أيتها السيدات .. أيها السادة :
أحييكم بفيض من مشاعر المحبة والوئام والوحدة التي تجمعنا .
اسمحوا لي بداية إزجاء الشكر والعرفان لباريس التي ثابرت منذ قرن ونيف على منحنا فرص اللقاء في ظلال حريتها الوارفة , كلما احتجنا للاجتماع والبحث في شؤوننا العامة ومستقبل بلادنا .
وأثنّي بالشكر والعرفان لرواد الذين أطلقوا فكرة هذا المؤتمر المهم, وبذلوا جهودهم لتنظيمه وإنجاحه . ونرجو منهم السعي لترسيخه وترقيته , لأنه يسد حاجة ماسة لنا جميعا كعرب بكل مكوناتهم في مرحلة تتكثف فيها جهود أعدائنا لدق الأسافين بيننا , لا انتصارا لفريق على فريق , ولكن تدميرا للجميع , وتمزيقا للأمة .
والحقيقة إن كان ثمة ملاحظة ينبغي تسجيلها على هذا المؤتمر فهي أنه تأخر , إذ كان يجب أن يبدأ منذ أن بدأت مخططات التمزيق والتدمير بمعاول الطائفية , التي بدأت باقتلاع اليهود العرب والحاقهم بالمشروع الصهيوني , ثم انتقلت الى اقتلاع مسيحيي فلسطين خدمة لمصالح اسرائيل , ثم اقتلاع مسيحيي العراق وسورية وبقية بلاد الشام . بل شمل المخطط مسيحيي بقية بلدان المنطقة كتركيا وايران , وكانت وجهة التهجير غالبا نحو الغرب , كأن المخطط يستهدف تكريس فكرة أن الاسلام دين الشرق , والمسيحية دين الغرب في إطار تقسيم العالم الى ثقافات وحضارات شرقية , وثقافات غربية , بينهما صراع ديني أزلي , مع أن الاسلام والمسيحية ديانتان عالميتان بطبيعتهما , والمسيحية كما الاسلام شرقية الأصول , بل وعربية خالصة .
إن المستهدف هنا المسيحية والمسيحيون , وكذلك الإسلام والمسلمون . لأنه لا مصلحة للمسلمين في تهجير شركائهم المسيحيين . ولا مصلحة للمسيحيين في مغادرة وطنهم الى الأمريكتين وأوروبا . بل هي كارثة انسانية وقومية وحضارية لكليهما , بل أزعم إنها خسارة للعالم أجمع .
واسمحوا لي أن ألفت نظركم الى أن مخطط التهجير الديني وتدمير الفسيفساء البشرية لم يتوقف ولم يقتصر على اليهود والمسيحيين , فتطورات المحنة السورية بعد ثورة شعبها المشروعة في سبيل الحرية والتقدم , تضمنت تهجير ستة ملايين من الأكثرية السنية العربية, وتوطين غرباء محلهم, مما يثبت أن أعداءنا يستهدفون المسلمين بالتهجير الجماعي كالمسيحيين , لأن غايتهم البعيدة تدمير (الأمة العربية بكل مكوناتها).
أيها السادة :
إن إستهداف أي مكون قومي أو ديني استهداف للجميع , لأن للشرق أصلا كينونة تعددية متنوعة , وكان وما زال - وينبغي أن يبقى- مثالا متحضرا للتعايش والتآخي , والتسامح , والتفاعل الحي . وعلينا اجتثاث (مفهوم الأقلية والأكثرية) في شراكتنا المصيرية , واستبداله بمفهوم دولة المواطنة العصرية الديمقراطية التي تساوى بين مواطنيها في الحقوق والواجبات , كما يجب أن نرفض أنظمة التمييز الطائفي والمحاصصات . وها هي شعوبنا تثور وتضحي بأرواح ودماء شبابها للتحرر من هذه الأنظمة القرو - سطية في لبنان والعراق وسورية .
لقد كان المسيحيون العرب أكثرية في عصر من العصور, وكان المسلمون أقلية, ثم تغيرت المعادلة , ولكن الحقيقة غير القابلة للتتغير أن الفريقين شريكان في الأرض والهواء والماء , وورثة الرسالات الابراهيمية الحنيفية , وكنا معا شركاء في صنع الحضارة , وتعليم العالم دروس التسامح الديني (كما يقول بول كولز) وكان وقاومنا معا الغزو الصليبي , وتعاونا في بناء نماذج قرطبة ومدريد وطليطلة .
أيها الأخوة
لا قيمة للمعيار العددي في حساب الأقلية والأكثرية , فالمسيحيون منذ بداية النهضة العربية الحديثة قبل قرنين هم رواد الإحياء والحداثة, وطلائع التحرر من الاستعمار , ومن العصبيات الرجعية الدينية والإثنية والقبلية , وهم طلائع العروبة وطلائع تحديثها لغة وفكرا , وما زالوا في مقدمة حملة لواء الديمقراطية والدولة المدنية.
وإننا جميعا اليوم مدعوون لمقاومة أخطبوط الأثافي : الغزو الأجنبي , الارهاب الديني , وأنظمة الاستبداد والفساد , التمثيل الطائفي . ومدعوون لدعم الثورات الشعبية المدنية في كل بلدان المنطقة , ونشر وتعميم الديمقراطية . ومدعوون معا لتحديث العروبة ودمقرطتها , والعودة لمشروع التقدم العربي المعاصر بمواجهة المشاريع الخارجية والإقليمية الرامية للسيطرة على المنطقة: الاسرائيلية, والصفوية , والعثمانية الجديدة , والروسية , وغيرها , وعلى رأسها مشروع تحالف الأقليات بمواجهة الأكثرية العربية السنية الذي يقوده نظام ايران الثيوقراطي .
أيها الأصدقاء :
لكل ذلك يجب أن لا يكون هذا المؤتمر حدثا عارضا, بل قاعدة نبني عليها, ومسارا فاعلا يحمل روح ورياح الثورات الشعبية التي تهب على عالمنا العربي من محيطه الى خليجه .
وفقنا الله .