ندوة حوارية مع الاستاذ ايلي القصيفي

ندوة حوارية مع الاستاذ ايلي القصيفي
الخميس 21 فبراير, 2019

استضاف المركز اللبناني للبحوث والدراسات Politica الاستاذ ايلي القصيفي في ندوة حوارية تحت عنوان اللامركزية الادارية ما لها وما عليها. وقد شارك في النقاشات كل من الاستاذ انطوان الخوري طوق، الاستاذ ايلي الحاج، الاستاذ ايلي القصيفي، العميد جورج بو خاطر، الاستاذ حسن داوود، الاستاذ خليل طوبيا، الاستاذة رجينا قنطرة، الاستاذ ريمون معلوف، الاستاذ سامي شمعون، الاستاذ سعد كيوان، السيدة سناء الجاك، الدكتور طانيوس شهوان، الاستاذ طوبيا عطالله، الاستاذ طوني حبيب، السيد علي ابو دهن، السيدة عليا منصور، الدكتور فارس سعيد، الاستاذ فيصل ابو حسن، الاستاذة لارا سعادة، الاستاذ مياد حيدر.

وألقى الاستاذ القصيفي محاضرة، فتح بعدها النقاش.

نص المحاضرة:

إصلاح اللامركزية الادارية الموسعّة: تحدّيات وإمكانات

منذ توقيع "وثيقة الوفاق الوطني" في العام 1989 دخل مفهوم "اللامركزية" حيّز "الإجماع" في لبنان، بعدما كان يصدر سابقاً عن حيّز "فئوي"، (تعبير الوزير السابق زياد بارود)، في حقبات متعددة من تاريخ الجمهورية اللبنانية ومن منطلقات متنوعة ولأهداف مختلفة.

فقد ورد في وثيقة رسمية لحكومة الرئيس إميل اده في العام 1929 "أن السلطات المركزية تسيطر على معظم الصلاحيات والخدمات، ولسوء الحظ هناك نوع من الضعف في الإدارات الإقليمية، وهذا ما يعود بالسلب ايضا على السلطات المركزية لذلك وجب اعادة النظر بالتقسيمات الإدارية". (وثائقي اللامركزية الإدارية في لبنان - الإدارة بمحلها).

 كذلك شكّلت اللامركزية أحد العناوين الرئيسية للإصلاح السياسي الشامل، التي طرحها كمال جنبلاط في العام 1949 بهدف إقامة "دولة المواطن والمواطنة". وهو قال في محاضرة في الندوة اللبنانية سنة 1956 إن "لبنان وُجد فعلاً ليكون بلد اللامركزية، ولن ينجح حكم في لبنان سوى حكم اللامركزية". (محاضرة عن اللامركزية الادارية في رابطة أصدقاء كمال جنبلاط – 2015)

"وقد برزت المطالبة بإصلاح اللامركزية الإدارية في لبنان كعنوان إصلاحي منذ الستينيات، نتيجة الشكوى من تفاوت النمو الإقتصادي والإجتماعي بين المناطق (...)، وخلال سنوات الحرب الأهلية ظهرت مطالب بتبني اللامركزية السياسية عارضها  مطلب آخر بتبني اللامركزية الإدارية كحجة لمنع تقسيم لبنان". (مبادرة المساحة المشتركة 2016 ص. 12)

إلّا أنّ "اتفاق الطائف" نبذ بحسب د. أحمد بيضون "نزوات فدرالية ظهرت في أعوام الحرب" (بيضون 2012 ص 82)، وبتعبير آخر فهو بنصّه على "اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة"، "أقفل الباب في وجه طروحات اللامركزية السياسية والفدرالية، وإن كان الغموض ما زال يشوب هذه العبارة" (مبادرة ص. 19). إذ يعتبرها البعض "شعارا سياسياً ابتكره اهل الطائف كتسوية بين من كان ينادي باللامركزية السياسية ومن كان ينادي باللامركزية الإدارية خوفا من التقسيم"، بينما يعتبر البعض الآخر أن المقصود منها إعطاء السلطات المحلية قدرا واسعاً من الصلاحيات لإدارة مرافقها" (مبادرة ص. 20). من جهته يرى النائب السباق بطرس حرب، أن هذا البند في "الطائف" هو نتاج تسوية "بين جبهة تريد الفديرالية، وجبهة تريد ان لا يقسم لبنان، (فكانت هذه) الصيغة التي ترضي كافة الأطراف، كأحد أوجه الخروج من الازمة". (وثائقي اللامركزية الإدارية في لبنان - الإدارة بمحلها).

