تحية للحضور من فلسطين
تحية لكل الشعوب العربية وبخاصة منهم لكل عربي محتل ومحاصر ولاجئ ونازح وأسير وشهيد
تحية من فلسطين للجولان السوري المحتل وللشعب (السوري العراقي اللبناني الأردني المصري ...)
والشكر للقائمين على هذا المؤتمر "المؤتمر المسيحي العربي الأول" آملين أن يشكل النواة لبناء رؤية عربية مشتركة تكون حقوق المسيحيين بقوميتهم العربية أحد أهم مكوناتها وتواجدهم وبقائهم في ديارهم أحد أهم ملامحها.
سأستهل هذه المداخلة بمشاركتكم بنبذة قصيرة عن مسيحيي فلسطين في مواجهة المشروع الصهيوني، يليها التطرق من منظور فلسطيني لبعض التحديات التي تواجهها الدولة القومية بما في ذلك الخطر المحدق بسبب الإرهاب والتدخلات الخارجية، ومن ثم اقتراح بعض الآليات التي من شأنها تعزيز التعددية والشراكة، بشكل يحدد بعض من ملامح العمل العربي المشترك والمصلحة العربية المشتركة.
نبذة عن مسيحيي فلسطين
فلسطين هي مهد الفلسطيني الأول السيد المسيح له المجد، فالحضور المسيحي في فلسطين يمتد لأكثر من ألفي عام. لكن، ومع نكبة العام 1948 والتي اغتصب فيها الكيان الصهيوني فلسطين، مُشرّداً بذلك ما يزيد على ثلاثة أرباع المليون فلسطيني أكثر من ثلثهم من السكان المسيحيين في فلسطين والذين أضحوا لاجئين بين عشية وضحاها، وما تبعها من هجرة المسيحيين غالباً من الشباب والمثقفين إلى مشارق الأرض ومغاربها وخصوصاً إلى الأمريكيتين اللاتينية والشمالية واستراليا، معظمهم تحت وطأة ظروف متضافرة اقتصادية واجتماعية وسياسية، أخذ عدد المسيحيين في فلسطين بالتضاءل والتقلص تدريجياً، لينخفض وبحسب احصائيات متعددة من ما يقارب 135,547 ما قبل ال 1948 إلى نحو 46,850 في وقتنا الحالي بمن فيهم 1,138 يقبعون في قطاع غزة المحاصر؛ أي ما يشكل بنسبة مئوية انخفاض حاد وملموس من 7.9% ما قبل العام 1948 إلى ما يقارب 1% من مجموع عدد السكان الفلسطينيين حالياً (وتشمل هذه النسبة – أي ال 1%: الروم الأرثوذكس 40.7% ، الكاثوليكية اللاتينية 35.7% ، الروم الكاثوليك 9.3% ، الأنجليكان 6.3% ، اللوثريين 2.5% ، السريان 2.5% ، الأقباط 1.6% ، الأرمن 1.4%) . هذا بالإضافة إلى وجود 133,600 فلسطيني مسيحي يعيشون تحت (داخل ما تسمى دولة اسرائيل، تحت حكم الاحتلال المباشر).
لقد كان للعامل السياسي والظروف الغير مستقرة بسبب الاحتلال، وبما ألقى من ظلال على الوضع الإقتصادي وعلى الأوضاع الحياتية بشكل عام، دور أساسي ورئيسي في دفع الفلسطينيين إلى ترك بلدهم وهجرتهم منها، بمن فيهم العرب المسيحيون. فقد ترتب على هذه الانعطافة الكبرى في التاريخ الفلسطيني والعربي منذ نكبة عام 1948 وما تبعها من صراع عربي- (إسرائيلي) حتى يومنا هذا إلحاق ضرر بليغ بكل مكونات التراث الإنساني والمجتمعي والثقافي بشكل عام، والديني بشكل خاص، وبحركة الفلسطينيين القهرية وتهجيرهم خارج الوطن، وعلى وجه أكثر دقة على الوجود المسيحي الذي طُرد معظمه، وهُجّر قسمُ آخر منه، وبقي القسم الأخير (أي نسبة ال1%) التي ذكرتها الآن، بقي هذا القسم الضئيل صامداً في ظل أوضاع وظروف سياسية وأمنية واقتصادية قاسية. فالممارسات الإسرائيلية لم تنفك يوماً عن استهداف المؤسسات الدينية المختلفة من مسيحية وإسلامية، معرّضة المسيحيين والمسلمين في فلسطين لضغوط حياتية شديدة خصوصاً التضييق على حرية العبادة، بحيث تسلبهم حقهم بالممارسات الدينية أو الوصول لأماكن العبادة، فضلاً عن سلب أراضيهم ومنازلهم وتشتيت شمل العائلات وأواصر البلاد بجدار الفصل العنصري والحواجز والاستيطان، التي على سبيل المثال لا الحصر تمنع حرية الحركة والعبادة بين أقدس مدينتين مسيحيتين (بيت لحم المهد وقُدس القيامة التي نُجلّها) بنظام المستوطنات والجدار من أجل تهجيرهم .
