انتماء لا استثناء
نلتقي اليوم لنتفكر معا بمسائل تشغلنا كمواطنين من غير بلد عربي، شركاء في الإنتماء، بعيدين عن منطق الإستثناء الطائفي. فالهواجس واحدة كما المصائر. واذا ما تناولنا شؤون العرب المسيحيين فإننا لا نقول بفصلها عن شؤون اوطاننا، بظل ما اصاب دولنا الوطنية بفعل استحواذ سلطات الإستبداد والطائفية عليها. بل ننظر اليها من حيث اتصالها بمشكلات دولنا ومجتمعاتنا وكشفها لها.
بالأمس، انتفضت فئات واسعة من اللبنانيين ضد الفساد والطائفية معا وظهرت تحولات عميقة في وعي شبان وشابات كثيرين للعلاقة الوثيقة بينهما وللتمييز الضروري بين السلطة والدولة. فجاء اعتراضهم على نظام المحاصة رفضا قاطعا لهيمنة القوى السياسية التي تضع يدها على الدولة باسم حقوق الطوائف.
وفيما يتعدى لبنان وفي سياق زمني اطول، يقول بعض المسيحيين انهم باتوا يفتقرون الى الخيارات التي اعتمدتها النخب الدينية والثقافية والسياسية في ما سمي عصر النهضة حين اعتنقت قضايا مجتمعاتها، والتي سمحت لهم ان يلعبوا ادوارا في اوطانهم تتعدى بكثير حجمهم العددي. ولا يتردد البعض بالقول اننا نعيش في عصر الخيبة، فيما عاش الآباء والأجداد مطلع القرن الماضي عصرا حبل بوعود كثيرة. ومهما يكن من امر قساوة الأيام الحاضرة ومبررات الخيبة، فإن التمسك بالخيارات التي انطبعت بها مساهمات المسيحيين في استقلال اوطانهم ومحاولات بنائها يبقى، في كل الأحوال، خيرا من الأوهام.
لا فائدة من تكرار الكلام العقيم الى حد تصديقه عن وجود خطة كونيّة مدبّرة لإفراغ الشرق من مسيحييه. لا شك ان الإسلاميين المتطرفين واسرائيل يلتقون في تمني اندثار المسيحيين أويعملون في سبيله. غير ان هذا ليس صحيحا فيما يتعلق بالدول الغربية، فهي لا تريد القضاء على الوجود المسيحي، بخلاف ما يروجه البعض، لكنها لا تفعل الكثير للحؤول دون انحساره. واذا ما قامت دول بعينها، لا في سياستها المعلنة بل في واقع الأمر، بمنح الأفضلية للمسيحيين لدى اعطاء تأشيرات الهجرة فهي لا ترمي الى اقتلاعهم من ارضهم بل غالبا ما تتجاوب بكلفة محدودة مع طلب قياداتهم السياسية والكنسية وترجّح فرص اندماجهم النسبي في الدول المضيفة. ان المسيحيين ينفعلون بتفكك دولهم وتمزّق مجتمعاتهم وصعود التطرف، وفوق ذلك يجري تخويفهم ومعه ادعاء حمابتهم، فيميلون الى الإنكفاء و الإنسحاب والهجرة.
ويتصل وهمٌ آخر باللجوء إلى الأنظمة الإستبدادية بحجة أن الخيار الحقيقي هو بينها وبين التطرف الإرهابي. والحقيقة هي أن الأنظمة المذكورة أرهبتهم وهمّشتهم سنين طويلة وبعد ذلك ساهمت في اثارة شكوك مواطنيهم بهم الذين حسبوا بعض الفوائد التي جناها نفر منهم نوعا من "التمييز الإيجابي" حيالهم. غنيّ عن البيان أنّه سبق لعدد كبير من المسيحيين في الدول التي حكمتها أنظمة الحزب الواحد والطائفة الواحدة والعائلة الواحدة أن اضطر للتنازل عن الكثير من حقوقه المدنية والسياسية، بل أنّها انتزعت منه، مقابل العيش بأمان موقّت وفيما يقترب من العزلة عن باقي المجتمع، وهي عزلة تكاد تشبه ما اختبره المسيحيون في كنف نظام الملل العثماني. وهي عزلة تتركهم أحيانًا بلا أصدقاء.
ومن الأوهام توقّع العون وطلب الحماية الخارجية. فما من قوة خارجية تقدم دعمًا يُذكر للمسيحيين. ولا يغيّر في ذلك شيئًا وعد يتيم بالتمييز الإيجابي لصالح اللاجئين السوريين يتفوه به دونالد ترامب ثم ينساه، ولا عبارات تعاطف يقولها نائبه مايك بنس في مؤتمر يدعو اليه الإنجيلي المحافظ فرانكلين غراهام او في مؤتمر الدفاع عن المسيحيين حين وعد بتحويل هبات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية الى المسيحيين مباشرة عوض تقديمها الى الأمم المتحدة والهيئات غير الحكومية. ولا تؤول الى اي فعل مؤثّر كلمة عطف او التزام في الدفاع عن مسيحيي الشرق يخاطب فيها فلاديمير بوتين فئة من مؤمني روسيا او زوارا من بلادنا.
لا بد من الإعتراف ملاحظة ان الإهتمام الدولي بمصائر المسيحيين تراجعا كبيرا في دول غربية وشرقية، ولأسباب شتى لا مجال لمناقشتها في هذه الورقة. وعلينا الملاحظة ايضا ان النفور من المسلمين عند تلك الدول بحجة خوفهم على امنهم من افعال المتطرفين، وهو ما يسميه البعض رهاب الإسلام، يتفوق كثيرا على ما بقي من رغبة في دعم مسيحيي العالم العربي. ويقع البعض في الخطأ الأخلاقي والسياسي الكبير حين يتطوع للإسهام في تخويف الغربيين من المسلمين، بذريعة معرفة واقعية آتية من المعايشة، ويظنّ ان كراهية المسلمين في الغرب تستجر عطفا على المسيحيين في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية.
