المسيحيون العرب والدولة الوطنيّة الحديثة
ما معنى أن تكون مسيحياً عربياً في القرن الواحد والعشرين؟ سؤال قد يبدو نمطياً ومكرراً، إلّا أنّه الوحيد الذي يمكن، موضوعياً، الولوج عبره إلى قضية المسيحيين العرب، التي هي في الأصل قضية عربية. أي أنها قضية ترتبط جدلياً بالقضايا العربية الراهنة.
يحمل هذا السؤال، في رأيي، أربعة عناصر أساسية؛ العنصر الأول هو الكينونة. فأن تكون يعني أن يكون وجودك فاعلاً وإيجابياً لا حيادياً أو حتى سلبياً. أي أن يكون لك دور، والدور، أيُّ دور، هو في تعريفه تفاعلي مرتبط بالآخر.
ثمّ العنصر الثاني في السؤال هو المسيحية؛ أي أن تنتمي إلى حيز تاريخي وحضاري خاص وكوني في آن معاً. وهو ما يجعل من هذه العلاقة الجدلية بين الخصوصية والكونية سمة رئيسية في تاريخ المسيحيين العرب. غير أنّ الوعي الديني الأصلي لهذه العلاقة كانت تتفرع منه أو تنبثق عنه، وفي ظروف تاريخية محدّدة، ديناميات سياسية وثقافية تضع المسيحيين العرب بصورة دائمة، ووفقاً للحظة التاريخية، أمام اختبار تعريف خصوصيتهم في حيّزهم الجغرافي والحضاري، كما في حيّزهم الكوني الأعم.
بالتالي، فإن تعريف الخصوصية يحيلنا إلى العنصر الثالث في السؤال، أي العروبة؛ فهل يشعر المسيحيّون العرب أنّ خصوصيتهم الأهم هي ضمن العروبة كدينامية حضارية، أم ضمن الكونية المسيحية؟ وإذا كانوا يشعرون أنّ خصوصيتهم هي ضمن الحيّزين، المحلي والكوني، فكيف ومتى ولأية أسباب يقدّمون خصوصيتهم المحلية على تلك الكونية وبالعكس؟
هنا ننتقل الى العنصر الرابع في السؤال، إي العنصر الزمني والتاريخي، أي أن تكون مسيحياً عربياً الآن، لا في القرن التاسع عشر أو في القرن العشرين مثلاً. وهذا عنصر يستدعي العناصر السابقة كلّها، كونها عناصر تاريخية، أي أنّ تعريفها متحرّك ومرتبط باللحظة التاريخية المتغيرة.
من نافل القول أنّ المسيحية كحالة دينية وعقائدية ليست مطروحة اليوم لا في البلدان العربية ولا في العالم. بالتالي فإنّ القول بوجود قضية مسيحية عربية لا يفترض البعد الديني العقائدي كأساس لهذه القضية - وإن كان لا يتجاوز هذا البعد كأحد الأطر المرجعية في تعريف الجماعة المسيحية – بل إنّ القول بها تحرّكه دواعٍ سياسية اجتماعية متصلة بحضور المسيحيين في البلدان العربية.
لذلك فإنّ تناول قضية المسيحيين العرب، برأيي، يجب أن يكون تناولاً تاريخياً، يأخذ بإطارين زمنيين، إطار راهني متمحور حول اللحظة الآنية وتحدياتها، وإطار تاريخي يعرض لجذور هذه القضية وتمظهراتها عبر التاريخ، وما إذا كانت قضية خارجية مفتعلة أم قضية كاملة المشروعية التاريخية.
ثمّ لا بدّ من السؤال ما إذا كان طرح هذه القضية اليوم تفرضه أزمة يعيشها المسيحيون العرب دون سواهم من العرب، أو أكثر من سواهم؟ أم أنّ طرحها يأتي لكونها أزمة ضمن أزمة أوسع. أي انّها تعبّر عن أزمة المسيحيين من ضمن أزمة العرب والعروبة arabité؟ ثمّ هل في الإمكان حلّ أزمة المسيحيين العرب بمعزل عن حلّ الأزمة العربية بكليتها؟ وإذا كانت الإجابة بـ لا، فما هو دور المسيحيين في حلّ الأزمة العربية وبالتالي أزمتهم هم؟
زمن "النهضة"
للإجابة على كلّ هذه الأسئلة المتزاحمة لا مناص، في رأيي، من العودة قليلاً إلى الوراء وتحديداً إلى عصر النهضة، أي إلى القرن التاسع عشر. أمّا سبب هذه العودة إلى عصر النهضة بالتحديد، فلأنّه شهد تحولاً كبيراً في نظرة المسيحيين إلى أنفسهم في ظلّ السلطنة العثمانية. لا المسيحيين فحسب وإنما المسلمين أيضاً، وإن باختلاف أو بتفاوت فيما بينهم.