ورغم أن إرادة الصمود والبقاء قوية لدى غالبية الناس إلا أن الاستنتاج العلمي في ما يتعلق بالهجرة هو أنها تزداد في زمن يتميز بانعدام الاستقرار السياسي والعسكري، والذي ينجم عنه عدم استقرار اقتصادي واجتماعي ولا سيما في العلاقات بين مختلف فئات الشعب بما في ذلك الفئات الدينية. فالأوضاع السياسية الحالية لم تترك قطاعا اقتصاديا إلا وأصابته بما في ذلك الزراعة والإنتاج والبناء والتجارة والمواصلات والخدمات. وقد تأثرت كل الجماعات السكانية الفلسطينية بهذه الآثار بما في ذلك المسيحيون، وبالأخص في مدن بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور، حيث يعتبر المسيحيون فيها مجموعةً سكانيةً هامة. وأسوة بجميع سكان المنطقة فإن مئات العائلات المسيحية قد أصبحت تعيش دون خط الفقر ولا تستطيع بالتالي الإيفاء بالتزاماتها الأساسية:مثل أجرة المنازل والتعليم والرعاية الصحية وغيرها من الأمور الحياتية الأساسية.
وإذا ما استمر هذا النَزيف كما هو اليوم، فلا يتوقع والحال هذه أن يزداد عدد المسيحيين خلال هذا القرن، لا بل بالعكس سيظل في انخفاض، مما سيؤثر سلبا على تركيبة الجماعات المسيحية المختلفة وعلى تفاعلاتها في داخل كنائسها وحضورها ومساهماتها في مجتمعاتها.
وللتدليل على حجم الهجرة المسيحية إذا بقيت نسبة الهجرة على ما هي عليه اليوم فان ما يزيد على الستة آلاف مواطن مسيحي سيتركون ارض الوطن خلال السنوات العشر القادمة، بحسب بعض الاستبيانات.
يقول الصحفي الفلسطيني المقيم في بيروت صخر أبو فخر، في دراسة بعنوان "مسيحيو الأرض المقدسة: كائنات متحفية أم شهود؟" والتي نشرت في ملحق لصحيفة السفير اللبنانية في تشرين الأول – أكتوبر 2011: "ثمة كارثة إنسانية وحضارية وسياسية مقبلة، بلا ريب، على فلسطين، وتتمثل هذه الكارثة في أن بلد المسيح وأرض المسيحية الأولى، قبل أنطاكية، ستصبح خلال أربعة عقود مقبلة على وجه التقريب بلا مسيحيين إلا من بقايا النُسّاك في قلّاياتهم والكُهان في أديرتهم والقسيسين في كنائسهم، وعلى الأرجح لن يبقى في بيت لحم، وهي مدينة ميلاد المسيح، خلال العشرين سنة المقبلة، أي مسيحي في ما لو استمرت معدلات الهجرة على حالها الآن."
بلا شك، إن إفراغ فلسطين من مسيحييها هو جزء من المشروع الصهيوني لتكريس الكيان الإسرائيلي، وحلقة في مسلسل تهجير الفلسطينيين من المشرق العربي لتصوير الصراع العربي – الإسرائيلي على أنه صراع ديني بين المسلمين من جهة واليهود والغرب المسيحي الداعم لكيان الإحتلال الإسرائيلي من جهة أُخرى، إذ أن وجود المسيحيين في فلسطين وباقي الدول العربية ينفي هذه المزاعم الصهيونية.
لذلك، وأمام التحديات التي تواجهها الدولة القومية، ومن أهمها على المستوى الفلسطيني تقلص الوجود العربي المسيحي في الأراضي المقدسة، وعلى الرغم من المشكلات التي يواجهها المسيحي العربي إلا أنه ما زال مكوناً رئيساً من مكونات الأمة العربية، بحيث يجب الإسهام الفعال في معالجة ظاهرة هجرة وتهجير المسيحيين من ارض وطنهم والعمل على الحد منها تمهيدا لوقفها نهائيا. وبصيغة أعم، يجب على الدول العربية أن تكون واحة آمنة لاستقرار المسيحيين وتمسكهم بجذورهم فيها بدلا من أن تكون باباً للهجرة.
