مفهوم الإرهاب ومصادره في الشرق الأوسط
تحظى ظاهرة الإرهاب باهتمام واسع في الأوساط الأكاديمية والبحثية في العالم. ويزداد هذا الاهتمام بشكل مطرد منذ أواخر سبعينات القرن الماضي. ولذا، أصبح الإرهاب مجالاً بحثياً قائماً بذاته، إلى جانب كونه جزءاً من مجالات أخرى. ولم يعد مستبعداً أن يصبح الإرهاب حقلاً دراسياً له أدواته ومناهجه في علم الاجتماع في وقت ما قد لا يكون بعيداً.
وغني عن الذكر، والحال هكذا، أن محاولة تقديم استنتاجات جديدة في ظاهرة الإرهاب تتطلب إجراء بحث منهجي يلتزم القواعد الأساسية في مثل هذا البحث، وهو ما يستغرق وقتاً لم يكن متاحاً قبل هذا المؤتمر. وتأسيساً على ذلك، نسعى في هذه الورقة إلى طرح أفكار تحفز على فتح نقاش مفيد بشأن ظاهرة الإرهاب، الأمر الذي يتطلب تركيزاً شديداً في جانب محدد من جوانبها، مع توقع أن يمتد هذا النقاش إلى جوانب أخرى.
وهذا منهجنا في الورقة التي نركز فيها على أحد العناصر الواردة في التعريف عن هذه الجلسة في برنامج المؤتمر، وهو المصادر المسببة للإرهاب، إذ جاء في ذلك التعريف (استبيان ظاهرة الإرهاب، والوقوف على أسبابها ومصادرها، ومحركاتها أو رافعاتها..)، وذلك بعد مرور سريع على مفهوم الإرهاب وإشكالية تعريفه بالنظر إلى ما ورد في التعريف المشار إليه أيضاً عن (التوصل إلى تعريف واقعي وموضوعي لظاهرة الإرهاب ..).
أولاً: في مفهوم الإرهاب:
نحو تجاوز إشكالية التعريف:
أُضيع وقت كثير في مناقشات حول المقصود بالإرهاب، سعياً إلى بلورة تعريف مُتفق عليه، أو يلقى أوسع قبول ممكن في العالم. وتبين في النهاية ما كان مفترضاً أن يبين في البداية، إذ تعذر التوافق على تعريف واحد للإرهاب، ليس بسبب اختلاف زاوية النظر إليه فقط أو نتيجة مصالح سياسية لهذه القوة الدولية أو الإقليمية أو تلك فحسب، ولكن أيضاً لأن الظاهرة الإرهابية نفسها لا تزال تفصح عن مكنوناتها في تجليات مختلفة. ويضاف إلى ذلك أنه برغم كثرة الدراسات التي أُجريت، وتُجرى، حول هذه الظاهرة، لم يتيسر بعد سير أغوارها كافةً، خاصةً على صعيد المراحل التي يمر فيها الإرهاب، وهل هي أربع كما يرى كثير من الباحثين (التعصب، والتطرف، والعنف اللفظي، والإرهاب المادي) أم أكثر.
وربما كان اتجاه الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، إلى استخدام مفهوم التطرف العنيف Violent Extrimism في السنوات الأخيرة مؤشراً إلى أهمية الارتباط بين هذه المراحل لبناء سياسات أكثر فاعلية لمواجهة الإرهاب، إذ يتميز هذا المفهوم بأنه يلفت الانتباه إلى ضرورة العمل على خطوات وقائية منهجية لمعالجة الظروف الكامنة التي تدفع إلى التطرف والانضمام إلى الجماعات الإرهابية (راجع على سبيل المثال خطة الأمين العام للأمم المتحدة المقدمة في 15 يناير 2016 تحت عنوان خطة العمل في مواجهة التطرف العنيف)، بحيث لا تقتصر المواجهة على اتخاذ تدابير أمنية وعسكرية وإجراءات سياسية.
وهكذا، وبرغم أن مفهوم الإرهاب يُعد من المفاهيم المراوغة التي يصعب ضبطها علمياً وإجرائياً، يظل القدر المتيقن فيه هو استخدام العنف المسلح لتحقيق هدف سياسي لا يتعلق بالمقاومة الوطنية ضد احتلال أجنبي. فقد صار التمييز بين الإرهاب ومقاومة الاحتلال موضع اتفاق واسع، وإن لم يكن كاملاً، في مرحلة تصفية الاستعمار في الربع الثالث من القرن الماضي.