فما إن بدأ المسيحيون – خصوصاً مسيحيو المشرق - كما المسلمون، تلمّس علامات تداعي السلطنة العثمانية حتّى بدأوا، بوتائر مختلفة، يعيدون الاعتبار لتراثهم الثقافي العربي، بعدما أخذ التعدد الثقافي الذي لم يكن ذا معنى في النظام العثماني القائم على الإنتماء الديني و/أو الطائفي، يشكّل قيمة جديدة، ويأخذ معنى سياسياً. فالعروبة ما عادت معطى طبيعياً بل أصبحت مجالاً للاستثمار الثقافي والسياسي.
في هذا السياق التاريخي، برز دور المسيحيين العرب، وخصوصاً ابناء جبل لبنان، الذين كانوا تلقوا تعليماً حديثاً نسبياً وبدأوا يتقنون لغة أجنبية أو أكثر، ويقيمون علاقات عمل مع البعثات الدينية المسيحية إلى الشرق، وقد تميزوا في ميادين الصحافة والترجمة والأدب عموماً. ذلك باعتبار أنّ العنصر الأساسي المكوّن للهوية العربية، بالنسبة لهؤلاء، هو اللغة، فـ "العربي هو الذي ينطق بالعربية وليس العربي هو المسلم فحسب". (فاروق مردم بك والياس صنبر 2007)
إلّا أنّه من الخطأ الاعتقاد أنّ المسيحيين وحدهم هم من اخترعوا العروبة arabité ومن ثمّ القومية العربية nationalisme arabe، ويمكن الاستدلال على ذلك، مثلاً، "من المنشورات المعادية للنزعات القومية التركية، في بيروت في العام 1870". (المرجع نفسه)
إلا أنّ الأهمّ أنّه وفي موازاة العروبة "العلمانية" التي دعت اليها النخب المسيحية في عصر النهضة، برزت التيارات الإصلاحية الإسلامية، باعتبار أنّ "العودة إلى الأصول" كانت تفترض اعادة إحياء دور العرب في تاريخ الاسلام، على قاعدة أنّ "أنّ النهضة العربية هي شرط النهضة الاسلامية". (المرجع نفسه)
إلا "أنّ هذين التيارين الكبيرين، تيار الاصلاح الديني والحداثة الليبيرالية تكاملا أكثر مما تعارضا". (المرجع نفسه)
ولئن كانت العروبة نتاج المزاوجة والتفاعل بين الخصوصية المحلية والكونية الليبيرالية، فما كان انخراط العرب، مسيحيين ومسلمين، في الحداثة مرادفاً لنزع شخصيتهم عنهم أو للتغريب occidentalisation، لا بل على العكس فقد طرحت هذه العروبة نفسها كسياق تحرر وإعادة بناء وتأكيد للذات.
هذه سابقة في تاريخ المسيحيين العرب لا بدّ من الرجوع إليها في كلّ مرّة تكون خصوصيتهم موضع تساؤل من قبلهم أو من قبل "الآخرين". فإذا كان المسيحيون قد فكروا - مدفعوعين أساساً بهاجس البحث عن طرق للخروج من الأزمة باستلهام نموذج الحداثة الأوروبية "المسيحية" - فإنّهم لم يبحثوا عن حل لأزمتهم إلّا من ضمن حيّزهم الجغرافي والحضاري. وهو ما بدا أكثر وضوحاً عند التحوّل من العروبة الثقافية، كردٍّ على سياسات "تركيا الفتاة" القومية الشوفينية، إلى العروبة السياسية مطلع القرن العشرين، كردٍّ على قوى الاستعمار الغربي.
الحالة اللبنانية
لا شكّ أنّ مسيحيي جبل لبنان، لاسيما الموارنة، شكّلوا حالة خاصة في هذا السياق. فإذا كانت نخب مسيحية لبنانية بارزة من أبرز دعاة العروبة الثقافية "العلمانية" في عصر النهضة، غير أنّ عروبتهم تلك ما استحالت عروبة سياسية وحدوية، كما كانت حال نخب مسيحية في سائر بلدان المشرق، وذلك لأسباب تاريخية وجيوسياسية وديموغرافية محدّدة.
وإذا كانت النزعة "الاستقلالية" لغالبية المسيحيين اللبنانيين قد شكّلت عنوان تعارض مع النزعة الوحدوية العربية داخل لبنان ومع المحيط العربي، مع ما استتبعه ذلك من التباسات وتباينات في مسألة الهوية اللبنانية، إلّا أنّها بدت مفهومة ومشروعة بعد سقوط التجربة الوحدوية.
غير أنّ الأهم أنّ الحرب اللبنانية بأسبابها الداخلية خصوصاً، كانت مؤشراً مبكراً إلى أزمة الدولة العربية الحديثة، حيث بدا أنّ المطالبة بأي تغيير سياسي، مهما كان طفيفاً، يمكن أن تتحوّل إلى حرب أهلية.
فما حصل في لبنان في سبعينيات القرن الماضي، تكرّر، وإن بوتائر وأشكال مختلفة، في بلدان "الربيع العربي" منذ العام 2011. ولا شكّ أنّ هول الكارثة السورية في السنوات الماضية كانت أبلغ دليل إلى أنّ استحالة الدولة فائضاً سلطوياً - دون أي أفق ديموقراطي وتمثيلي يتفاعل مع التحولات السياسية والاقتصادية في المجتمع - هو أخطر ما واجهته وتواجهه البلدان العربية.