من الجدير بالذكر هنا أن الهجرة في الأوقات الحالية لا تنحصر في العرب المسيحيين فقط وإنما تطال قطاعات أوسع من العرب، نضف إلى ذلك أن هجرة أية مجموعة سكانية هامة بخصائصها التعليمية والمهنية وبمهاراتها المختلفة هي فعلا خسارة للوطن ككل وتشكل نزيفا يئن منه جسد الوطن كله.
ولكن المشكلة مع هجرة المسيحيين العرب تكمن في أمرين: الأمر الأول هو أن المسيحيين العرب يغادرون بمعدل يصل إلى ضعفي معدل مغادرة غيرهم من المواطنين، والأمر الثاني أن معظم الجماعات المسيحية في بلادنا جماعات صغيرة عدديا، ومن ثم تترك الهجرة فيها أثرا كبيرا من حيث شل قدرتها على متابعة الحياة الجماعية بما تتطلبه من نشاطات وتفاعلات.
ومن هنا اتخذت الهجرة المسيحية العربية بعدا مقلقا ليس فقط للمسيحيين أنفسهم، بل للدول العربية أيضا وحكوماتها والتي يكوِّنُ المسيحيون فيها جزءا لا يتجزأ من التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، خاصةً وأن معظم المسيحيين الذين هاجروا توفرت لديهم الخصائص الثقافية والمهنية والتي لم تلاقِ الفرص المواتية للتقدم في مجتمعاتها فانجذبت بالتالي إلى مجتمعات جديدة حيث الفرص والمجالات المتاحة. وهنا يكمن الأثر الأسوأ للهجرة في ما يسمى بهجرة الأدمغة أي هجرة تلك الطاقات والمهارات الضرورية لاستمرارية ليس فقط الجماعة نفسها وإنما المجتمع ككل.
وفي ما يختص بالمفهوم العربي-الإسلامي لهجرة المسيحيين العرب، فان هذه الهجرة تعني أن تاريخا طويلا من العيش المشترك ومن التلاحم في السراء والضراء ومن علاقات الانفتاح الديني المتبادل يهدده خطر الاختفاء والزوال. وكلنا يعلم أن أرضنا هي منبت الديانات التوحيدية ومنبع الرسالات السماوية، وبالتالي فإن هجرة المسيحيين العرب تهدد هذه التعددية التاريخية، وكذلك تنتقص من التجربة الحياتية الهادفة إلى حسن الجوار والإثراء الثقافي المتبادل على مر العصور.
هنا لا بد من التأكيد بأن ولاء المسيحيين العرب أسوة ببقية المواطنين هو لهويتهم العربية بترابطاتها الاجتماعية والثقافية والتراثية وبمدلولاتها العرقية والسياسية. حيث يتحدث كثير من المؤرخين عن المساهمة الملحوظة للمسيحيين العرب في الحركة القومية العربية ودورهم في إعادة إحياء معالم العروبة ومضمونها الحضاري الجامع والمنفتح على الحضارات الأخرى الناهضة في مرحلة التراجع العربي، علاوة على مساهمات المسيحيين كمواطنين في مواقع مختلفة في بلدانهم العربية المختلفة، مشكلين حلقة وصل واتصال، وعمقا ثقافياً أصيلا في العروبة ومتقدماً في العصرنة والحداثة.
أما الخطر المحدق بسبب الإرهاب والتدخلات الخارجية فقد أسهم غياب الحرية الدينية من ناحية، وتبني المشاريع الإقليمية والدولية التي تسعى لتقسيم الدول العربية وتكريس الطائفية فيها من ناحية أخرى، إلى ازدياد التطرف الديني اقليمياً ودولياً، بشكل يهدد مستقبل الوجود المسيحي في الدول العربية برمتها.
لنفترض جدلاً بأن عدداً من العائلات الفلسطينية المسيحية لجأت إبان الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 إلى إحدى الدول العربية المجاورة، سوريا مثلا، ثم ومع تفاقم الصراعات الداخلية واشتداد وطأة المؤامرات الخارجية في السنوات الأخيرة نزحت معظم هذه العائلات إلى دولة جوار (تركيا مثلاً). هذا مثال بسيط عن تزايد الخطر المحدق بالوجود المسيحي في المنطقة وما يتهدده في المسقبل القريب.