فالإرهاب إذن هو فعل سياسي يُستخدم فيه السلاح. وكونه سياسياً يعني تمييزه عن العنف المستخدم في مختلف أشكال الجريمة المنظَّمة. وهو بهذا المعنى يُستخدم لأهداف سياسية متعددة ومختلفة. وقد عرف العالم الحديث أنواعاً عدة من الإرهاب يمكن التمييز بين أهمها على مستويين: أولهما مستوى القائم بالإرهاب أو من يمارس الفعل السياسي المسلح. فقد يكون الفاعل منظمات وحركات تستخدم العنف ضد السلطة، وقد تكون السلطة نفسها هي التي تمارس الإرهاب ضد معارضيها أو ضد شعب آخر تغزو قواتها أرضه أو تحتلها.
أما المستوى الثاني الذى يعنينا هنا فهو اتجاهات المنظمات أو الحركات التي تمارس العنف المسلح لأهداف سياسية تحت رايات دينية.
ثانياً: في مصادر الإرهاب:
نحو تجاوز إشكالية العلاقة بين النص والواقع:
يفيد الاتجاه العام في الدراسات، التي عُنيت بتجديد العوامل التي تؤدي إلى تحول شخص عادي إلى إرهابي، وجود مصدرين أساسيين لهذا التحول، أحدهما نصوص دينية يقرأها أو يسمعها، والثاني بيئة سياسية-مجتمعية ينشأ فيها أو واقع موضوعي يعيشه. كل إرهابي، تقريباً، يُعد حصيلة تفاعل بين هذين المصدرين، اللذين قد يزيد أثر أحدهما في حالة، وقد يكون أثر الثاني هو الأقوى في حالة أخرى. ولذا، يمكن التمييز بين اتجاهين في دراسة عملية تشكل الكائن الإرهابي، والتي تُعد بمثابة البنية الأساسية لظاهرة الإرهاب. الاتجاه الأول يركز على البيئة السياسية-المجتمعية والظروف الموضوعية. والاتجاه الثاني يركز على النصوص الدينية.
ويمكن، بشيء من الاختزال والتبسيط، إجراء مقارنة مركزة بين الاتجاهين المذكورين. يرى الاتجاه الأول أن تفاعل شخص مع الظروف التي ينشأ فيها هو المصدر الأساسي لتعصبه، ثم تطرفه، وصولاً إلى تحوله إرهابياً. يتمرد الشاب، وفق الاتجاه الغالب في هذا الاتجاه، نتيجة ظروف ينشأ فيها، وعندئذ إما أن يبحث عن عقيدة حافزة لهذا التمرد وموجهة له، أو "تبحث" هي عنه –في بعض الحالات- إذا كان هناك من يرقبه، ويلتقطه، ويُجندّه، ويبث نصوصاً متشددة، أو تفسيرات متطرفة، في دماغه. هذه النصوص، إذاً، ليست هي المصدر الرئيس للتطرف المؤدي إلى الإرهاب، حسب الاتجاه الأول، وبخلاف الاتجاه الثاني الذي يرى أن النص الديني هو المصدر الأساسي. فالتحول إلى الإرهاب، حسب الاتجاه الثاني، لا يكتمل بدون النص الديني. وإذا لم يوجد هذا النص، تأخذ حالة التمرد المجتمعي وجهة أخرى.
وبمعنى ما، يذهب الاتجاه الأول إلى أن الإرهاب يخرج من قلب البيئة المجتمعية حين يكون الشاب مستعداً بحكم تكوينه للتمرد، بينما يعتقد الاتجاه الثاني أنه يخرج من بطون نصوص دينية.
لكن أياً من هذين المنهجين يكتسب قيمته نتيجة أن الثاني يكمله، إذ يتعذر واقعياً ومنهجياً تشكل الظاهرة الإرهابية إلا حين يجتمعان. وهذه قاعدة عامة يجوز الاستثناء منها، مثلها مثل غيرها. ولكن الاستثناء من هذه القاعدة يبدو أقل من غيرها، لأن الأثر المترتب على كيفية تفاعل الشخص مع بيئته المجتمعية، ومع النصوص الدينية المتشددة، لا يكتمل غالباً إلا حين يوجدان معاً. وهذا هو ما توصلت إليه الدراسات التي أُجريت وفق قواعد منهجية منضبطة، بغض النظر عن الوزن النسبي لكل من المصدرين النصي والواقعي. فمن الطبيعي أن يختلف هذا الوزن من شخص إلى آخر.
