اعتز بمشاركتي اليوم في مؤتمر المسيحيون العرب والمسيحيون في البلدان العربية، واعتز بهذه المناسبة بأن أقدم في مداخلتي مقتطفات من ورقة سورية صيغت كنتيجة لتفكير مشترك مع كل من الزملاء الدكتور هيثم خوري والدكتور سليم بشارة، هذه الورقة التي اطلع عليها ووافق على مضامينها أيضا شركاء في العمل الوطني والإنساني، من مختلف أطياف المجتمع السوري ومنهم اذكر على سبيل المثال لا الحصر الأستاذ إبراهيم الجبين والأستاذ عيسى إبراهيم والأستاذ حافظ قرقوط. لنقدم بذلك ورقة سورية تشاركية تشكل مع الأوراق الأخرى المقدمة للمؤتمر قاعدة للحوار والتنسيق، في استمرارية لمبادئنا ولعملنا المستمر منذ سنوات في منظمة سوريون مسيحيون من أجل السلام.
يُعتبر المشرق موطن ثقافات دينية وقومية متكاملة، لم ولن تَحل أي واحدة منها محل غيرها، مهما طال الزمن وتتالت الصراعات، فالتواجد السلمي والمشترك لهذه الثقافات كان دوما السبيل الأمثل للاستقرار، وعاملا لا يسمح بسيطرة التطرف والانغلاق على الذات، وإن عرف مراحل حملت بعض هذه السمات. في هذا التنوع الغني، كان للمسيحيين العرب دور شديد الأهمية، امتدادا لوجودهم التاريخي ولطابع المسيحية العربية التواصلي في المنطقة، فالمسيحيون العرب والمسيحيون في الدول العربية كالسريان والآشوريين والكلدان والأقباط هم جزء أصيل من المنطقة ومن شعوبها العريقة. لكن استخدام الاديان والمذاهب كهويات اقصائية على يد نظم الاستبداد، وكأدوات لإثارة فتن طائفية ومذهبية، تهيمن بواسطتها على الشعوب، يشوه وظائف ورسائل الاديان، ويطرح علينا اليوم مهمة تقويم هذا الاشويه واعادة الأديان إلى وظائفها الانسانية والاخلاقية المرتبطة بالحريات الفردية.
ذلك الدور الريادي للمسيحيين ظهر بوضوح في عصر النهضة العربية، فكانوا في مقدمتها قادة لحركة التنوير، عاملين على إعادة مكانة اللغة العربية، وعلى إحياء المجتمع والثقافة والعلم والحياة السياسية، نحو بناء هوية وطنية جامعة. باعتمادهم على ركائز بناء دول عصرية، حين دعوا لنبذ التمييز على أساس الدين أو القومية ومنهم شخصيات بقيت كعلامة فارقة في تاريخنا السوري واللبناني مثل “المعلِّم” بطرس البستاني الذي يبقى شعا ُره الوطني حياِّ الى يومنا هذا “حب الوطن من الإيمان”. ومن بينهم كان ناصيف اليازجي وسليم البستاني وشبلي شميل وقسطاكي الحمصي ومريانا مرّاش والياس قدسي وآخرون، شخصيات وطنية لم تدافع عن هوية مسيحية ضيقة، بل عن هوية جامعة عمادها الوطن والأرض، فلم يدع أي منهم يوما الى الانغلاق والتقوقع، بل كانت ثقافتهم الدينية هوية جزئية ضمن هويتهم الوطنية.
جميع أولئك العظماء أتقنوا الى جانب اللغة العربية، اللغة السريانية ولغات أجنبية عديدة، فكانوا جسور انفتاح في مجتمعاتهم أولا، ومن ثم جسور انفتاح ثقافي ومعرفي على الغرب والعالم أجمع. شخصيات وطنية عملت على الخروج من حقبة طويلة من تغييب الهوية الوطنية الجامعة وسعت لبنائها ومنهم نذكر علما آخر من أعلام تاريخنا السوري اللبناني وهو فارس الخوري. لكن وبمجرد وصول النظم الشمولية الاستبدادية للحكم في ذلك الفضاء الذي عاش فيه أمثال هؤلاء وأحفادهم، وعلى رأس تلك الأنظمة نظام الأسد الأب والابن، قامت عهود الاستبداد بتهميش دور المسيحيين وتهجيرهم وتحييدهم عن أي موقع تأثير يمكن أن يساهم في النهوض بسوريا. فتراجع تواجدهم وتقلص دورهم وتأثيرهم السياسي والمجتمعي في ظل مسار ممنهج عمل على القضاء على الحياة المدنية بكافة أشكالها، ودفع نحو تأطير المجتمع بالأطر الدينية الضيقة ومن ثم عمل على افساد المؤسسات الدينية وحرف مهماتها والارتكاز على الطائفية واخضاع المجتمع للجهل والتجهيل تحت تأثير المفاهيم الدينية المغلوطة ونشر الفتنة وإنتاج التطرف، فضمرت مجتمعاتنا على صعيد العلم والوعي الانساني والتطور الاجتماعي وإدارة الموارد والاستفادة منها والتخطيط للمستقبل ولاستقرار الشعوب، وكان استبعاد وتهجير المسيحيين جزءا من هذا المسار الى أن كانت الثورة السورية.