اما الوهم الثالث فيتمثّل بالزعم ان للمسيحيين مصلحة في تحالف الأقليات بوجه الأكثرية، مما يخالف كل تطلع لمواطنة تجاوز ثنائية الأغلبية والأقلية. ثم ان موضعة المسيحيين على الفالق المفترض بين الأقليات الطائفية والأكثرية تمعن في تفتيت المجتمعات في غير بلد من بلدان المشرق العربي وتضر بمصلحتهم وتعرّضهم لأخطار أكبر وتزيد من معطوبيتهم ويحرمهم ذلك من قدرة ولو محدودة، تؤهلهم ان يكونوا رسل وئام ومصالحة.
لا يختلف اثنان ان المسيحيين امتُحنوا في انتمائهم الوطني وفي قدرتهم على إعادة بناء الوحدة المتصدعة بين أبناء الوطن الواحد وسعيهم الى قيام الدولة الواحدة، دولة المساواة في المواطنة. وعانوا كغيرهم من تراجع فكرتّي الدولة والمواطنة. وتضرّروا من إعاقة تحقّقهما، اكان ذلك بالاستئثار او التسلط ام بغلبة منطق القوة على منطق الحق والتهديد والتخويف وتجديد الأحقاد القديمة او اختراع احقاد جديدة. وشعر الكثيرون منهم، بظل المشكلات المعيشية المتراكمة وأزمة النظام السياسي والمجتمعي، بازدياد هامشيتهم وتراجع إمكانية مشاركتهم في صنع مصائرهم، فضلاً عن المصير الوطني.
ولكنهم كثيراً ما سلكوا مسالك متعددة في العمل السياسي، ولم ينضووا مرة في تنظيم سياسي واحد او اتبعوا زعيماً بعينه. وظهرت في صفوفهم نخب سياسية متنوعة. هذا ان لم يميلوا الى الاحجام عنه. فشاركت فئة منهم في الحياة العامة مشاركة فاعلة، فيما عزفت فئة أخرى عنها. واقبلت مجموعات من الشباب على طلب الوظائف العامة فيما انصرفت مجموعات أكبر الى العمل في القطاع الخاص. وأفادت فئة ثالثة، لعلها أكبر من الإثنتين، من فرص للتعلّم والترقي المهني في بلدان قريبة وبعيدة، وبخاصة عند اضطراب الأوضاع الأمنية وازدياد القلق على المستقبل وتأزم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
وأياً كان من امر الاخفاقات والمعاناة التي عرفها المسيحيون وتراجع ادوارهم، لا سيما في السياسة والثقافة، وتعرّضهم لضغوط او مضايقات، فان ثنائية الأقلية المنكفئة والاغلبية الطاغية لم تُغلق عليهم ولم تطبع مواقف مجموع المسلمين حيالهم. ذلك ان مشكلات المسيحيين كانت بمعظمها تعبيراً عن مشكلات المجتمعات العربية كلها، ما يتصل منها بالمساواة والمشاركة السياسية او ما يختص بالتنمية والنهوض الثقافي. ولم يغب ذلك عن عدد كبير النخب الدينية والثقافية في سعيها للمساهمة في اعادة بناء بلدناها، على غرار محاولات عصر النهضة. ولم يفقد كل ذلك معناه بل يستحق ان يتجدّد في زمن التغيير العربي غير المتوقع والذي لا تعرف مآلاته بعد. فلا يقع المسيحيون، او بالأحرى يوقعون، في اقلوية معطلة لدورهم في الاسهام بهذا التغيير. ولا يحسبون، او يحسبون أنفسهم، كتلة متجانسة ومتراصة بوجه كتلة واحدة ومتماسكة. فالمسيحيون مواطنون متنوعون، وليسوا جمهوراً يسير وراء زعيم او قائد. والمسلمون متعددو الاتجاهات وليسوا بمعظمهم إسلاميين، والاسلاميون منهم ليسوا أصحاب موقف واحد ولا يمكن وصفهم جملة بالتشدد دون التمييز بين من يرفض العنف، عنف القتل والخطف والتكفير، ومن يتوسّله.
والتمييز هذا أحد عناصر الوقاية من الجنوح المستعجل الى جرّ المسيحيين صوب التوجّس حيال نوايا الأكثرية الدينية او العداء لها. غير ان عنصر الوقاية الأول من هذا الجنوح المدمّر يبقى الموقف الأخلاقي. ويعني هذا الموقف الاّ يجد المسيحيون أنفسهم في غربة عن التوق الى الحرية، ومتساهلين مع العنف، لا سيما عنف الاستبداد وعنف الإرهاب، وعنف التخوين والتخويف، وعنف الإلغاء والاقصاء، وساكتين عن الإساءة الى كرامة الشخص الإنساني، أياً كان انتماؤه.
بالطبع لا يجيب الموقف الأخلاقي على كل التساؤلات القلقة عند المسيحيين. الاّ انه يحفظ أصحابه من الوقوع فريسة الارعاب المسيّس، ويحاذر تعطيل ادوارهم باسم الدفاع عنهم واضعاف قدرة المسيحيين على المشاركة مع مواطنيهم في معاناة هي اشبه بالمخاض وفي صنع مشروع للمستقبل.