لكن وبالرغم من نحو ثلاثة عقود على توقيع "وثيقة الوفاق الوطني"، لا يزال إصلاح اللامركزية الإدارية مدرجاً في أجندة الإصلاح السياسي والإداري في لبنان، ولم يقترن بتطبيق تشريعي، على الرغم من بروز عدد من مشاريع واقتراحات القوانين التي طرحت وجرى التداول بها منذ العام 1990. وآخر هذه المشاريع مشروع القانون الذي اعدته لجنة خاصة شُكّلت بقرار صادر عن الرئيس نجيب ميقاتي في العام 2012 بالاتفاق مع الرئيس ميشال سليمان، ووضعت مشروعاً يقع في 147 مادة، تبناه النائب سامي الجميل كإقتراح كما هو، وقدمه إلى المجلس النيابي على شكل اقتراح ما يزال قيد المناقشة منذ 2017. ("لجنة بارود")

وبذلك تكون اللامركزية الإدارية، قد دخلت حيّز "الخيارات الكبرى، فانضمّت حيناً إلى قافلة البنود الإصلاحية المؤجّلة، وحلّت، أحياناً، ضيفةً على التعابير المستهلكة في لغة الوعود الخشبية". (زياد بارود 2007).

ما تقدّم يدفع إلى السؤال عن أسباب التأخير في بت إصلاح اللامركزية الإدارية كلّ هذه الفترة؟ فهل المعوقات إدارية تنظيمية بحت متصلة  بتحديات مقاربة الواقع التنظيمي الإداري للدولة اللبنانية بما يتناسب مع إصلاح "إستراتيجي" كهذا؟ أم هي سياسية متصلة  بتأويلات مفهوم اللامركزية الادارية الموسّعة نفسه لجهة منطلقاته وأهدافه؟ وهل يمكن الأخذ بإصلاح اللامركزية الإدارية وترك الإصلاحات الأخرى في وثيقة الوفاق الوطني؟ هل اللامركزية تيسّر الحد من الفساد الإداري أم العكس؟ وماذا تجرية الإدارات اللامركزية الحالية في لبنان، اي البلديات؟

ثمّ، هل السياق التاريخي الوطني الذي أدى إلى اعتماد إصلاح اللامركزية الإدارية في "الطائف" ما زال نفسه اليوم في لبنان والمنطقة؟ أي بمعنى آخر، هل التوقيت لجهة الأوضاع الراهنة للدولة والمجتمع مناسب لتطبيق هذا الإصلاح؟

هذه الاسئلة-الاشكاليات سنحاول الاجابة عنها في سياق ورقتنا هذه.

التحديّات الإدارية التنظيمية أمام إصلاح اللامركزية الإدارية

على الرغم من أن التداول باللامركزية الإدارية سابق على اتفاق "الطائف"، إلاّ أن النقاش بشأنها بات محدّدا بما نصّ عليه هذا الاتفاق، ويرى د. خالد قباني  أنّ "اتفاق الطائف نصّ على اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى ( القضاء وما دون) وذلك لتمكين الجماعات المحلية من إدارة شؤونها الذاتية عن طريق مجالس منتخبة محلياً Autonomie))". (ورشة عمل في مجلس النواب عن اللامركزية الادارية 2016) 