استنقاذ الدولة
عليه، فإنّ أي تفكير صادر عن المسيحيين العرب خارج دائرة البحث عن كيفية استنقاذ الدولة الوطنية الحديثة على أسس الحرية والعدالة والمساواة، هو، برأيي، تفكير قاصر عن التقاط اللحظة التاريخية وتحدياتها. والأخطر أنّه إعلان لفضّ انتمائهم إلى هذه المنطقة التي كان لهم دور أساسي في تكوينها الحضاري.
هذه، باعتقادي، قاعدة التفكير الرئيسية التي ينبغي الارتكاز إليها في البحث عن حلّ لأزمة المسيحيين العرب. فخارج هذه القاعدة نعود إلى ما قبل الدولة، إلى الزمن الأمبراطوري، أو إلى زمن الحمايات الأجنبية. وهو ما يستشف من بعض الدعوات السياسية والهوياتية التي تتحرك في فضاء أيديولجي محدّد يرتكز إلى موازين القوى الجديدة التي تحاول دول إقليمية وعالمية إرساءها في المشرق العربي خصوصاً. لذلك فإنّ هذه الدعوات ما هي إلّا وصفة لمزيد من الطائفية والمذهبية، ولمزيد من فرز المجتمعات بين أقليات وأكثريات على حساب فكرة المواطنة؛ وبالتالي لمزيد من التخلّف والظلم والتقهقر الحضاري.
بعبارات أخرى فإنه لا حل لأزمة المسيحيين العرب بمعزل عن حل الأزمة العربية ككّل، والتي هي في الأساس أزمة الدولة العربية الحديثة التي يتهددها في زمننا الحاضر ثلاثة أخطار أساسية - تتفرع منهما مخاطر وتحديات أخرى – وهي: التدخلات السياسية الدولية والإقليمية، الأيديولوجيا الشمولية الإسلامية، وتحوّل الدولة إلى فائض سلطة على حساب وظائفها الأساسية. فعوض أن تبني الدولة اقتصاداً واجتماعاً وطنيين، فهي تكرّس منظومة اقتصادية واجتماعية بيد فئة من المجتمع على حساب المجتمع نفسه.
ولعلّ الموجة الثانية من الإنتفاضات العربية في العام 2019– بعد الموجة الأولى في العام 2011 والتي ووجهت غالباً بالعنف - والتي بدأت في السودان وانتقلت الى الجزائر ثمّ العراق فلبنان، تدفعها، بالدرجة الأولى، إرادة المواطنين باسترداد الدولة وظائفها الرئيسية في حمايتهم وتأمين مصالحهم الأساسية.
وإذا كانت النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر، باسهامات المسيحيين فيها، قد ارتكزت إلى المزاوجة بين الخصوصية المحلية والحداثة الأوروبية، فإنّه ليس أمام عرب اليوم سوى تكرار هذه التجربة من ناحيتين؛ من الناحية الثقافية بحيث يضعون منظومتهم القيمية وتراثهم في قلب العالم والعصر لا في مواجهتهما. ومن الناحية السياسية بحيث يعيدون إنتاج فكرة الدولة الحديثة في وعيهم، كعقد اجتماعي لا كمنتج استعماري أو كفائض سلطة كما آلت إليها أحوالها بعد الاستقلال.
أمّا المسيحيون العرب، فعبثاً يحاولون البحث عن حلول لأزمتهم الراهنة، خارج المساهمة الفاعلة في إعادة بناء دولهم على أسس مختلفة تأخذ في الاعتبار تطوّر مفهوم وواقع الدولة الحديثة والديموقراطية في العالم، والتحدّيات التي تواجهها في ظلّ العولمة.
هذه هي الطريق الوحيدة لنجاة المسيحيين وسائر جماعات المنطقة من المأزق الحضاري والوجودي الذي يحاصرهم. ولعلّ الخطوة الأولى في هذه الطريق، هي تغلّب المسيحيين على شعورهم بأنهّم ضحية المسلمين في المنطقة، وتغلّب المسلمين على شعورهم بأنهم ضحية الغرب. فهذان شرطان أساسيان لإمكان خلق نهضة عربية جديدة تشتغل على خطيّن : خط ثقافي يعيد انتاج منظومة قيمية عربية تزاوج بين الخصوصية والكونية العصرية، وخط سياسي يعيد الاعبتار لفكرة الدولة كعقد اجتماعي وفق مقتضيات العصر.
المراجع:
(1) Farouk Mardam-bey et Elias sanbar, Etre arabe, Entretiens avec Christophe kantcheff, 2007
(2) Samir kassir, Considération sur le Malheur arabe, 2004
(3) حازم صاغية، وداع العروبة، 1999
(4) مداخلة للدكتور رضوان السيد في مؤتمر"تحدي تجديد العروبة"،بيروت 2019
(5) Langue(s) arabe(s), monde(s), arabité, arabisme: élements de réflexion et d évaluation de dynamiques complexes- Amine Ait-Chaalal, 2007
(6) L arabisme par de la nationalisme et l islamisme- bourhan ghalioun, 2007