من المؤسف بعد مضي قرنٍ أو ثلاثة أرباع القرن على قيام نظام الدولة الوطنية العربية، وقيام جامعة الدول العربية، الاضطرار للتلاقي للتأكيد على أمورٍ ينبغي أن تكون قد صارت بديهية، من مثل الهوية الوطنية، والانتماء العربي، وإمكان العيش معاً باعتبارنا مواطنين. والأمر الآخر الذي يدعو للأسف هو الاضطرار للاجتماع للعمل على هذا الموضوع الخطير خارج بلدان العالم العربي. نحن نسميه مرةً وطناً عربياً للتأكيد على وحدته، ومرة عالماً عربياً للتأكيد على تنوعه وتعدديته وضخامته. إنما ورغم تلك الضخامة فإنّ الاجتماع ما كان ممكناً في إحدى الدول أو البلدان العربية. ومن جهةٍ أُخرى فإنّ لباريس تاريخاً لدينا ليس مع الثقافة والأنوار والثورة وحسب، وإنما مع العرب والعروبة أيضاً. ففي العام 1913 انعقد بباريس المؤتمر العربي الأول الذي حضرته نخبةٌ من المثقفين والسياسيين العرب من بلاد الشام، للبحث في مستقبلهم بداخل الدولة العثمانية أو خارجها. وإذا كانوا خارجها (والذين اختاروا ذلك قلة لأنّ الدولة العلية ما بدت مهددةً بالزوال آنذاك)، فهل يكونون في دولةٍ واحدةٍ أم في كياناتٍ متعددة؟ وما اتفقوا على البدائل، بيد أنّ أحداً منهم وحتى أنصار الكيان المنفصل مثل خليل غانم، ما شككوا في الانتماء العربي، ولا اعتبروا أنفسهم ذوي انتماءٍ مشرقي أو ما شابه.
على أي حال، هذا هو الواقع. والسبب الأساسي لما نحن عليه منذ ثلاثة أو أربعة عقود هو فشل نظام الدولة الوطنية في العالم العربي. وهو فشلٌ مدوٍّ ليس سببه تقسيمات سايكس بيكو بالدرجة الأولى؛ بل تحول نظام الدولة الوطنية إلى نظامٍ أمني واستبدادي في دولٍ عربية ٍ رئيسية. وعندما حاول الديموقراطيون والشبان التغيير في العام 2011 انقلب العالم كله عليهم، فتخربت البلدان، ومات الملايين، وتهجر الملايين، وبدا للوهلة الأولى أنه لا خيار للعرب إلاّ الاستبداد أو الميليشيات الدينية. ولذلك، وكما في أعقاب سقوط الدولة العثمانية، جاءت القوى الإقليمية أو الدولية أو هي معاً لتملأ ما اعتبرته فراغاً، وتحوِّل بلداننا إلى مناطق نفوذٍ، وبقع للبؤس والفقر والانقسام الإثني والطائفي والجغرافي والمحلي. وما كان غريباً أن تبحث فئاتٌ وقعت بين الخوف والتخويف عن الحماية من جديد، مثلما حصل في القرن التاسع عشر عندما صارت الدولة العثمانية هي الرجل المريض. ولذا لدينا الآن، وفي البلدان العربية التي مزقتها النزاعات الأوهام بشأن تطلب الحماية والأمان من إيران وميليشياتها. ويتصاحب ذلك مع مساعٍ للغلبة الداخلية، وإثارة النزاعات بين الفئات الاجتماعية والدينية، والتنكر للانتماء العربي، ولنظام المصلحة العربية.
أيها الإخوة، أيها السادة
عندما بدأْنا الدكتور فارس سعيد وأنا التفكير قبل أربعة أشهُرٍ بعقد مؤتمرٍ لنُخَب ثقافيةٍ وسياسيةٍ مسيحية من عدة أقطارٍ عربية، يشاركهم فيه أشقاء مسلمون؛ فلأنّ ظواهر سلبيةً عديدةً كانت تبرز على السطح. فإلى استمرار الدمار في عدة بلدانٍ عربيةٍ تقف على أنقاضها الميليشيات معلنةً الانتصار، كان كبار رجال الدين المسيحيين في سورية يجتمعون ليهئنوا الأسد بالنصر، ويقدموا فروض الولاء والطاعة له والشكر لتعطفه بحماية المسيحيين. وكان الرئيس اللبناني يذهب لروسيا ويرجو الرئيس بوتين، أن يحمي المسيحيين الآخرين، كما حمى الأرثوذكس. وفي لبنان أيضاً كان وزير الخارجية جبران باسيل يعلن عن لقاءٍ مشرقي يجمع الأقليات المسيحية في العالم العربي، من أجل التفكير في الحاضر والمستقبل. ولذلك فقد أردنا أن نتصدى جميعاً لهذا التدمير المقصود لاجتماعنا السياسي والاجتماعي والإنساني؛ سواء من خلال التواصل بين فئات الأمة الكبيرة، لاقتراح البدائل وتغيير الوعي سواء بالماضي أو بالحاضر والمستقبل- أو من خلال التصدي بالمعارضة السياسية والاجتماعية والثقافية لهذا الدمار المستشري في جسد الأمة ومجتمعاتها، سعياً نحو المزيد من التقسيم والشرذمة تسهيلاً للغلبة بالتطبيق والتحريض وسياسات المحاور المعادية للعرب وللوحدات الوطنية. لقد رأينا الاشتغال على الأمرين معاً حفظاً لبلداننا وإنساننا.
إنّ الذي فاجأنا مفاجأةً سارةً الحراكات الشبابية العربية في السودان والجزائر والعراق ولبنان. ولجهتنا فقد أذهلنا الوعي الهائل لدى شباب لبنان والعراق والذي طوى عقوداً وأكاد أقول قروناً من الواقعات والإيهامات. سمعتُ شابةً في حراك جل الديب تقول أنا لا أريد حقوق المسيحيين، ولا حقوق المسلمين؛ بل أريد حقي باعتباري مواطناً! وهكذا وبضربةٍ واحدةٍ انطوى نظام المحاصصة السياسية الذي يؤسس للنزاعات والحروب والاستتباع، والذي كلفنا الكثير نحن اللبنانيين، كما كلّف إخواننا العرب أعباءً كبرى.
أيها الإخوة الأفاضل
وفّر علينا الشبان نصف العمل، ولا بد من الشراكة لنكون جميعاً متضامنين وفعالين. نحن أمام بشائر نضج المجتمعات الوطنية على أيدي الشباب بالوعي الجديد والمتجدد؛ فكيف يمكن المتابعة، وماذا نستطيع أن نفعل لدعم قضايا الحرية والعدالة. هو عالمٌ عربيٌ جديد بكل ما للكلمة من معنى. ومؤتمر باريس كان المقصود منه الدعوة إلى الخروج من أحابيل الطائفيات والمذهبيات، وها هم الشبان قد سبقونا لذلك أيضاً. هل بقي لنا عمل؟ نعم، وعملٌ كثيرٌ في المشاركة في صنع الجديد والتقدم في عالمنا العربي وفي العالم.