي إرهابي فردي أو مجموعة إرهابية صغيرة. لا دليل إلى أن أحمد أبو عدس لديه القدرة على تخطيط أو تنفيذ عملية الاغتيال بمفرده، أو ان لديه المقدرة المالية.
العربة المشتبه بها
(44)
يقع فرع لمصرف “اتش اس بي سي” قرب موقع الانفجار. ولدى المصرف نظامه الامني الخاص (سي سي تي في) الذي التقط صوراً لتحركات موكب الحريري قبل الانفجار فورا، لكنه لم يصور مشهد الانفجار ذاته. وأخذت نسخ من تسجيلات هذا النظام (سي سي تي في) من قبل عدد من أجهزة الامن اللبنانية بعد فترة من بدء إجراءات التحقيق. وبعد تدقيق شديد، تظهر الصور المسجلة عربة بيك آب بيضاء تدخل منطقة الانفجار قبل قليل من موكب الحريري. وتظهر التسجيلات بوضوح ان هذا البيك آب الابيض يسير بسرعة تقل تقريبا ست مرات عن كل السيارات التي تجتاز القاطع ذاته من الطريق. ويظهر تحليل للتسلسل الزمني ، انه في ال 50 الى ال60 مترا من الطريق التي تغطيها الكاميرا، فإن سيارة عادية يستغرقها الامر ثلاث أو اربع ثوان لقطع المسافة، بينما يستغرق شاحنة كبيرة خمس الى ست ثوان لقطع المسافة. البيك آب البيضاء المشتبه بها استلزمها الامر نحو 22 ثانية لقطع المسافة والدخول الى منطقة التفجير قبل 1,49 دقيقة من موكب الحريري. ومن التقديرات انه اذا كانت عربة البيك آب استمرت في السرعة ذاتها، فإنها ستكون في مركز الانفجار تماما قبل نحو دقيقة وتسع ثوان من موكب الحريري. ومن التقديرات انه اذا واصلت البيك آب رحلتها في السرعة ذاتها من دون توقف، فإنها كانت ستتأثر بقوة الانفجار وكانت على الارجح ستظل في الموقع بعد الانفجار. ومن أجل تجنب الانفجار، فإنه كان يتحتم على هذا البيك آب ان يزيد سرعته بشكل كبير فورا بعد الخروج من نطاق كاميرا (سي سي تي في) التابعة ل”اتش اس بي سي”.
(45)
حدد ضباط التحقيق اللبناني وجود هذا البيك آب، وسلوكه المشبوه كقضية أثارت اتجاها أساسيا/ حساسا في التحقيق. لقد حددوا نوع وطراز السيارة المشبوهة على انها عربة بيك آب “ميتسوبيشي كانتر” (موديل 19961995 على الارجح). سيطر تركيز التحقيق الذي قامت به الاجهزة الامنية اللبنانية على تحديد الملكية الفعلية للعربة من خلال محاولة تتبع تاريخ ملكيتها من خلال سجلات الترخيص للسيارة، وومراكز الحدود وسجلات التصنيع والبيع. وخلال البحث عن أدلة في موقع الانفجار، يزعم ان قوات الامن اكتشفت أجزاء من عربة بيك آب تماثل العربة المشبوهة والتي تحمل دليلا على ارتباطها في الانفجار. ويزعم ان الشرطة عثرت على 21 قطعة من هذه العربة المشتبه بها في موقع الانفجار وحوله. ويركز الدفع الاساسي لتحقيق قوى الامن على هذا الجانب من التحقيق. وحددت البعثة ان هذه العربة كما صورتها ال(سي سي تي في) التابعة لمصرف “اتش اس بي سي”، كانت موجودة بالفعل، وموجودة في الموقع مثلما تمت الاشارة اليه، قبل الانفجار فورا والذي أودى بحياة السيد الحريري. وتقبل البعثة ايضا بأن نظرية ان هذه العربة كان لها دور في الاغتيال، نظرية تتمتع بالمصداقية، تتطلب تحقيقا شاملا وواسعا. واستعادت قوى الامن اللبنانية قطعا صغيرة لعربة الميتسوبيشي من الحفرة والمنطقة المحيطة بالانفجار. وجمعوا ايضا قطعا من عربة الميتسوبيشي من البحر المجاور للانفجار. وجمعت البعثة قطعة معدنية من الحفرة مشابهة للمعدن المستخدم قطع عربات النقل وتحمل دليلا يدعم نظرية الانفجار “فوق” الارض.
