هل تعوزنا الدلائل إلى أنّ لبنان واقعٌ حقاً تحت الإحتلال الإيراني. فالإيرانيون أنفسهم قالوا في العام 2015 أنّهم يسيطرون على أربع عواضم عربية هي بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت. ثمّ قال السيّد حسن نصرالله في خطاب شهير في العام 2016 أنّ "موازنة حزب الله ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه" من الجمهورية الإسلامية في إيران.
أن يكون عناصر حزب الله وكوادره لبنانيين، فهذا أمرٌ لا ينفي الإحتلال الإيراني للبنان بل يؤكّد أنّ لبنان واقع تحت إحتلال من نوع خاص. أي احتلال خارجي بأدوات داخلية، وذلك في تجسيد لنظرية "تصدير الثورة" التي تقوم عملياً على فصل شريحة من المجتمع عن مجالها الوطني وضمّها للمنظومة العقدية والقيمية والسياسيّة/الأمنية للجمهورية الإسلامية في إيران. وهو ما يخلق مسارات معقّدة بين المركز "الثوري" و"مقلّديه" البعيدين، بحيث يعزل هؤلاء "المقلدون" أنفسهم في أوطانهم بما يقتضيه النموذج "الثوري"، ولكنّهم في الوقت نفسه يسعون للسيطرة على هذه الأوطان. وهذا نوع من الإحتلال لا يقلّ خطراً عن الإحتلال التقليدي، بل أقول أنّه أكثر خطورة.
إنّ مواجهة احتلال مركّب كهذا هي حتماً صعبة ولكنّها ضرورية؛ وتكمن ضرورتها في أنّ بناء الدولة مع حزب الله مستحيلاً، وتكمن صعوبتها في أنّ بناءها من دونه غير ممكن. وهذه معادلة كارثية يدفع لبنان أثماناً باهظة من جرائها أقلّه منذ العام 2005.
وخطورة هذه المعادلة أنّها تؤكد أنّ لا وجود للدولة في ظلّ حزب الله المتسّع الوجود، فإمّا الدولة وإمّا حزب الله، وهذا هو جوهر الأزمة اللبنانية.
بصيغة أخرى فإنّ حزب الله الذي يرفض أن يبدّل ما في نفسه يبدّل ما في الدولة. أي أنّ استعصائه الداخلي يتحوّل استعصاءً عاماً على مستوى الكيان اللبناني.
ولعلّ مكمن الخطر الحقيقي للاحتلال الإيراني للبناني بواسطة حزب الله أنّه أوجد أرضية سياسية صالحة له ومؤاتية لاستمراره على حساب فكرتي الجمهورية والدولة. بمعنى أنّ حزب الله خلق شبكة تواطؤات داخلية بحيث أنّ القوى السياسيّة الطامحة للوصول إلى السلطة بأي ثمن لم تتعامل مع الواقع الإحتلالي بوصفه أزمة وطنية، تلخصها المعادلة آنفة الذكر، بل بوصفه فرصة للوصول إلى السلطة.
إنّ خطورة هذا التطبيع مع الإحتلال تارة بحجة الطبيعة التشاركية للنظام الطائفي وتارة أخرى بحجّة الواقعية السياسية، تساوي خطورة الإحتلال نفسه، لأنّ هذا التطبيع يغطّي الإحتلال و"يشرّعه"، والأخطر أنّه يخلق حقيقة موازية عن إمكان بناء الدولة بوجود حزب الله ومعه.
هذا الأمر لا يولّد اختلالاً سياسياً وحسب بل إنّ الإختلال الأخطر هو على مستوى الوعي ومنظومة القيم والمفاهيم، لأنّه يفترض أنّ الدولة يمكن أن تتعايش مع نقيضها؛ فإذا كانت الدولة رمز المساواة بين اللبنانيين فإنّ الحزب هو رمز اللامساواة بينهم، وإذا كانت الدولة رمز القانون والدستور فإنّ الحزب هو أوضح مثال لبناني للقفز فوق القانون والدستور ولتطويعهما لمصلحته.
وكلّ ذلك يحصل بتواطؤ أحزاب وقوى تنادي ببناء الدولة لكنّها في الواقع شريكة في إسقاطها. وهو ما يخلق تشوهّا هائلاً في الحياة السياسية يتبين يوماً بعد يوم أنّ إصلاحه صعبٌ جداً إلى حدود الإستحالة، خصوصاً أنّ التطبيع مع الإحتلال ليس حكراً على الموالاة وحسب وإنمّا يشمل المعارضة أيضاً لأنّ اختيارها العنوان والأدوات والخطاب الخطأ لخوض معركتها هو أيضاً تواطؤ مع الإحتلال.