دفن القومية العربية لانعاش العروبة
الأخوات والإخوة الأحباء
الشكر لأصحاب المبادرة والدعوة
الأجيال الشابة تدعونا لكي نخرج من كهوف الأركيولوجيا السياسية، وندخل ساحات التاريخ وراء الصبايا والشباب الذين يعيدون كتابته اليوم على طريقتهم.
اسمحوا لي أن أقول لكم، انطلاقًا من مواكبتي لانتفاضتي العراق ولبنان الراهنتين، بأن مهمتنا تبدّلت. كما أن شيئًا من اعتقادنا بأننا نرسم المستقبل ونناقش مساراته ليسير عليها الآخرون أو لنسير معهم عليها، لم يعد دقيقًا، فهناك من يعيد رسم التاريخ ومساراته المستقبلية على طريقته، طريقة الصبايا والشباب الذين لديهم احلامهم وأهدافهم وخططتهم ومصطلحاتهم. فتفكّرنا يجب أن يشمل شيئًا من "التوبة" conversion ومن التجدّد لكي نستطيع مواكبة الأجيال الجديدة في سياقات لم تعد كما ألفناها.
كتب الأب ميشال حايك في 1969: رسالة إلى بني جيلنا، (منشورات المطبعة الكاثوليكية، بيروت) كلامًا يؤلمني أن أتلوه عليكم اليوم لآنيّته، وكـأننا مجدّدًا مع غسان تويني نقول: Un siècle pour rien
يقول: "هؤلاء الذين طمعوا بمقعد أو بوزارة أو رئاسة لعبوا لعبة الطائفية أو العشائرية أو الاستعمارية، فنقروا على الأوتار الحساسة، فدقّت الطبول الفارغة وصفقت الأيادي العاطلة وصرخنا: يا للعدو! يا للاستعمار! وتهوّس الشعب المسكين المخدوع فكسّر معالم المدنيّة في المدينة. ثم عاد الى بيته جوعان، وهو يلعن نفسه لاستسلامها لغريزة الحيوان، ويلعن محرّضيه المغرضين، على أن يعود للتزلّم والتزلّف لهم في اليوم التالي. فكل من خدع الشعب بمثل هذه الألعاب له حسابه من الشعب نفسه يوم يستفيق المخدوع من سباته فيدك الأصنام التي عبدها. وقد يكون جاء اليوم، أو هو قريب، فيه يحاسب الشعب حكامه الذين تعاقبوا على مقدرات هذه الديار الغنيّة بكنوزها الانسانية، فسرقوا الكنوز وافسدوا الديار."
وإلى أن يأتي هذا اليوم سوف يظل "الإنسان عندنا هارب من ذاته خشية أن ينظر إلى عريها وذلّها."
وهل أتى؟
على الأقل اخترت شخصيًا أن أرى في انتفاضتي لبنان والعراق (دون أن تكون الأولى ولا الأخيرة) بدايات فجر لهذا اليوم المنتظر.
وهذا اليوم الآتي يحمل معه بصوت صبايا بيروت وشباب العراق أسئلة جديدة ومقاربات تتخطى ثنائيات: العروبة والمشرقية، والأكثرية والأقلية، والإسلام والمسيحية، والعلمانية والتيوقراطية، والطائفية والقومية، إلخ، لتطرح المواطنة كإطار لمشاركة الشعب في صنع مستقبله المشترك مع احترام كل تنوعاته. فالمسألة اليوم لم تعد الهوية بل الكرامة، وليس الجماعة الدينية بل المجتمع والإنسان.
فهل لا يزال في هذا السياق طرحنا هنا مناسبًا للظرف الراهن؟
أعتقد نعم، وإن لم يكن للشباب بل لنا، لنتأقلم مع المسار الجديد ومتطلباته.
وبما أن هذا المؤتمر يطرح مسألة المسار المسيحي في العالم العربي: إشكاليات اليوم واحتمالات الغد، سوف أستعين بصوت آخر من الماضي لم يكن له صدى كافيًا لكلامه في العقود الماضية، وربما إن أصغينا إليه اليوم ندرك سبب عجزنا عن مواكبة إشكاليات اليوم واستشراف احتمالات الغد.
