ندوة عن اتفاق الطائف نظمها مركز Politica بإدارة السيدة لينا تنير والمحاضر الاستاذ محمد حسين شمس الدين
نصوص في النمط الحضاري اللبناني وأسلوب العيش قبل الحرب
بعد نحو شهرين من تدمير وسط بيروت في بدايات الحرب الأهلية عام 1975، كتب المدير العام الأسبق لمنظمة اليونسكو René Maheu مقالاً عن النمط الحضاري اللبناني الذي كان سائداً في المجتمع اللبناني قبل الحرب (جريدة لوموند، 20 تشرين الثاني 1975)، مما جاء فيه:
"قدَّم لبنان الحديث مثلاً على نمط حضاري نابع مباشرةً من بنيته المركبة. فالتسامح الديني والايديولوجي الذي كان سائداً فيه حتى عهد قريب، والاحترام المتبادل، والقبول بتنوّع المفاهيم والعادات – وهو تنوع مطلوب بوصفه مصد عنىً وإثراء – والحثّ الدائم على تبادل الأفكار، والميل إلى التفاهم، وتلك الحكمة الفطرية التي كانت تجعل من المواجهات الحادّة لحظةً يواكبها البحث عن تسويات عمليّة تؤدّي – إن لم يكن إلى تفاهم حقيقي، فعلى الأقلّ – إلى طريقةٍ مُرضية للعيش، وحريةُ التعبير التي تجعل أيَّ حوار ممكناً، وأخيراً الانفتاح على العالم والدعوة للعالمية... كل هذه السِّمات المرتبطة بجوهر الحضارة الانسانية هي معالم نادرة، كنّا متأكدين من وجودها بوفرة في هذا البلد، ولا يجوز أن نقبل، وببساطة، رؤية النّبع بنضب!".
وكتبت اليزابت بيكار شهادةً مكمّلة جاء فيها:
"ولقد كان هذا النمط الحضاري قد بدأ يولّد، سلوكيات مدنيّة تمثّلت في ظهور أحزاب سياسية غير طائفية، وفي تعدّد الزيجات المختلطة، واتّساع مساحات السكن المختلط، فضلاً عن الازدهار الاقتصادي التجاري والمصرفي الذي لا يعرف الحدود الطائفية...".
عام 1971 وأمام بوادر انتفاضات عارمة ضدّ مفاسد السلطة وتخلُّفِها عن مواكبة العصر وعن توفير العدالة الاجتماعية، لا سيما في أوساط الشباب والطلاب الجامعيين (الجامعة اللبنانية والجامعتان اليسوعية والاميركية وصولاً إلى طلاب الثانويات الرسمية والخاصة، متأثرين إلى حدّ كبير بثورة الشباب في فرنسا 1968، كما بالثورة الفلسطينية واصداء حركات التحرّر الوطني في العالم)، وكذلك في الأوساط العمّالية والفلّاحية (أشهرها حركة عمال معمل غندور وانتفاضة مزارعي التبغ ما بين 1971 و1973...) – أمام تلك البوادر المكثّفة والمتسارعة، كتب جورج نقاش في صحيفة الأوريان مخاطباً الشباب اللبناني الغاضب:
"هذا اللبنان الذي ترفضونه، هذا الكيان كما هو – بنواقصه وتشوّهاته والغفلة الفظيعة لدى طبقته السياسية الحاكمة – لا يمكنه بطبيعة الحال الادّعاء بأنه خلق مجتمعاً عادلاً وسعيداً. غير أنه ربما يكون الوحيد بين بلدان الشرق الأوسط، الذي يمكنه ان يتباهى بكونه المجتمع الأقلّ وحشيةً وفظاظة في هذا العالم!".
ومع بداية الحرب التي أطاحت بالعيش اللبناني المشترك، ولدى رؤيته ما أصاب وسط بيروت من دمار وحريق على يد الميليشيات من هنا وهناك وهنالك، استحضر سمير فرنجية كلمات جورج نقاش هذه لعام 1971، وكتب لاحقاً عندما أرّخ لبداية الحرب في كتابه "رحلة إلى أقاصي العنف" Voyage au bout de la violence:
"نعم، كان جورج نقاش على حقّ. أمّا نحن، في تلك الحقبة، فما كان بوسعنا أن نتقبّله... وسيلزمنا وقتٌ طويل كي نفهمه ونتفهّمه".
وأمام صدمة الحرب انتبه سمير فرنجية وكتب:
"لئن أرَّخ 13 نيسان 1975 لبداية الحرب اللبنانية، فإنّ ليلة 17-18 ايلول من السنة ذاتها تؤرّخ لقرار بإسقاط العيش المشترك بين اللبنانيين.
في تلك الليلة أطبقت الميليشيات المسلحة على وسط بيروت بعنفٍ شديد لا يخلو من ساديّة، فدكّت عدداً كبيراً من المنشآت التجارية، وأشعلت حرائق اجتاحت الأسواق، فانهار فندقٌ كائنٌ في ساحة الشهداء وأودى بحياة سبعة وثلاثين شخصاً... بعد تلك الليلة المشؤومة أصبحت العاصمة اللبنانية شطرين اثنين!