كذلك يعرّف قباني اللامركزية بأنها وجه من وجوه التنظيم إلإداري –  والسياسي أحيانا – في الدولة، وتقوم على أربعة مبادئ أساسية مترابطة هي كالآتي: (أ) الاعتراف بوجود مصالح محلية متمايزة عن المصالح الوطنية، (ب) الشخصية المعنوية، (ج) الاستقلال الاداري والمالي، (د) انتخاب مجالس محلية. (مبادرة ص. 18)

إلا أنّه يتبيّن أنّ معظم هذه المبادئ يثير اشكاليات حقيقية في مسار تحقيق اصلاح اللامركزية الادارية، فالمبدأ الأول اي الاعتراف بوجود مصالح محلية متمايزة عن المصالح الوطنية كان أثار موجة اعتراض واستهجان في البرلمان أثناء مناقشة اقتراح قانون لامركزية سابق، اذ اعتبر بعض السياسيين ان هذا التمايز يقود الى بروز نزعات انفصالية لدى بعض الفئات (مبادرة ص. 18، 19). مع العلم أنّ التمييز بين المصلحتين هاتين معترف به اصلا في لبنان باعتبار أن عمل السلطات المحلية اللامركزية، أي البلديات، يخضع للقوانين والدستور.

كذلك، ثمة أطراف ترفض تمتّع السلطة المحلية أي اللامركزية، بالإستقلال الإداري والمالي. إذ صرّح الرئيس نبيه بري لجريدة "الأخبار" في 2 تشرين الثاني 2017 بالآتي: «لن أقبل أي استقلال مادي أو أمني لهذه المجالس. لقد دفع اللبنانيون ثمناً غالياً لضرب مشروع تقسيم لبنان، ولن يحصل هذا على في قانون اللامركزية الإدارية الذي يهدف أوّلاً لإحقاق الإنماء المتوازن". كذلك النائب نواف الموسوي وإن كان "متحمسا للامركزية من دون تحفظ"، الا انه اعتبر ان "ثمة نقطة ذات اشكالية (في اقتراح الجميل) وهي انشاء قوة شرطة تكون بمثابة قوة عامة مسلحة، بمثابة جيش". (اللامركزية الإدارية في لبنان - المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية  2019).

كما أن مسألة انتخاب المجلس المحلي اللامركزي أثارت ولما تزل تثير تباينات وتناقضات، "اذ يستشف من اقتراح مشاريع القوانين السابقة (ما عدا مشروع "لجنة بارود") أن الطبقة السياسية تتردّد في تقبّل مبدأ الانتخاب، نظراً إلى تفضيلها تعيين موظف لا حصري على رأس مجلس لامركزي منتخب" (مبادرة ص 19). ويشير بارود إلى "اتفاق اللجنة النيابية على إعادة منصب القائمقام الذي ألغاه مشروعه، في وقت يصرّ الوزير قباني والنائب غسان مخيبر يصرّان على أن منصب القائمقام يحفظ دور الدولة المركزية في الأقضية". ("الأخبار" 2 تشرين الثاني 2017)

هذا الأمر يحيلنا الى "الخلط المتكرر المقصود وغير المقصود بين مفهومي اللاحصرية (déconcentration) واللامركزية (décentralisation). فمثلاً يتكرّر القول ان اللامركزية تساعد على تسهيل المعاملات الادارية وتوفر على المواطن عبء التنقل من مكان سكنه إلى مكان نفوسه، وهذه صفات اللاحصرية". (مبادرة ص 20). (وهذه مسألة يمكن ان تتولاها الحكومة الالكترونية، فعلى السبيل المثال لا الحصل، اصبح بإمكان أي مواطن أو أي مقيم في الإمارات العربية المتحدة أن ينجز حوالي 190 معاملة، إدارية عبر هاتفه الذكي!!").

"كما أننا ننشىء محافظة هنا، فنهلل: يا هلا باللامركزية. ونحدث مركزا إقليميا للسجل العدلي هناك، ونهلل أيضا. هذه ليست لا مركزية. هذه لا حصرية". (بارود ندوة في جامعة الحكمة 2018). فاللاحصرية، تعريفاً، "نوع من المركزية المخففة، حيث تنتقل السلطة من مستوى إداري أعلى إلى آخر أدنى، وهي بمثابة توسيع صلاحيات ممثّلي السلطة المركزية في الأقضية والمحافظات" (مبادرة ص 20).