(46)
غير ان التحقيق في هذا الجانب من القضية لم يكن كاملا أو واسعا، وبرأي البعثة فإنه أضير بشكل جوهري وخطير بسبب إهمال وتراخي قوى الامن على الارض، وفق ما يلي:
أ. وصولا الى بعد شهر على الاغتيال، لم يُبذل أي جهد، أو بُذل جهد صغير، من قبل قوى الامن لتحديد تحركات هذه العربة المشتبه بها قبل الانفجار فورا او بعده مباشرة. هذا الجانب من التحقيق كان بإمكانه كشف دليل حيوي، بما في ذلك: التحديد المحتمل للمتورط أو المتورطين، واين تم ايقاف العربة قبل الانفجار مباشرة، وما اذا كانت العربة واصلت سيرها ولا دور لها في الاغتيال من أساسه، وهي مسألة تحمل اهمية خطيرة.
ب. توصلت البعثة الى ان جهدا ضئيلا بذل، او لم يبذل، لتحديد ما اذا كانت العربة المشتبه بها، واصلت سيرها، والى ان جهدا ضئيلا بذل، او لم يبذل، لتحديد صور ال(سي سي تي في)، او الشهود على الطريق بعد الانفجار.
ج. بإمكان البعثة القول بكل تأكيد ان اجزاء من العربة جلبت الى موقع الانفجار من قبل عناصر في قوى الامن بعد فترة زمنية ما من الاغتيال، ووضعت في الحفرة وتم تصويرها وهي داخل الحفرة من قبل عناصر في قوى الامن، وهو ما خلق شبهات خطيرة وشكوكا حول الدور الفعلي لهذه العربة في الاغتيال، وألحق ضررا بالغا بمصداقية المسار الرئيسي للتحقيق. مسار التحقيق هذا، وكذلك مسائل المصداقية ومجال الطعن القانوني، تضررت بشكل رئيسي.
(47)
في المحصلة، الطريقة التي أجري فيها هذا الجانب من التحقيق، يظهر على الاقل، إهمالا منظما، أرفق على الارجح بأعمال إجرامية يجب أن تتم محاسبة المسؤولين عنها.
تقييم عام للتحقيق
(48)
بمعزل عن وجوه النقص التي أشير اليها في ما سبق، لاحظت البعثة العيوب الآتية في عملية التحقيق اللبنانية:
أ. كان هناك انقطاع خطير بين الاعضاء البارزين في فريق قوى الامن المحلية المحققة.
ب. كان هناك نقص في التنسيق بين فريق التحقيق لقوى الامن، وبين قضاة التحقيق.
ج. كان هناك نقص في التركيز والسيطرة من جانب الادارة العليا المسؤولة عن التحقيق العام في الجريمة.
د. كان هناك نقص في المهنية في تقنيات التحقيق في الجريمة والتي تم استخدامها.
هـ. كان هناك غياب كامل للمعلومات الاستخباراتية، وكان هناك أو لم يكن القليل من تبادل المعلومات بين الاجهزة المختلفة المشاركة في التحقيق.
و. كان هناك غياب للامكانات التقنية والمعدات اللازمة لتحقيق كهذا.
(49)
استنادا على كل ما سبق، فإن البعثة تستنتج انه كان هناك نقص واضح في الالتزام بالتحقيق في الجريمة بطريقة فاعلة، وان هذا التحقيق لم ينفذ طبقا للمعايير العالمية المقبولة. وتؤيد البعثة ايضا الفكرة القائلة بأن التحقيق المحلي لا يملك القدرة ولا الالتزام من أجل النجاح. كما انه يفتقر الى ثقة الناس الضرورية لتكون نتائجه مقبولة.
