استضاف مركز Politica الكاتب والباحث السياسي الاستاذ سعد كيوان، وحضر الندوة مجموعة من الصحفيين وقادة الرأي والسياسيين، من بينهم الدكتورة حُسن عبود والصحفي ايلي الحاج والصحفية سناء الجاك والدكتور فارس سعيد وغيرهم. وتلا الاستاذ كيوان نصاً جاء فيه:
لا أدعي في هذه العجالة القدرة على الاحاطة في موضوع بهذه الأهمية بالنسبة للبنان وتركيبته ومستقبله، عنيت به المسيحيين وموقعهم ودورهم في لبنان والمنطقة. فانا لست بمؤرخ ولا بباحث عن حال المسيحيين، وانما الدكتور فارس سعيد هو من ورطني في مقاربة هذه المسألة، لا بل اعترف انني كنت لسنوات خلت غير مبال، أقارب الأمر من بعيد، الى ان شعرت نفسي ذات يوم منجرا ومنشدا - وانا الشغوف بفهم جدلية اي حركية او صراع بخلفيته التاريخية واطاره السوسيولوجي - الى مواكبة ما يحدث مع المسيحيين وبينهم وبهم، خصوصا وانه لم يعد هناك اليوم من تمايز بين السياسي والديني حتى أنني اتجرؤ القول انه بات هناك شبه تماهي بين الاثنين! لذلك سأتوقف عند محطات محاولا طرح بعض الأفكار والعناصر التي من شأنها ان تساهم في خلق حوار واغناء النقاش.
قبل الدخول في صلب الموضوع أود ان أتوقف عند واقع يشكل باعتقادي مفتاحا ويقدم دليلا على ما سأزعم انه الخيار الأسلم والافعل وجوديا للمسيحيين، سواء بالمعنى الجغرافي-التاريخي ام بما يعني الكيان والدور. لماذا لم أكن معنيا لفترة طويلة بمصير المسيحيين كمسيحيين؟ أسارع الى القول انني نشأت وترعرعت في بيت مسيحي وفي بيئة طابعها الأغلب مسيحي، وكان أهل بيتي مسيحيون مؤمنون يمارسون الشعائر والطقوس الدينية المسيحية بشكل اعتيادي مثل كثيرين من أقرانهم، وكانوا يسعون الى دفعنا للالتزام بالحد الأدنى من طقوس الحياة المسيحية. غير انني لم أشعر يوما أنني "مسيحي" بحرف majuscule او أنني مختلف أو مميز عن المسلم الذي كنت أعيش معه وأخالطه في الحي وفي المدرسة وفي الحياة اليومية. كما ان عدد من رفاقي كانوا من المسلمين. لم اتلق في بيتي تربية مسيحية متعصبة او متزمة او منغلقة، وانما انفتاحا وتعايشا يقوم على التآخي والتضامن بين اهل المدينة فيما الكنيسة والجامع على بعد مئات الامتار من بيوتنا. ما ولّد لدي بذور انفتاح وتجاوز تلقائي للانتماء الديني بمعناه الضيق، ونمّى لدي الشعور بالاخوة والمواطنة، وساعدني على توسيع أفق تفكيري وإعمال العقل. علما ان من يشحن اليوم طائفيا ويحرض على الكراهية والتمييز عاش وترعرع في المدينة ذاتها والبيئة ذاتها التي ربيت انا فيها!
انتقل من الخاص الى العام لأقول ان العناصر المكونة لأي جماعة هي أربعة: التاريخ، والجغرافيا، والدور، والمصلحة.
المسيحية ولدت في الشرق ومنه انتشرت في العالم، والمسيحيون نشأوا وترعرعوا في هذا الشرق العربي منذ ما قبل الاسلام، اذ ان بلاد الشام كانت تعرف ببلاد العرب (أي "شعب" او "قبائل" بحسب اكثر من مؤرخ) وجبل لبنان كان جزءا منها. وكانوا ينطقون باللغة العربية الفصحى قبل نحو قرنين من ظهور الاسلام في مكة فيما كانت اللغة السريانية هي فصحى الآرامية ولغة الطقس الكنسي في العراق والشام وحتى في انحاء الجزيرة العربية. ويؤكد المؤرخ كمال الصليبي (كتاب "منطلق تاريخ لبنان") ان الموارنة كانوا يتكلمون العربية ويكتبون بها، على الأقل منذ اكثر من ألف سنة. وهذا يعني ان المسيحيين او "النصارى" هم عرب أصليين وأصيلين، من المكونات الاساسية لبلاد العرب وهم الذين أعطوا معنىا ثقافيا وحضاريا للعروبة، وليسوا طارئين او ملحقين او تابعين. انتماؤهم العربي - ليس بالمعنى القومي وهذه مسألة أخرى تحتاج نقاش في غير مناسبة - ليس اذا ممالأة او تملقا للاسلام، وانما يضرب عميقا في جذور الجغرافيا والتاريخ. وكانوا السباقين في بناء حضارة المنطقة ونهضتها وثقافتها والحفاظ على تنوعها الديني والأثني.