وقد فاقمت الفقرة المخصّصة للاّمركزية الإدارية في اتفاق "الطائف"، بحسب بارود، "الالتباس القائم بين اللاحصرية واللامركزية عندما قالت بتوسيع دائرتهما معاً". يضيف: "إذا كان التزاوج بين المنهجين ممكناً في مبدئه، إلاّ أن توسيع دائرتهما معاً يفترض رؤية واضحة لصلاحيات كلّ منهما، فلا ينتهي التوسيع إلى تضاربٍ في الصلاحيات أو تجاذبٍ على النفوذ". (بارود 2007)

علما ان اللامركزية تفترض، مفهومياً وتطبيقيا، توزيع الصلاحيات الإدارية بين السلطة المركزية، من جهة، والسلطات المحلية من جهة ثانية. وهذا تحد أساسي امام اصلاح اللامركزية الادارية، إذ أنّ التنافس على الصلاحيات يحصل، مثلاً، بين مستويات الوحدات الإدارية اللامركزية في فرنسا على الرغم من تطبيقها اللامركزية منذ العام 1982، كما يشير عالم الجغرافيا الفرنسي ايف لاكوست.

ويشير قباني إلى أنّ "هناك مبدأين أو قاعدتين تحكم البعد التنظيمي الإداري للامركزية، أولاهما الاستقلال الذاتي للوحدة اللامركزية بإدارة شؤونها الذاتية بنفسها، مع ما يستتبع ذلك من تمتع هذه الهيئات بالشخصية المعنوية والاستقلالين المالي والإداري، وثانيهما احتفاظ السلطة المركزية بحق الرقابة على أعمال الهيئات اللامركزية".
ويصطدم هذا التنظيم الإداري، وفقه، بمشكلات كثيرة ومعقدة يقتضي حلها، وذلك من خلال اعتماد تقسيمات إدارية مناسبة لأغراض الإدارة المحلية، ومنها: مشكلة تحديد عدد الوحدات الإدارية التي تضمها الدولة وحجمها ( محافظات، أقضية، بلديات)، مشكلة تحديد مستويات الوحدات الإدارية اللامركزية، وهل تتكون من مستوى واحد، مثل البلدية في لبنان أو من عدة مستويات (مجالس محافظات، مجالس أقضية- مجالس بلدية)، كما هو الشأن في فرنسا وبريطانيا، مشكلة تحديد أنسب وضع للعلاقات بين الوحدات، وهل يكون ذلك عموديا وعلى شكل تسلسل هرمي، أم أفقيا، بمعنى المساواة بين الوحدات. (ورشة عمل في مجلس النواب عن اللامركزية الادارية 2016) 

معضلة التقسيم الإداري

ليس خافياً أنّ التقسيم الإداري يشكل محورا اساسيا تبنى عليه جميع الجوانب الأخرى المتعلقة باللامركزية، الا ان التحدي يبقى في الأساس معرفة مدى حاجة لبنان إلى تقسيم إداري جديد والهدف المتوخى منه، إضافة إلى المعايير التي على أساسها قد ترسم دوائر إدارية جديدة، خصوصا في ظل غياب المعطيات الرقمية والإحصاءات الكافية على الصعيد الوطني وغياب الدراسات التجريبية حول مختلف جوانب اللامركزية، لاسيما الدراسات على صعيد البنى الصغرى(level micro ) التي من شأنها أن تساهم في تطوير فهم أدق للخصائص الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية للمناطق اللبنانية في سياق إعادة التفكير في الدوائر الإدارية (مبادرة ص 30)> كما تشكّل المعضلة الطائفية والاشكالية الكامنة في مفهومي "الإنصهار الوطني" و"العيش المشترك" إحدى العوائق الأساسية أمام اعادة النظر في التقسيمات الادارية، إذ يلفت بعض الجامعيين إلى أن الكثير من المواقف تجاه الالمركزية في لبنان "تدور حول باطنية طائفية" (مارون كسرواني، في بول سالم وانطوان مسرة ١٩٩٦، ص. ٢٦٦ )، بينما "دعا اتفاق الطائف إلى إعادة تركيب المناطق على قاعدة الاختلاط الطائفي"، في وقت يرى البعض أنّ "الطرح التوحيدي الإنصهاري يقفز فوق كل المعطيات السوسيولوجية المتصلة بالنسيج الإجتماعي اللبناني"، (فاديا كيوان ٢٠٠٠ ،ص. ١٦٥).