3 عواقب
(50)
كان لاغتيال السيد الحريري اثر الزلزال على لبنان. صدمة، عدم تصديق وقلق، كانت الردود الاكثر انتشارا بين الناس الذين تحدثنا معهم. صدمة لان ما ظنه كثيرون ممارسات من الماضي، يبدو انها كانت تعود. عدم تصديق، لقتل رجل اعتبره الناس بمثابة رمز “اكبر من الحياة”. قلق من ان ينزلق لبنان عائدا الى الفوضى والنزاع الاهلي بسبب ذلك “الزلزال”. هذه المشاعر امتزجت معا سريعا في صرخة قوية وموحدة من اجل “الحقيقة”. كل هؤلاء الذين تحدثوا مع البعثة، أشاروا الى ان معرفة الحقيقة حول اغتيال السيد الحريري يأتي كأولوية قصوى لهم، وان السلام والاستقرار في لبنان لا يمكن ان يتم الحفاظ عليه من دون نهاية مقبولة لهذه الجريمة. كثيرون ذكروا البعثة باغتيالات سياسية سابقة إما لم يتم التحقيق فيها بشكل مناسب، أو لم تؤد الى نتائج مقنعة. كل من حاورناهم شددوا على ان هذا الاغتيال واحد من كثير مما وصفوه بأنه “ثقافة التحريض والاستخدام الوحشي للقوة”، والتي يجب أن تنتهي، وان الشعب اللبناني وقادتهم السياسيين يستحقون ان يعيشوا متحررين من الخوف والتهويل وخطر الاصابة الجسدية.
(51)
كانت عائلات الضحايا ما تزال في صدمة مفهومة عندما التقتهم البعثة. عائلة السيد الحريري ما يزال لا يمكنها تصديق ان الرجل الذي كرس حياته لخدمة بلده ، يمكن ان يتم التخلص منه بهذه البساطة في حين ان الحقيقة حول قتله معلقة على تحقيق مصداقيته محل شكوك كبيرة. ولا تزال عائلات الضحايا الآخرين، الحراس العمال في الموقع والعابرون وكل من فقدوا حياتهم، غير قادرة على فهم ما حدث حتى الآن أو لماذا. بالنسبة لكل هؤلاء الناس، فإن الحديث عن قدرات الاجهزة الامنية والتنسيق في ما بينها أو التكهنات السياسية للعامة، لا يساهم إلا في زيادة آلامهم. كل ما يتطلعون اليه الآن هو الحقيقة، كوسيلة لإنهاء عذاباتهم والسماح لهم بالحزن على أحبائهم.
(52)
عائلات الضحايا بالاضافة الى القادة السياسيين من شتى الخلفيات السياسة، من بينهم مسؤولون وأعضاء في الحكومة، أشاروا جميعا الى ان تشكيل لجنة تحقيق دولية ومستقلة، هو الوسيلة الوحيدة لاكتشاف الحقيقة حول اغتيال السيد الحريري. بعض محاورينا اتهموا الاجهزة الامنية اللبنانية والسورية بالمشاركة في الاغتيال، وبالتعمد في عرقلة التحقيق اللبناني من أجل التغطية على الجريمة. آخرون، من الجانب الحكومي، أشاروا الى الحاجة الى تحقيق دولي تحديدا من أجل إثبات براءة الاجهزة الامنية اللبنانية، وهو ما لا يمكن أن يتحقق من دون مساعدة خارجية عندما نأخذ بالاعتبار المصداقية المتلاشية للاجهزة الامنية والمحققين اللبنانيين.
(53)
خلال وجودنا في لبنان، أوقفنا الاشخاص العاديون في شوارع بيروت وشكرونا على جهودنا للتوصل الى “الحقيقة”، ودعونا الى عدم ترك هذا الامر من دون حل، وذكرونا بأهمية جلب المجرمين الى العدالة “من أجل مصلحة لبنان”. لقد حملت اللافتات في شوارع بيروت كلمة واحدة، عبر لغتين: الحقيقة. السياسيون، المسؤولون في الحكومة على المستويات كافة، وحتى بعض المسؤولين الامنيين، قالوا لنا ان كشف الحقيقة “هذه المرة” يعتبر حاسما من اجل جلب السلام الاهلي الى البلد، وتقليل التوتر والسماح للبنان بالتوجه قدما نحو الوضع الطبيعي.