وهذا لا يعني ان ليس للمسيحيين خصوصيتهم وان للبنان خصوصيته، فقد تميز منذ 1920 بتنوعه الطائفي والمذهبي وتعدده الثقافي وترسيخ التعايش الحر ببن مختلف مكوناته كما اراده كبير صانعيه البطريرك الياس الحويك، الذي رفض فكرة الوحدة السورية تحت الأمير فيصل كما رفض ايضا فكرة لبنان كيان مسيحي كما حاولت فرنسا تسويقه. واذا كان لبنان الكبير قد أنشأ عام 1920 بفضل البطريرك الحويك الذي ذهب الى مؤتمر فرساي مفوضا من اللبنانيين المسيحيين والمسلمين ليطالب بلبنان وطن لجميع أبنائه، على أساس "الوطنية السياسية لا الدينية" كما اكد في خطابه، فان استقلال 1943 جاء تتويجا لنضوج فكرة لبنان العيش المشترك بين "جناحيه المسلم والمسيحي"، على ما كان يردد صائب بك سلام، لبنان الصيغة والميثاق الذي أرساه بشارة الخوري ورياض الصلح، لبنان التنوع والتعدد ضمن الدولة الواحدة. دور المسيحيين تجسد اذا بانشاء الكيان اللبناني، وتبلور وترسخ بفضل الكنيسة المارونية وكبار رجال الاستقلال المسيحيين والمسلمين... المسيحيون اذا ليسوا بحاجة الى حماية من أحد، ولكنهم بالمقابل ليسوا بحاجة لخيارات أقلوية مغامرة تعني في ما تعني تعارضها مع جوهر وجودهم ودورهم، ففي كل مرة حاولوا ان يسلكوا طريقا مغايرا كانوا كمن يطلق النار على رجليه!
وهكذا اعتبر المسيحيون أنهم في أساس فكرة لبنان وانهم صنّاعه، عاشوا "عصره الذهبي" الذي دام اكثر من ثلاثين سنة منذ الاستقلال عام 1943 وحتى عام 1975، وفرضوا هيمنتهم على مفاصل السلطة مرسخين ما عرف في تلك الحقبة بـ"المارونية السياسية" الى حين اندلاع الحرب عام 1975، التي سبقها أول نذير ببداية تصدع الصيغة عبر تململ الشارع عام 1958 (موقف البطريرك المعوشي)، ثم البيان الشهير الذي اعلن فيه فؤاد شهاب عزوفه عن الترشح مجددا للرئاسة عام 1970 رغم الاكثرية المضمونة التي كان يحظى بها. أما النذير الثالث والمباشر فكان التقاء رؤساء الحكومة السنة على معارضة تكليف الرئيس سليمان فرنجيه في نيسان 1973 امين الحافظ تشكيل الحكومة مطالبين بالشراكة في الحكم... الحرب التي دامت خمسة عشرة سنة (موقف البطريرك خريش خلال حرب الجبل) خلخلت التركيبة ونسفت موازين القوى، او الأصح قضت على استئثار المسيحيين بالحكم، وعلى الامتيازات التي تمتعوا بها خلال فترة ممارستهم السلطة، لأسباب منها ذاتي ومنها موضوعي. كابر المسيحيون وغلبوا "الوجدان المسيحي" والعنفوان على حاجة وحق المسلمين في الشراكة. انتهت الحرب باحباط مسيحي، فراح بعضهم يتوسل العلاج عند من كان له اليد الطولى في إحباطهم (النظام السوري)، وآخر يحاول استغلال إحباطهم ويأسهم لتحقيق بطولات وهمية!
عام 1989 تم التوصل إلى "وثيقة الوفاق الوطني"، أو ما بات يعرف بـ "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب، وأسس للسلم الأهلي، انطلاقاً من مفهوم جديد للشراكة و"العيش معاً"، وأعاد تكوين السلطة على قاعدة التوازن بين السلطات، بعيداً عن الديموغرافيا ("اوقفنا العد" قول رفيق الحريري الشهير) وحجم الطوائف التي يكفل الدستور حقوقها ودورها. ولم يعد رئيس الجمهورية مطلق الصلاحيات، وإنما مؤتمناً على الدستور وضامناً للسلطات، ويضطلع بدور الرمز والحكم بين اللبنانيين. وهذا كان في صالح المسيحيين وفي أساس الحفاظ على لبنان التعددي، ومنطلقا لاعادة تشكيل الدولة على أسس الشراكة والمساواة بفعل قوة التوازن لا توازن القوى كما يردد الدكتور سعيد.