بتدميرها وسط العاصمة، ألغت الميليشيات ما كان يشكّل ملتقى اللبنانيين بامتياز. فهنا كان اختلاطهم اليومي، سعياً وراء رزقهم ومصالهم المتشابكة، يخفّف من غلواء عصبيتهم الطائفية، غذ يتيح لكل منهم فرصة لقاء الآخر المختلف، والتعرُّف إليه عن كثب، الأمر الذي غالباً ما كان يولّد احتراماً متبادلاً. لقد جسّد وسط العاصمة، أكثر من أي منطقة أخرى في لبنان، حلاوة العيش اللبناني. فلم يكن ثمّة مكان آخر تتجاور فيه عوالم شديدة التنوع بمثل تلك الوداعة!
بعد الفراغ من شواغل الحياة اليومية، كانت المقاهي المزروعة على فقش الموج تُتيح لمن يرغب لحظاتِ هدوء على أنفاس الأراكيل. وفيما يلي تلك المقاهي البحرية، تراصفت مطاعم ذات تقاليد عريقة، فاتحة ذراعيها، دونما تمييز، لجميع من يأمّون المكان... وهؤلاء، على تنوّعهم، يتذوّقون أطايب المطبخ الشرقي بشهية بالغة، لا فرق بين أجنبي منهم وبلديّ. وفي غير زاويةٍ من تلك الأسواق والأمكنة ارتفعت كنيسة من هنا أو مسجدٌ من هناك، حيث يستطيع أيُّ إنسان أن ينال قسطاً من التأمُّل والسلام الداخلي في ظلّ سروةٍ أو مئذنة.
في الوسط التجاري القديم لمدينة بيروت، والمؤلّف من أسواقٍ متشابكة، عاش مسيحيون ومسلمون، جنباً إلى جنب، على مدى قرون. لقد عاشوا بانسجامٍ لم تُطِح به الاضطرابات الطائفية التي كانت تزعزع البلاد بصورة دورية. ذلك أنّ الأحزاب الطائفية المتشدّدة لم تتمكّن من اختراق تلك الأزقّة العتيقة، حيث أناسٌ من كل صنفٍ ولون يندفعون بحميّة وشجاعة بحثاً عن كل شيء.. ولا شيء!.. إنها حلاوةُ العيش معاً!.. إنها شجاعةُ العيش معا!..
هنا، أكان في "سوق الصاغة" أو "سوق الطويلة" (سوق الاقمشة)، أو "سوق الخضار"، أو "شارع المصارف"... لا مكانَ للخصومات التقليدية. كلُّ شيء هنا برسم المساومة والمبادلة، وإن احتمل المماحكات الكلامية المطوّلة.. "ساحة الشهداء"، محطّةُ طرقات حقيقية تصل ما بين أحياء بيروت والمناطق المختلفة، كانت توفّر لُحمةً دائمة بين اللبنانيين. وفي "ساحة النجمة" كان البرلمان يستقبل ممثلي جميع الطوائف والمناطق.
حلاوةُ العيش هذه، وسيولتُه، إلى قابليةٍ فذّة لاستدخال الجديد من دون أن تفقد الذات خصوصيتها، إلى قدرةٍ لا متناهية على احتضان الفروق، إلى رهافة إحساسٍ وصبرٍ جميل... كل ذلك لم تكن ميليشيات الحرب قادرة على احتماله!.. لقد ضاقت به ذرعاً، وها هي – بعد أن رسمت حداً فاصلاً بين البيروتين – تندفع لـ"تطهير" مناطقها من كل "جسمٍ غريب"!... هكذا بدأ ليل لبنان الطويل، ومعه بدأت أولى "حروب الهويات" التي وسمت نهايات القرن العشرين".
مفردات مختارة من هذه النصوص المتعلّقة بالنمط الحضاري اللبناني واسلوب العيش في وسط بيروت قبل الحرب.
* لم تكن الميليشيات الحرب قادرة على احتمال كل ذلك!
* وبعد أن قسمت بيروت ودمّرت وسطها التجاري (ملتقى اللبنانيين بامتياز)، انكفأت نحو (لتطهيرها) من كل جسم (غريب)!
* هكذا بدأت (أولى حروب الهويّات) التي وسمت نهايات القرن العشرين، وكانت اطول الحروب الأهلية في هذا القرن!
□ وليكُن في عِلمنا أن (المصالحة الوطنية) لم تكتمل حتى اآن، رغم مرور أكثر من ثلاثين سنة على نهاية الحرب الأهلية!
المشاركون: ماجد كرم، خليل طوبيا، انطوان قسيس، عطالله وهبة، طوني حبيب، لينا تنير، منى فياض، فارس سعيد، سيرج بو غاريوس، حُسن عبود، اسعد بشارة، ادمون رباط، ايلي كيرللس، ايمن جزيني، سوزي زيادة،