(54)
بالاضافة الى ذلك، يبدو ان اغتيال الحريري قد فتح الابواب امام الاضطرابات السياسية التي كانت تغلي خلال العام الماضي. ان الاتهامات والاتهامات المضادة موجودة بكثرة وتثير نقاشا سياسيا كبير الاستقطاب. البعض يتهم أجهزة الامن السوري والقيادة السورية في اغتيال الحريري لأنه بات يشكل عائقا امام سيطرتهم في لبنان. وهم يجادلون في ان إبعاده بات ضروريا لسوريا من أجل إبقاء سيطرتها على نظام الحكم السياسي في لبنان، وخاصة اذا اضطرت سوريا الى إخراج قواتها. الذين يدعمون هذه النظرية يشددون على ان القيادة السورية لم تكن لتمانع في ان تكون “المشتبه به الواضح” وانها استعملت وسائل مشابهة في الماضي مع إبداء قلق قليل أو حتى من دون إبداء القلق في ترك آثار. استنادا الى هذه المصادر، فإن هذا الموقف يعتبر جزءاً من الاسلوب السوري في الادارة الاكراهية للشؤون اللبنانية. ويعتبر آخرون ان القيادة السورية لم تتوقع مثل ردات الفعل هذه من قبل الشعب اللبناني والمجتمع الدولي. من وجهة نظرهم ان القرار في إبعاد السيد الحريري كان “سوء تقدير استراتيجيا”، ليس غير متشابه بسوء التقديرات الاخرى من قبل الحكومة السورية.
(55)
يرد المؤيدون لسوريا عبر القول بأن السيد الحريري قد اغتيل من قبل “أعداء سوريا” الذين أرادوا قيام ضغط دولي على القيادة السورية من أجل تسريع زوال السيطرة السورية في لبنان و/أو بدء سلسلة من ردات الفعل التي من شأنها في نهاية الامر إحداث “تغيير في النظام” داخل سوريا نفسها. واستنادا الى مؤيدي هذه الفكرة، سيكون اغتيال الحريري بشكل فاضح خطأ ارتكبته القيادة السورية، لن تكون سوريا “المشتبه الواضح”، بل ستكون ايضا الخاسر الواضح. ويذكر الذين يصرون على هذه النظرية ببعض النتائج التي تلقيها عمليات الاغتيال السياسية وفي حالة اغتيال السيد الحريري ستكون هذه النتائج لغير صالح سوريا بشكل واضح.
(56)
لقد وسع الاغتيال بسرعة الفجوة بين الاحزاب السياسية اللبنانية وعزز الاستقطاب في المسرح السياسي الى درجة خطيرة. حالا بعد الاغتيال، انقسم الطيف السياسي بين معسكري “معارضة” و”موالاة”، تبلورا حول المواقف حيال الحكومة اللبنانية الحالية والرئيس والعلاقات اللبنانية السورية الحالية. بعد أسبوعين من الاغتيال، تظاهر عدد كبير من اللبنانيين في الشوارع للتعبير عن مزيج من الحزن، الغضب، القلق والمعارضة السياسية للتدخل السوري في الشؤون اللبنانية. اتهم المتظاهرون وقادة المعارضة وأجهزة الامن اللبنانية بالتورط في الاغتيال ودعوا الى استقالة الحكومة كما دعوا القوات السورية وأجهزتها الامنية الى مغادرة لبنان. وبرغم ان رئيس الوزراء (عمر) كرامي كان له غالبية في البرلمان وكان واثقا من الفوز في التصويت على الثقة، فقد استمع الى صوت الشارع وأعلن استقالة حكومته بينما كان المتظاهرون مستمرين في التجمع في مكان غير بعيد عن البرلمان.