الثورة السورية كحدث مفصلي في تاريخ سوريا والعرب، كجزء لا يتجزأ من ثورات الشعوب العربية وبالأخص منها الثورات القائمة اليوم في لبنان وفي العراق ترفعها قيم مشتركة عابرة للحدود يحملها الشباب العربي بصوت واحد، بانتفاضة مجتمعية شاملة ضد الاستبداد وكل ما يمثله.
لكن في سوريا اليوم وبعد تسع سنوات من الحرب والصراع الدامي والتهجير القسري في سوريا، تبدو الهوية السورية الجامعة، والمسيحية منها بشكل خاص، كهوية مهددة بسبب ربطها بنظام استبدادي ارتكب مجازر إنسانية ضد السوريين، واعتبار السوريين المسيحيين داعمين لهذه الانتهاكات، وهو ادعاء مزيف ولكنه خطير يحملهم المسؤولية عما لم يقرروه، ويزرع الكراهية والحقد بينهم وبين بقية أطياف المجتمع، ويعرضهم لانتقام مزدوج: من النظام والمتطرفين طرفان لا يخفى تواطؤهما على أي عاقل.
فسيطرة التطرف على قطاعات من الثورة، هددت حملة الصوت الوطني من مسلمين ومسيحيين وحاملي الفكر العلماني الذين بعد ان شاركوا في الخراك السلمي ضد الاستبداد غاب عنهم الشريك الوطني على حساب هيمنة تيارات عسكرية وسياسية تحمل فكراً ما دون الهوية الوطنية وبروز خطاب الكراهية والتضليل ومنهج الاقصاء وفرض الوصاية. فتراجعت هذه القطاعات الواسعة عن دورها في مواجهة قطبي التطرف السلطوي والديني، قطبين تواطئا لتشويه الحراك المطالب بالتغيير الجذري.
بينما وجه سوريا لا يمثله التطرف والتكفيريين وأعمالهم الهمجية من قتل وقطع الرؤوس والانتهاكات، ولا يتجلى وجه سوريا أيضا بآثار التعذيب على أجساد المعتقلين أو على جثامين من قتلوا تحت التعذيب في معتقلات الأسد أو جثامين الأطفال تحت ردم القصف وسموم السلاح الكيماوي.
إن تقسيم المجتمع الي اقليات هو أحد الأمراض الأسدية التي هيمنت في سوريا لعقود، والتي يُعاد تدويرها واستخدامها من قبل إيران في عموم المنطقة العربية. ومن أخطر عوامل تهديد الهوية الوطنية هو تصنيف السوريين المسيحيين كأقلية، بالإضافة الى مواقف بعض رجال الدين الخاطئة في دعم النظام الاستبدادي مبتعدين عن تمثيل سوريين المسيحيين، ومواقفهم الوطنية والانسانية، وصوتهم، الذي ينعكس اليوم في هذا المؤتمر، والذي سينهض بمسؤوليتهم عن اعادة الروابط الانسانية والوطنية إلى المجتمع السوري.
فقد تحمل مسيحيو سوريا نتائج هذا التوجه الطائفي، والصراعات التي تضع الفئات السورية المختلفة في خدمة الاستبداد وسياساته، وتتجاهل حقهم الأساسي في العيش الآمن على أرض وطنهم وأرض أجدادهم، وتجعل من الانتماء الأقلوي عائقا أمام بناء المواطنة، وبناء هوية سورية جامعة ستتضاءل في ظلها صعوبات الوصول إلى دولة القانون والمساواة.
في مواجهة ذلك كله وبرؤية مستقبلية تتضمن استمرار فاعل لمواقف الرعيل السوري المسيحي الأول الداعي لفصل الدين عن الدولة والداعي الى غلبة العلم وتثقيف العقل والاحتكام اليه كأساس للتمدن والحداثة المنشودة، نؤمن بضرورة التغيير الجذري والحتمي للبنية المنتجة لهذا الخراب الإنساني ونرى أن مستقبل سوريا يجب أن يسير نحو الحداثة والتطور على كافة الصعد نحو بناء هوية وطنية جديدة بعد فترة الجمود القسري تحت وطأة النظام القمعي الذي أفرز التطرف والتشدد. هوية تنطلق نحو مستقبل يعترف بالتعددية والمواطنة المتساوية بالمطلق دون تمييز على خلفية مذهبية او قومية أو جندرية، عمادها الوطن والأرض، التي تحمل هذا التنوع هي عامل الأصل والوجود والانتماء لهذه الهوية. نحو بناء سوريا دولة حيادية تجاه الأديان تعترف بالحريات الفردية المطلقة بممارسة العقائد واعتناق المعتقدات أو اللوائح القيمية، طالما لا تتعارض مع حقوق الإنسان وحريات الآخرين.
سوريا المستقبل جزء من المنظومة العالمية تلتزم بميثاق الأمم المتحدة وبالعمل على تحقيق الأمن والسلام العالميين حيث تربط السوريين بجميع شعوب المنطقة جذور تاريخية مشتركة وقيم مبنية على الرسالات السماوية والمشترك الإنساني. كما ترتبط سوريا بالمنطقة العربية بروابط الثقافة والمصالح والأهداف المستقبلية والسعي لتقدمها وتحقيق التعاون بين بلدانها وشعوبها بكامل ثقافاتها الدينية والقومية من عرب وكرد وسريان وغيرهم، يشكلون جميعهم جزء أساسيا من مستقبل المنطقة السياسي، الاقتصادي، التنموي والحضاري.
شكراَ لإصغائكم