ندوة "روسيا ونحن" كلمة الاستاذ سمير عطالله

ندوة "روسيا ونحن" كلمة الاستاذ سمير عطالله
الثلاثاء 11 يونيو, 2019

كلمة الكاتب الأستاذ سمير عطالله

في محاضرة حول

العلاقات العربية – الروسية

فندق فينيسيا

في 11-6-2019

 

 

أيها الكرام

أنا سعيدٌ ومُشرَّفٌ بالدعوةِ التي وجّهَتْها إليّ مؤسسةُ فؤاد شهاب، مؤسِّسُ مشروعِ الدولةِ الحديثة في لبنان، ومُشرَّفٌ بحضورِكم ويسعدني جداً التحدّثُ إلى جانبِ سفير الروسيا السيد ألكسندر زاسبكين.

العلاقةُ العربيةُ – الروسية مثل أيّ علاقةٍ بين دولةٍ كبرى ودولٍ صغيرة، تَحكمُها تقلُّباتُ التاريخ وتغيّراتُ المصالح. يُضافُ إلى ذلك متغيّرٌ هائلٌ حدثَ في موسكو عندما حكمَتْ الإمبراطوريةُ السوفياتيةُ لأكثرَ من سبعين عاماً. ويميّزُ العلاقةَ بين روسيا القيصرية وروسيا السوفياتية وروسيا البوتينية، أنّها كانت دائماً علاقةَ مودَّةٍ وتعاطف. وقد نظرَتْ روسيا إلينا ونظرْنا إليها على أنها قوةٌ شرقيةٌ عظمى، في الوقت الذي كانت المنطقةُ في مهبِّ الاستعمارات الغربيّة وتكلّس الاستعمار التركي.

لم تقف روسيا المثلّثةُ إلى جانبنا فقط كشعوب، بل أيضاً كقضية، وخصوصاً في أَوج الصراع العربي – الإسرائيلي. لقد كان موقفُها صريحاً وعادلاً ولا يدّعي الحيادَ أو يزعمه. وفيما طرحت الولايات المتّحدة نفسَها على أنها الوسيطُ النزيهُ في هذا الصراع، طرحَتْ موسكو نفسَها كصديقٍ وحليف، وأحياناً كشريكٍ في معاهداتٍ دفاعيّة.

المؤسفُ في هذه العلاقةِ المعقّدةِ أحياناً، أنّنا لم نكنْ في أيِّ مرحلةٍ من المراحل على مستوى المكافأة في ما قدّمَهُ الرّوس. بلغَتْ ذروةُ النُّكران في 1972، عندما طردَ الرئيس أنور السادات عشرين ألف خبيرٍ روسيٍّ مع عائلاتهم من مصر، في قرارٍ لا مثيلَ له في عالمِ السياسة. وقد كان في حسابِه الخاطئ آنذاك أنّ الخطوةَ الفادحة سوف تجعلُ من أميركا حليفةً تامّةً للعرب وقضاياهم.

طبعاً، لم يحدث شيءٌ من هذا. وانتهى بنا الأمرُ الآن أن يعلِنَ الرئيسُ الأميركي أنّ القدسَ عاصمةٌ أبديةٌ لإسرائيل، والجولانَ المحتلَّ، أرضٌ إسرائيليةٌ في الأَساس.

الذين كتبوا التاريخَ من الوجهة العربية، ذهبوا حتى إلى تحميل السوفيات مسؤوليةَ النّكسةِ التي أصابتنا العام 1967. ولا شك أن بعضَنا كان يتوقّع عن سذاجةٍ أو عن خبث، أن يحاربَ السوفيات عنّا وعن الفلسطينيين. لكن عندما نعودُ إلى دراسة تلك الأحداث اليوم، نجدُ أنَّ موسكو تكبّدت حيال العرب في الاقتصاد وفي السياسة وفي المعنويّات، ما لم تتكبّدْه دولةٌ أخرى كبرى حيال أيّ حليفٍ أو صديق. وما زلتُ أذكرُ يومَ قال لي عاملٌ من بلغاريا وهو يهدّدني بعلبة سجائر، أنه يدفع ضِعف ثمنها بسبب دَعمِ الكتلةِ السوفياتية للحروب العربية الخاسرة.