والجدير ذكره أن "لجنة بارود التي اعتمدت القضاء كوحدة لامركزية، اعتمدت تقسيمات لأقضية جديدة في المحافظات الجديدة، لا سيّما عكار والبقاع الشمالي، تتكوّن غالبيتها من لون طائفي أو مذهبي معيّن، كما يقول أكثر من نائب من أعضاء اللجنة. وعلى هذا الأساس، هربت اللجنة من إعادة البحث في التقسيمات الإدارية، واعتمدت التقسيمات الحاليّة كوحدات لامركزية تنشأ فيها مجالس الأقضية". ("الأخبار" 2 تشرين الثاني 2017)

ضرورة وجود سلطة مركزية قوية

إن من شروط نجاح اصلاح اللامركزية الادارية في لبنان، إصلاح الإدارة العامة المركزية بشكل عام، ووضع روادع تحول دون تقصيرها في عملها على الصعيد المحل اللامركزي؛ أي بكلام آخر فإن نجاح هذا الاصلاح يتطلب وجود سلطة مركزية قوية تقوم بوظائفها الاساسية ( مبادرة ص 26).

وإذا كان نقل الصلاحيات من السلطة المركزية إلى الهيئات اللامركزية ينبغي أن يصاحبه نقل للموارد والضرائب والتمويل وبعض الخدمات، فإنّ اللامركزية تتناقض، بحسب د. طوني عطالله، مع أي توجه يعبر عنه غالباً بالقول: "نحن ندفع الضرائب وغيرنا هو المستفيد!"، إذ أنّ "كل نظام لامركزي هو متلازم مع موجب التضامن الوطني الشامل والإنماء المتوازن ومع خطط تنمية".
هذا يفترض أن تلعب السلطة المركزية، بحسب عطالله، دورها في إعادة التوازن وتأمين العدالة والمساواة للحؤول دون تركم الفروقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين المناطق والطوائف. لذا فإن مزيدا من اللامركزية تستدعي حضورا أكبر للدولة. إذا منحت الدولة حرية أكبر، يتعين عليها ان تؤمن مساواة أكبر منعا لتضاعف الخلل بين المناطق واللامساواة. ان التوازن يرتبط بقدرة الدولة على ممارسة دور الحكم، والفصل وإعادة التوزيع. (ورشة عمل في مجلس النواب عن اللامركزية الادارية 2016) 

تجربة البلديات.. عوائق جدّية

تقوم اللامركزية الادارية الاقليمية في لبنان حاليا على البلديات بموجب قانون البلديات رقم 118 بتاريخ 30 حزيران 1977، كما ان اتحاد البلديات تشكل مستوى واحدا مع البلديات باعتبار انها لا تتمتع بالاستقلال الاداري. (وكانت أول انتخابات بلدية قد جرت في العام 1963 في عهد الرئيس فؤاد شهاب، الا انه في العام 1967 أقر المجلس النيابي قانونا قضي بتمديد ولاية المجالس البلدية وقد استمر الامر على هذا المنوال الى  العام 1998).

يشير د. أنطوان مسرة أن "خبرة المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، خصوصا في برنامج (الحكمية المحلية: مبادرة ومشاركة ومواطنية في المجال المحلّي) تبيّن أن كل اشكاليات السلطة المركزية هي ذاتها على المستوى المحلي الذي هو غارق في الزبائنية واستقطاب "بيوتات" الزعامات، والعائلية والحزبية على حساب المصالح الحياتية اليومية والمشتركة". (محاضرة في مقرّ حركة لبنان الرسالة 2018).