لكن أمام هذا المثال الذي إذا ما سمحتم لي أن أصفه (بالتشاؤومي)، وأمام الخطر المحدق بسبب الإرهاب والإحتلال الإسرائيلي في الحالة الفلسطينية المدعوم بتدخلات خارجية، لا يسعني إلا أن أذكر نفسي وأشارككم ببصيص أمل عندما أستذكر كيف تمكنت الجهود الفلسطينية المسيحية وبخاصة على المستوى الشعبي المسيحي بالتصدي للإجراءات الإحتلالية الصارمة، وبنظرة تفاؤلية الإشادة بها؛ ومنها مثلاً نجاح الجهد الفلسطيني الشعبي والكنسي بمنع إقامة جدار الفصل العنصري ومنع مصادرة وتقسيم أراضي فلسطينية مسيحية في منطقة وادي الكريمزان في مدينة بيت جالا القريبة من مدينة بيت لحم جنوبي الضفة الغربية، تلك الأراضي التي يزرعها مسيحييو بيت جالا ومنذ مئات السنين بكروم العنب، بالإضافة لضمها دير الكريمزان الكاثوليكي. هذا الجهد الشعبي والكنسي تكلل بنجاح قضائي هام، والآن تتواصل الحملات لإدراج هذه الأراضي التاريخية على قائمة التراث العالمي في منظمة اليونسكو لإحباط المخطط الإسرائيلي التوسعي لفرض مسار جديد للجدار عليها. أمام تهديدات إحتلالية كهذه، كافح المسيحي الفلسطيني وما زال يكافح للبقاء في بلده، متشبثاً بأرضه وقوميته وعروبته.
لذلك، من المرفوض والخاطئ وصف المسيحيين الفلسطينيين بأنهم "أقليات تحتاج إلى حماية." فهم في واقع الأمر جزء لا يتجزأ من المنطقة العربية التي شكلوا فيها ركيزة مهمة في التاريخ الفلسطيني منذ بداية القرن الماضي وبرز منهم رواد كبار في الحركة القومية العربية وفي حركة النضال الفلسطيني والعشرات من النخب والمثقفين والكوادر السياسية والعسكرية.
أما الكنائس، فقد اعتبرت نفسها دوماً جزءاً لا يتجزأ من محيطها العربي وساهمت بمدارسها ومستشفياتها وبمؤسساتها الخدماتية الأُخرى في فلسطين.
وعليه، فإن الطريق لمحاربة التطرف والتعصب الديني تكون بتعزيز التعددية والشراكة في بلادنا وذلك عن طريق:
هذه الأمور من شأنها خلق حالة من التلاحم المجتمعي الداخلي وتمتين النسيج الاجتماعي نحو هوية وطنية واحدة وتعايش مشترك بين جميع الفئات والاديان وتوفير قاعدة هامة للحوار والاعتراف المتبادل بين الطوائف الدينية المختلفة في المناطق العربية لبناء مجتمعات قادرة على العيش والانسجام عربياً واقليمياً، بشكل يبرز مشاركة العربي المسيحي في الحياة السياسية والإجتماعية باعتباره جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني والمجتمعي العربي، وإطلاق منصات حوار عربية لتعميم هذا المفهوم؛ ويسهم في تحديد ملامح العمل العربي المشترك والمصلحة العربية المشتركة ومنها:
في الختام لنتذكر سوياً بأن كنيسة الأرض المقدسة هي الكنيسة الأم في الديانة المسيحية، وهي ما زالت شاهدة على ميلاد السيد المسيح وقيامته. ويربط المسيحيون في فلسطين والأردن وبلاد الشام قاطبة أنفسهم وكنائسهم بهذه الكنيسة الأم كما ويربطون أنفسهم وجماعاتهم بأوطانهم وبتاريخها وبتراثها الثقافي والسياسي والاجتماعي. إن التحديات التي تواجه الوطن العربي تواجه المسيحي والمسلم على حد السواء، وبالتالي فان القلق على الوجود المسيحي في ربوعنا هذه هو قلق على استمرارية المجتمع كما عهدناه في حقب تاريخية مختلفة، وفي هذه الحقبة التاريخية بصورة خاصة. لذا، لا بد من العمل سوياً لانهاء الاحتلال والصراع العربي الإسرائيلي، فهو الطريق الوحيد والسبيل الأكيد لاستمرار الوجود المسيحي في إطاره العربي والوحدوي في الأرض المقدسة. وبدون هذا الحل فان المنطقة بأكملها ستستمر في حال من عدم الاستقرار وتؤثر على الأوضاع بمجملها، وتبقي نزيف الهجرة مستمراً.