ماذا قدّمنا للرّوس في المُقابل؟ لا شيءَ طبعاً. فالأنظمةُ التي وقَّعتْ معها معاهداتٍ دفاعية، عمَدت في الوقت نفسه إلى سَحل الشيوعيين في بلادها أو حشرهم في السجون والزنازن. ولم يُسمح للحزب الشيوعي بالعمل العلَني في أيّ بلدٍ سوى هذا البلد، الذي لا يزالُ حتى اليوم، وحتى إشعارٍ آخر، موئلَ الحرّيات في المنطقة، ولو رافقَها شيئٌ من الفوضى.

لم نُفِدْ روسيا في شيء. فعلى الصعيد الاقتصادي، كانت هي دائماً الداعمةَ والمتبرّعة، تعطينا السّلاحَ، ثم تُسامحُنا في ثمنه، وتطلبُ منّا شيئاً من دفء المتوسّط فننكرُه عليها ونستنكره. وحتى المقاومة الفلسطينية، رمَتْ في البداية بكلّ أوراقها على خشبة الخلاص الروسية، ثم عادَتْ واعتمدَتْ الواقعيةَ والبراغماتية، ورأينا الرئيس ياسر عرفات يظَهرُ فجأةً في أوسلو، معتبراً  أن لا جدوى من العلاقة مع دولةٍ خاسرة.

لعلّ روسيا في المرحلةِ الحاضرة، تعيشُ أفضلَ أيامِها مع العرب. فهي تقريباً بلا خُصومات. وليس من دولةٍ عربيةٍ لا تَرى فيها مرجعيةً سياسيةً إلى حدٍّ ما. وفيما تضطربُ العلاقةُ الأميركيةُ – العربية على نحوٍ مصيريٍّ وغيرِ مسبوق، وفيما تبدو أوروبا عاجزةً عن أيِّ عملٍ مُجْدٍ، برغم قُربِها الجغرافيِّ وحضورِها التاريخي، تبدو روسيا بلا خصومٍ في الشرق الأوسط، بما في ذلك إسرائيل. وربما أعطاها هذا الوضعُ زَخماً فريداً في ما يُسمّى تَجاوزاً: الشرق الأوسط الجديد.

ويناقضُ ذلك تماماً موقعُ الروسيا الذي كانت عليه بدايةَ القرن، يومَ فضّلَتْ ألّا تشاركَ في اتفاقاتِ سايكس بيكو، لتنصرفَ بدلَ ذلك إلى متغيّراتِها الداخليّةِ العاصفة.

جاءت روسيا الإمبراطورية إلى المنطقةِ لحمايةِ المسيحيين المستقيمي الرأي، وكان ذلك في ظروفٍ تختارُ فيها الأممُ الطوائفَ لِحمايتِها. ويطلبُ بعضُ الفُرقاء من موسكو الآن، أن تقفَ إلى جانبِ الأقلّياتِ مرةً أخرى. ولستُ أعتقدُ أنَّ ذلك في مصلحتِها أو مصلحتِنا. فالأخطارُ الرهيبةُ الماثلَةُ اليوم، تهدِّدُنا جميعاً. وليست الدياناتُ هي المُهَدَّدة بل الحضاراتُ والحرّيات. الهمجيُّ الذي قتلَ شهداءَ طرابلس ليلةَ عيد الفطر، لم يسألْ أحداً عن طائفتِه. والذين يُعرَفونَ بالدواعش نكَّلوا بالمسلمين أكثرَ بكثيرٍ من أيِّ فريقٍ آخر.

أفضلُ ما يمكنُ أن تفعلَه روسيا القديرة اليوم، هو أن تساعدَنا كدولٍ وشعوبٍ باحثةٍ عن صداقتِها، في إقامةِ مجتمعاتٍ ومؤسّساتٍ مدنيّة. وأن تفتحَ علينا أبوابَ العلومِ والتقدُّم، بحيثُ نكونُ أكثريّةً حضاريّةً واحدة، قابِلةً للحياةِ ومواجَهةِ العناصر  والتحدّيات.

لقد كانت روسيا الإمبراطورية، فريقاً واضحاً في سياساتِها وظروفِها، وكانت روسيا السوفياتية، فريقاً مُعلَناً هي أيضاً، ونأملُ أنْ تكونَ روسيا التي يمثّلُها السفير زاسبكين  اليوم، شريكَتنا جميعاً في إخراجِ هذه الأمّة من مستنقعاتِ التخَلُّف، وفي إقامةِ سلامٍ حقيقيٍّ، لا عقاري، برجُهُ الوحيد هو العدالةُ والحقوقُ وكرامةُ الشعوبِ وقداسةُ الأرض.