لقد قال الأب يواكيم مبارك في 1972 بالحاجة إلى نحت مصطلح يقابل "القومية العربية" arabisme فكان مصطلح العروبة arabité
اعتبر مبارك العروبة مصطلحًا وجوديًا.
وانطلاقًا من شخصية النبي محمد، الإنسان الأول العربي وفق مبارك... تنحو العروبة باتجاه إلغاء القومية العربية.
برأيه ناضل محمد كونه عربيًا للخروج من القومية العربية وتخطيها. ولكن هويته العربية لا تنتصر من القومية العربية إلا عبر نكرانها لذاتها في الإيمان الإسلامي. لذلك العروبة هي تجاذب أزلي بين القومية والإيمان.
العروبة تصبح بذلك خبرة نموذجية يجب عيشها وفق سياقات التاريخ. وهي مشروع وليست ذكرى (ولا هوية) جوهره الاعتراف المتبادل...
اختلف محمد أركون مع الأب يواكيم مبارك في هذا التوصيف، خوفًا منه بالوقوع في الجوهرانية essentialisme وفي المبالغة الدينية في قراءة هذا المفهوم السياسي.
Un “excès du croire” préjudiciable à l’exercice de la raison critique.
بالنسبة لأركون، في حقبة القرنين التاسع والعاشر ميلادي، كُتبت صفحة إنسانوية باللغة العربية في مدن العراق وإيران المتنوعة إثنيًا وطائفيًا... آنذاك لم يكن الحديث عن "العروبة" بل عن أدب عربي (humanisme arabe)
إن محاولة مبارك انقاذ العروبة من القومية العربية لا يلغي ارتباطهما التاريخي، وقد شهدت باريس في بدايات القرن العشرين مؤتمرات للتأسيس لها في عصرنا الحديث.
قناعتي بأن الهوية القومية حاجة للسلطة وأحيانًا للتسلط،
وهي ليست حاجة للإنسان والمواطن.
القومية العربية تقهقرت في عجز الجامعة العربية عن تحقيق تضامن فعلي بين الأوطان والشعوب المكونة لجغرافيتها،
وعجزت القومية العربية بطبيعة الأمر عن الاعتراف بالتنوع الثقافي الاثني واللغوي والديني في جغرافيتها، فالأرمني والكوردي والأمزيغي والسرياني وغيرهم هم مواطنون 100% إن انضووا أو لم بنضووا تحت هذه القومية
وخسرت القومية العربية صيتها في دول فشلت في ممارسة حوكمة راشدة وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية وحقوق الانسان والحريات وعلى رأسها الحرية الدينية
وماتت القومية العربية على يد الأنظمة المستبدة التي باسمها اقترفت أبشع أنواع الاضطهادات من حلبجة في كوردستان العراق إلى المدن السورية...
وبقي علينا أن ندفنها ونقيم العزاء (faire le deuil) لنستطيع إنعاش العروبة.
فالعروبة التي يمكن انقاذها لا بل نحتاج الى انعاشها برأيي،
هي ليست هوية تقصي هويات أخرى
ولا مشروع سياسي إيديولوجي وحدوي
بل هي مجال ثقافي، يعطي المعنى الصحيح لمؤتمرنا: "المؤتمر المسيحي العربي" ليخاطب المسيحيين في المجال الثقافي العربي كجزء اساسي أصيل منه وفاعلين فيه ومساهمين في صناعة حاضره ومستقبله.
مع هذا الكلام، ومع مشهد الانتفاضات الشعبية الراهنة، يبقى السؤال:
هل للمسيحيين اليوم دور خاص في العالم العربي؟
أو التحدي المطلوب هو ألا يبحثوا عن دور متمايز، حيث التاريخ يدعوهم لمشاركة سائر المواطنين من كل الخلفيات الذين يناضلون من أجل بناء مجتمعاتهم على أسس جديدة مشتركة؟
أختم بالإجابة على هذه الأسئلة بسبع نقاط:
Pour son émergence nouvelle, il n’appartient à la femme arabe de réclamer sa place, sur pied d’égalité, revendication bien en dessous de sa vocation irréductible à l’homme, mais de refaire l’homme. (Youakim Moubarac, 1972)
وعليكم السلام