من جهته يرى عطالله أنّ "عدم تعميم ثقافة العمل البلدي تشكل أكبر عائق أمام التنمية المحلية وخطورة قصوى، اذ يخشى التحول من مركزية المركز الى لامركزية محلية اقطاعية أكثر طغيانا من مركزية المركز".

ويشير إلى أن برنامج "الحكمية المحلية" شخّص عوائق العمل البلدي على النحو الآتي: ذهنية الاصطفاف والاستتباع، العلاقات القائمة على نفوذ وليس على قواعد حقوقية، الفردانية والأنانية على حساب الشأن العام والشؤون الحياتية اليومية المشتركة، التراجع في مناهج التربية المدنية، مفهوما الوصاية والرقابة المسبقة التي تشمل للعمل البلدي ستة مستويات هي: رقابة المجلس البلدي، المراقب المالي، المحافظ، وزير الداخلية، ديوان المحاسبة، مجلس شورى الدولة..". (ورشة عمل في مجلس النواب عن اللامركزية الادارية 2016) 

مشكلة النفايات  نموذجاً

بتاريخ 10/10/2018 اقر القانون الرقم 80 بعنوان: "الادارة المتكاملة للنفايات الصلبة"، وينصّ في المادة التاسعة منه على الآتي "يجب اعتماد اللامركزية الإدارية في تطبيق الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة". إلا "ان وزارة البيئة لم تضع بعد استراتيجية وطنية للنفايات تتضمّن الأدوار المركزية واللامركزية والخيارات التقنية المسموح بها أو الممنوع اعتمادها. علما ان مجلس النواب لحظ بضرورة وجودها خلال 6 اشهر من إقرار قانون النفايات".

"في هذه الاثناء اقترح وزير الطاقة والمياه سيزار أبي خليل قانونا معجّلا مكرّرا للاجازة للقطاع الخاص بإنشاء معامل لمعالجة النفايات الصلبة وتحويلها الى طاقة كهربائية وبيعها من مؤسسة كهرباء لبنان، كما اقترح قانون معجّل مكرّر من النائب نعمة افرام للمطالبة بإعفاء البلديات من الديون المتعلقة بادارة النفايات الصلبة التي ترتبت عليها قبل صدور قانون النفايات في ايلول الماضي". علما ان شركة اندفكو التي يملكها افرام كانت انشأت معملاً لمعالجة النفايات في وادي غسطا بالتعاون مع بلدية غسطا، وقد بدأ العمل به على أساس أن نصف بلديات كسروان الفتوح سيتعامل معه إلا ان وزارتي الداخلية والمال رفضتا وقف اقتطاع أعمال البلديات المتعاملة مع المعمل، بحجة أن سوكلين لديها ديون على هذه البلديات، وبالتالي تخشى البلديات ان تدفع مرتين، مرة للدولة ومرة للمعمل. وفي النهاية توقف المعمل عن العمل. (تقرير للمؤسسة اللبنانية للإرسال 2018)

ويرى الكاتب المتخصص في شؤون البيئة حبيب معلوف، بناء على الاقتراحين المذكورين، أنّ "هناك اتجاهاً لتسريع اتجاهات لامركزية خطيرة، تبدو وكأنها بمثابة اعلان تفليس مشروع الدولة، أو استباق لاعلان انهيارها، وترك كل منطقة أو «دويلة» تقلّع شوكها ايدي ليست ايديها، كأن تحرق نفاياتها بمعامل ومحطات ليست من صنع يديها بالطبع". ويشير الى أن "اللامركزية التي تعني التشاركية والمزيد من الديمقراطية وتسهيل المعاملات الادارية ليست هي نفسها ديمقراطية المشاريع التي تعني انشاء الدويلات على حساب الدولة. فننتقل من إفلاس الدولة المركزية المنهوبة الى فوضى الدويلات اللامركزية المنتحرة".