(57)
استمر المحتجون وقادة المعارضة في حملتهم، داعين الى تنحي قادة الاجهزة الامنية كافة، انسحاب سوري يشمل الجيش والاستخبارات، تشكيل حكومة “حيادية” تركز على التحضير للانتخابات النيابية المقبلة ؤإجراء تحقيق دولي مستقل. ردت “الموالاة” سريعاً عبر التظاهر في الثامن من آذار عندما تظاهر نصف مليون شخص على الاقل دعما للحكومة وسوريا. فورا بعد ذلك، أعلن الرئيس السوري رغبة حكومته في سحب قواته الى سهل البقاع في تطبيق لاتفاق الطائف للعام 1989، ومن ثم انسحابات الى الحدود السورية. في المقابل، فإن هذا الاعلان لم يؤد الى إنهاء النقاش حول الوجود السوري. استمر قادة المعارضة في إظهار الشكوك حيال الرغبات السورية وطلبوا جدولا زمنيا للانسحاب، في ظل دعوة بعضهم الى تنفيذ ذلك قبل الانتخابات النيابية.
(58)
في 14 آذار، استنادا الى التقديرات المتوافرة، تجمع أكثر من مليون شخص في الساحة الرئيسية في بيروت وغنوا ل”استقلال” لبنان، تشكيل لجنة تحقيق مستقلة ودولية، تنحية قادة الاجهزة الامنية وتشكيل حكومة “حيادية” للتحضير للانتخابات المقبلة. لقد أخذت اللجنة علما بمخاوف من فراغ دستوري، كما المخاوف من عدم التمكن من التصويت على قانون الانتخاب في الوقت المعين أو في التحضير بشكل مناسب للانتخابات النيابية في ايار. كثيرون يقترحون ان المراقبة الدولية للانتخابات ستكون ضرورية لضمان عدالتها. ويشيرون الى ان انتخابات نزيهة ستساهم في استقرار الحالة السياسية. ثمة مخاوف ايضا من نزاع أهلي مع اتخاذ الانقسام بين المعارضة والموالاة دلالات مذهبية داخلية. هذه التوترات السياسية تحمل مخاوف على السلام والامن في لبنان، مع مضامين واضحة حيال الاستقرار في المنطقة بشكل عام.
(59)
إضافة الى ذلك، أعرب السياسيون اللبنانيون من مختلف الاتجاهات والولاءات للجنة عن مخاوفهم من ان لبنان سيصبح، مرة جديدة، أرضاً للتقاتل بالنسبة الى القوى الخارجية. كثيرون يشيرون الى الحرب الطويلة والماساوية كمثال على صراع القوى الخارجية على السلطة عبر الاطراف اللبنانية. ويشددون على هشاشة النظام اللبناني وقدرته المحدودة على مواجهة الضغط. كثير من الوجوه السياسية اللبنانية ركزت على قلقها من ان لبنان سيعاني من صراع بين سوريا والمجتمع الدولي، مع احتمال نتائج مدمرة على السلام والامن اللبنانيين. لقد ناشد القادة السياسيون اللبنانيون اللجنة دعوة المجتمع الدولي الى عدم استعمال لبنان كأداة للضغط، مع أحد المحاورين الذي قال للجنة “الوضع كثير الهشاشة، وسينكسر بسهولة”.
C توصيات وملاحظات ختامية
(60)
ان وجهة نظر البعثة هي ان اجهزة الامن اللبنانية والاستخبارات العسكرية السورية تتحمل المسؤولية الاولية عن النقص في الامن والحماية والقانون والنظام في لبنان. وقد أظهرت أجهزة الامن اللبنانية عن إهمال خطير ومنظم في أداء الواجبات التي تؤديها في العادة هرمية أمنية وطنية محترفة. وهي بذلك فشلت بشكل حاد في ان توفر لمواطني لبنان مستوى مقبولاً من الامن وهي بالتالي ساهمت في نشر ثقافة التخويف والافلات من العقاب. وتتقاسم الاستخبارات العسكرية السورية هذه المسؤولية نتيجة تورطها في ادارة اجهزة الامن في لبنان.