وهكذا، تحدث عملية تشكل الكائن الإرهابي نتيجة تفاعله مع كل من البيئة المجتمعية والنصوص الدينية، والتفاعل بين هذه النصوص وتلك البيئة. فكيف حدث هذا التفاعل في منطقتنا؟
ثالثاً: حول التفاعل المُنشيء للظاهرة الإرهابية:
البيئة السياسية-المجتمعية والنصوص الدينية في منطقتنا:
تبدو الظاهرة الإرهابية، بشيء من الاختزال، مثل معادلة تتكون من طرفين، هما البيئة السياسية-المجتمعية، والنصوص الدينية المتشددة. وفي ستينات القرن الماضي، كانت هذه النصوص نائمة في بطون كتب فقهية وتراثية بانتظار من يوقظها ويستخدمها، وهو ما تحقق نتيجة التغير الذي حدث في البيئة السياسية-المجتمعية، سواء على المستوى الكلي أو الجزئي.
ونقصد بهذه البيئة على المستوى الكلي الوضع العام الذي يؤثر في اتجاهات الأفراد، أي كل ما يتعلق بسياسات نظم الحكم، وأدائها، وأنماط الصراعات والتحالفات في المجتمع، وحالة التعليم والثقافة والفكر والعلم والفن، أي مستوى التطور في هذا المجتمع. أما البيئة على المستوى الجزئي فتعني الظروف التي ينشأ فيها الفرد على المستوى المحلي، والمؤثرات المترتبة عليها.
وليست صُدفة أن تصبح منطقتنا هي مركز الإرهاب في العالم في العقود الأخيرة، لأن طبيعة البيئة السياسية-المجتمعية فيها جعلتها "مصنعاً" لهذا الإرهاب منذ منتصف القرن الماضي، بفعل تداعيات المشروع القومي العربي، بتسلطه وأحاديته وإنكاره التعدد والتنوع وقمعهما، سواء في صعوده أو في هبوطه.
قوَّض هذا المشروع في صعوده قيم قبول الآخر، والتسامح، والانتماء، واحترام التعدد، وطبيعية الاختلاف النوعي والديني والثقافي والحضاري، وقسَّم مجتمعات أُخضعت لأنظمة تصارعت على السلطة، وصرعت في الوقت نفسه مقومات المدنية والمواطنة في مجتمعات عربية عدة على نحو أعادها إلى الوراء، إذ تنامت تحت السطح الانتماءات الأولية الدينية والمذهبية والعرقية.
ولأن سقوط ذلك المشروع عام 1967 حدث بطريقة صادمة، أخذت تلك الانتماءات في الازدياد في أجواء سادها الإحباط واليأس، وازداد في ظلها التعصب الذي كان تناميه في المجال الديني العامل الأول الذي خلق بيئة سياسية-مجتمعية مواتية لتكون الظاهرة الإرهابية، وتوسع الخلايا "الجهادية" الصغيرة والمعزولة التي ظهرت في القاهرة في منتصف الستينات، والاتجاه إلى تكوين منظمات ومجموعات إرهابية محلية، واستغلالها التحولات التي حدثت في قطاعات متزايدة من بعض المجتمعات العربية، وأدت إلى موجة تدين طقوسي ظهرت خلالها نصوص دينية وفقهية لم تكن متداولة من قبل، فحدث التفاعل الذي يُنتج الظاهرة الإرهابية.
وكانت موجة التدين تلك نتيجة اتجاه أعداد متزايدة من العرب للاحتماء بالدين من صدمة الهزيمة عام 1967، في غياب مجال عام مفتوح يسمح بإجراء نقاش حر حول عواملها الحقيقية، ويحول دون انتشار خرافة مؤداها أنها حدثت بسبب "الابتعاد عن الله".
وخلقت تلك الموجة الارتباط الذي ينتج الظاهرة الإرهابية بين البيئة السياسية-المجتمعية على المستويين الكلي والجزئي، النصوص الدينية المتشددة، فتنامت هذه الظاهرة التي يزداد الوعي الآن بأن مواجهتها لابد أن تكون شاملة من أجل تغيير تلك البيئة، وإصلاح هذه النصوص، في آن معاً.