ويسأل: "من لا يعرف أن الجدوى البيئية والاقتصادية للمشاريع الانمائية أكبر في المشاريع الكبيرة منها في المشاريع الصغيرة؟". ليضيف: "لامركزية معالجة النفايات، لا تعني لامركزية انشاء المحارق، بل تعني خططاً تضمن حسن لامركزية الفرز، مرتبطة بخطط التخفيف المركزية. مما يعني ضرورة وجود استراتيجية تتضمن خططاً متكاملة تحدد الادوار المركزية واللامركزية والمسؤوليات. كما أنه لا معنى للحديث عن لامركزية من دون ربطها ببرامج للإنماء المتكامل (وليس المتوازن على الطريقة الطائفية". (الأخبار 7 تشرين الثاني 2018)

التحديات السياسية والسياسية الاجتماعية

في الأدبيات العامة للامركزية الإدارية، تقوم اللامركزية، وفق قباني، على "مشاركة المواطن في إدارة الشأن العام، وبالتالي، فهي ترتكز إلى قاعدة ديموقراطية مؤداها مشاركة الأهالي في القرار وفي إدارة شؤونهم الذاتية بأنفسهم من خلال الانتخابات، وقيام الدولة بتعزيز المناخ الديموقراطي في البلاد وتوفير مناخ الحرية الذي يكفل التعبير عن إرادة المواطن وإطلاق قدراته وإمكاناته وملكاته الفكرية والانتاجية".

الا انه في المجتمعات والدول "التعددية" او "المنقسمة" الشبيهة بلبنان فيبدو ان اللامركزية تعطى وظائف ومعانٍ اخرى وسط انقسام مضمر او علني بشأنها. إذ "يعتبر بعض المعنيين باللامركزية أن هذه الأخيرة ترتبط ارتباطا وثيقا بإدارة المجتمعات التعددية وتأمين المساواة بين المجموعات المختلفة، وبمساهمتها في حماية الأقليات، لأنها تسمح بنوع من الاستقلالية في المناطق التي تمثّل هذه الأقليات أكثرية فيها، وهذا من شأنه أن يشكل نقطة انطلاق نحو الوحدة الوطنية الحقيقية" (روجيه ديب 1993).

من جهته يرى بول سالم أنه "في المجتمعات المنقسمة طائفياً أو إثنياً كما هي الحال في لبنان وسوريا والعراق، فتوصي العلوم السياسية بالنظام التوافقي  بدلا من نظام حكم الأغلبية.  وترتكز أسس الأنظمة التوافقية على التشارك في السلطة بين المكونات الاساسية للبلاد واللامركزية الموسعة". كما يرى عطالله ان اللامركزية ملازمة للمجتمعات الشبيهة بلبنان لأسباب عدة منها: ضمان مشاركة واسعة، ومعالجة التجاذبات الطائفية. ("النهار"  27 كانون الأول 2014)

وفي مقابل هذه الآراء تبرز خشية عند البعض من أن "تشكل اللامركزية خطرا على الهوية الوطنية بتعزيز الهويات الفئوية عندما تفرض بعض الأطراف السياسية والطائفية ثقافتها على مناطق نفوذها". (مبادرة ص 22)