(61)
ثانيا، ان وجهة نظر البعثة هي ان حكومة سوريا تتحمل مسؤولية أولية عن التوتر السياسي الذي سبق اغتيال رئيس الوزراء السيد الحريري. ان حكومة سوريا مارست نفوذا يتجاوز حدود التعاون المعقول او علاقات الجوار. وهي تدخلت في تفاصيل حكم لبنان بطريقة ثقيلة الوطأة وغير مرنة كانت السبب الاول للاستقطاب السياسي ضدها. ومن دون استباق نتائج التحقيق فإن من الواضح ان هذا المناخ وفر الخلفية لاغتيال السيد الحريري.
(62)
ثالثا، كان واضحا للبعثة ان إجراءات التحقيق اللبناني يعاني من عيوب خطيرة. وسواء كان ذلك ناجماً عن نقص في الامكانات أو الالتزام، فإنه من المستبعد أن تصل هذه الاجراءات الى نتيجة مرضية. وبالاضافة الى ذلك، فإن مصداقية السلطات اللبنانية التي تتولى التحقيق هي عرضة للتساؤل من قبل عدد كبير من اللبنانيين، في المعارضة كما في الحكومة. لذا فإن وجهة نظر البعثة هي ان تحقيقاً دولياً مستقلاً سيكون ضرورياً لكشف الحقيقة. ومن أجل إجراء تحقيق كهذا، ستكون هناك حاجة الى فريق كاف يشمل مختلف ميادين الخبرة المطلوبة عادة لدى إجراء مثل هذه التحقيقات الموسعة في الانظمة الوطنية، مع مصادر وعناصر الدعم الضرورية، والمعرفة بالانظمة القانونية المعنية وغيرها. مثل هذا الفريق سيحتاج الى تفويض تنفيذي لإجراء الاستجوابات وعمليات التفتيش، والمهمات ذات الصلة. ويمكن لهذا الفريق ان يحظى بدعم ومشورة المصادر القضائية اللبنانية، من دون أي حكم مسبق على استقلاليتها. إلا انه من المشكوك فيه كثيرا ان يتمكن فريق التحقيق هذا من ان يقوم بمهماته بطريقة مرضية، أو ان يحظى بالتعاون الفعال والضروري من السلطات المحلية، اذا ظلت القيادة الراهنة للاجهزة الامنية اللبنانية في مناصبها.
(63)
رابعا، ان استنتاج البعثة هو ان استعادة مصداقية وسلامة الهرمية الامنية اللبنانية هي ذات اهمية حيوية للامن والاستقرار في البلد. وسيكون من الضروري بذل جهد حثيث لإعادة تنظيم وإصلاح وإعادة تدريب الاجهزة الامنية اللبنانية لبلوغ هذا الهدف، وهو ما يتطلب بالضرورة مساعدة ومشاركة فعالة من جانب المجموعة الدولية. وبناء على مراجعة البعثة للتشكيل الحالي للهرمية اللبنانية، فإن ستة مجالات رئيسية حددت كأولويات للاصلاح الامني:
أ. فصل الامن عن السياسة وإنشاء جهاز محترف.
ب. جعل الهرمية الامنية وطنية من خلال النأي بها عن النفوذ الخارجي ورفعها فوق مستوى الطائفية.
ج. إنشاء جهاز شرطة ديموقراطي يعنى بشكل خاص بحكم القانون وحقوق الانسان.
د. تحديد مستويات واضحة لرفع التقارير.
هـ. بناء القدرات
و. اعتماد آليات واضحة للمحاسبة والمراقبة القضائية.
(64)
وأخيراً، ان وجهة نظر البعثة هي ان الدعم السياسي الدولي والاقليمي سيكون ضرورياً لحماية وحدة لبنان الوطنية وصيانة سياسته الهشة من الضغط غير المرغوب به. ان تعزيز فرص السلام والامن في المنطقة سيوفر أرضية صلبة لاستعادة الوضع الطبيعي في لبنان.
رئيس بعثة الامم المتحدة لتقصي الحقائق في لبنان
بيتر فيتزجيرالد
نيويورك
لقراءة التقرير بالانكليزية الرجاء الدخول الى Gallery وتحميل الملف