وبالعودة الى اتفاق الطائف، فقد ركن هذا الاخير، بحسب بيضون، إلى الحد الأدنى من التغيير وهو اللامركزية الإدارية، وهذا - في ما يتعدى المعنى الحرفي للعبارة -  اختيار سياسي. إذ ان اللامركزية الادارية ليست خالية، وفقه، من مضمرات سياسية بعينها في نظر البعض من دعاتها اللبنانيين. واذا كان بيضون يرى انه ليس صحيحا بالضرورة ان التشدّد في المركزية يعزّز الوحدة السياسية الاجتماعية للدولة. كما لا يصح عكس ذلك في الضرورة. الا انه يرجّح ان البحث في هذه الاسئلة يفضي الى اثبات الصلة ما بين الاصلاحي والاداري والسياسي. وذاك ان ابقاء نظام انتخابي يعزّز وحدة السيطرة للزعامة الطائفية في كل منطقة انما هو ممهد واقعي لوضع هذه الزعامة يدها على الادارة الجهوية واخضاعها لمقاييس مصالحها قبل مقاييس القانون، (بيضون 2012 ص 83) وأضيف، ومقاييس العيش المشترك ايضاً. وهذا يحيلنا الى اصلاحات أساسية أخرى وردت في الطائف متصلة باصلاح اللامركزية الادارية، لاسيما إصلاح قانون الانتخاب وإلغاء الطائفية السياسية. وإذا كان "اتفاق الطائف تمحور حول مسألة أساسية جوهرية، قامت عليها فلسفته وهي العيش المشترك"، بحسب قباني، فهو يلزم بالضرورة النظر الى اصلاحاته هذه من منظور العيش المشترك كمشروع دستوري متكامل لا يمكن الأخذ ببعض بنوده وإسقاط بعضها الآخر. مع العلم ان العديد من الآراء يطرح استنساخ تجربة "الطائف" في بلدان الحروب الاهلية والنزاع على السلطة، على قاعدة أنه "لا بديل من العيش المشترك والتشارك في السلطة"، بحسب سالم.

كذلك، فإن الظروف السياسية الحالية في لبنان والمنطقة تجعل البعض يقارب مسألة اللامركزية بحذر. ويشير قباني في هذا السياق إلى أن "ما جرى ويجري على الساحة الاقليمية، وليس بعيدا عما يجري على الساحة الدولية، من احداث وتطورات أثرت على كيانات الدول ووحدتها السياسية في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، يثير الهواجس والمخاوف، حول تطبيق اللامركزية الادارية الموسعة في لبنان". (مؤتمر في جامعة الحكمة 2018)

أمّا مسرّة فيرى أنّ "إقرار اللامركزية، إلا في بعض الجوانب الإنمائية، في وضع حيث لا يحتكر المركز القوّة المنظمة وإدارة السياسة الخارجية، قد يؤدّي إلى مخاطر هيمنات محلية في ظلّ الأوضاع الإقليمية الراهنة وتالياً إلى زعزعة ركائز لبنان الكبير سنة 1920". (محاضرة في مقرّ حركة لبنان الرسالة 2018).

بمثابة خاتمة

من نافل القول إن "للامركزية الادارية مزايا قيّمة ومن ذلك ما يتصّل بالديموقراطية وهو تعزيز مشاركة المواطنين في التصرف بشؤونهم المحلية"، (بيضون 2012 ص 84) الا ان هذا الاصلاح يجبه في لبنان تحديات عظيمة ليس اقلّها أهمية اصلاح الادارة العامة المركزية اصلاحاً حقيقياً، وقيام سلطة مركزية قوية تقوم بوظائفها الاساسية كاحتكار القوة المنظمة وحفظ سيادة القانون والمساواة بين المواطنين على كامل أراضيها.. فضلا عن ان "هذا الإصلاح لا بدّ أن يترافق مع اعتماد خطة إنمائية موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصاديا واجتماعيا بما يحقق الإنماء المتوازن، وبالتالي العدالة"، وفق قباني.

وتحقيق هذه المسائل ليس هيّنا في ظل الاختلالات الأساسية في الدولة والمجتمع التي يعيشها لبنان فضلاً عن محيطه القريب والبعيد. فحتى لو اقرّ قانون اللامركزية في الهيئة العامة لمجلس النواب هذا العام كما يؤكد النائب جورج عدوان، فإنه من المستبعد جدا ان يحقق ذلك، الاصلاح المأمول. إذ ان اقرار التشريعات الاصلاحية على اهميتها غير كاف ان هو لم يقترن، بحسب مسرة، مع البحث في تطبيقها وحظوظ هذا التطبيق وكلفته وعوائقه وشروطه، وهذه كلها امور بالغة التعقيد في ما يخص اصلاح اللامركزية الادارية في لبنان!

ايلي القصيفي

صحافي- لبنان