ولكن تطبيق "الطائف" أوكل إلى نظام الوصاية السورية طيلة خمس عشرة سنة، وتم التعامل مع المسيحيين كمهزومين، ما أدى إلى تهميشهم طيلة تلك الفترة. فتمرد قسم منهم ممن أحسن قراءة المرحلة رافعاً شعار استعادة السيادة والاستقلال. وقد تصدر هذه المعركة مجددا الكنيسة المارونية وبطريركها الراحل نصرالله صفير بعد تحرير الجنوب، فأطلق في 20 أيلول 2000، نداءه الشهير، مطالباً القوات السورية بالانسحاب من لبنان، وممهدا لتأسيس "لقاء قرنة شهوان" الذي استعاد زمام المبادرة على الصعيدين، المسيحي والوطني، وسعى الى شبك خيوط العلاقة مع رفيق الحريري، بهدف إعادة القوة الى التوازن والتواصل مع المسلمين الذين كان يمنعهم النظام السوري من ذلك. وفي 14 شباط 2005 أحدث اغتيال الحريري زلزالاً كبيراً ساهم في إطلاق "انتفاضة الاستقلال" في 14 آذار 2005، التي أدت عملياً إلى تبني المسلمين الشعارات التي رفعها المسيحيون منذ ثلاثة عقود، وتحديداً شعار "لبنان أولاً".
إن مشاركة المسيحيين الكثيفة والعفوية في انتفاضة 14 آذار هي التي أعادتهم إلى الخارطة السياسية وإلى دائرة القرار. وفي كل مرة كانوا ينكفئون أو يساوم أحدهم على الثوابت بخيارات طائفية او فئوية، كما حصل مراراً إبّان زمن الوصاية، كان مصيرهم التهميش، أو الغرق في الإحباط. فمعركة استعادة سيادة الدولة وقرارها الحر لم تنته، على الرغم من انسحاب الجيش السوري، فقد اندفع بعضهم اليوم إلى التحالف مع من يقيم دويلة داخل الدولة، اي مع "حزب الله" صاحب أجندة مذهبية غير لبنانية وغير عربية. وهو يعمل على إستلاب القرار اللبناني، ويمنع قيام الدولة (تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية سنتين ونصف)، ويضع لبنان في مواجهة المجتمع الدولي وقرارات الشرعية الدولية التي تدعم الاستقلال الثاني بمجموعة قرارات أصدرها مجلس الأمن، بدءا بالقرار 1559 مروراً بالقرار 1595 الذي أطلق التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الحريري، ومهد لقيام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، انتهاء بالقرار 1701 الذي أعاد سلطة الدولة والجيش اللبناني إلى الجنوب.
بعد الانسحاب السوري، ساد مناخ تم ترويجه عبر تحذير المسيحيين من نية المسلمين السيطرة على الدولة والاسئثار بالسلطات، وإن المعركة، بالتالي، هي معركة حصص ووظائف ومغانم. وقد ركب رئيس "التيار الوطني الحر"، ميشال عون، هذه الموجة، لاعباً على عواطف المسيحيين (إنتخابات 2005)، فانتقل من موقعه تياراً سيادياً إلى موقع الالتحاق بخط 8 آذار الذي يقوده "حزب الله" وبرر تموضعه هذا بالقول إنه "يشكل حماية للمسيحيين". وصعد من حملته على السنة ظنا منه انها تشكل له ورقة عبور الى رئاسة الجمهورية، وشارك في احتلال وسط بيروت وعطل الرئاسة والبلد سنتين ونصف السنة عملا بمعادلة بسيطة "إما أنا الرئيس أو لا أحد"، مختصرا حقوق المسيحيين ودورهم بشخصه، ومتهما الآخرين بالتآمر عليهم. غير انه اضطر الى التراجع والبحث عن تسوية مع الحريري، اي مع السنّة، من اجل تحقيق حلمه الرئاسي.
فماذا حل اليوم ب"حقوق المسيحيين" الذين يدعي التيار المسيحي "الأقوى" المطالبة بها بعد مضي ثلاث سنوات على وجود عون في السلطة؟ مواجهة مع الدروز، وابتزاز للسنة، ونار تحت الرماد مع قسم من الشيعة، واستياء لدى الارثوذكس، وخلاف مع معظم العرب... فهل ان حقوق المسيحيين ودورهم يختزل بالاستئثار بالسلطة؟ وهل المطلوب رئيس مسيحي صوري لدولة سليبة القرار؟
أما الكنيسة المارونية التي اضطلعت على الدوام بدور مفصلي على الصعيد الوطني، منذ ما قبل الاستقلال، وفي المحطات المهمة من تاريخ لبنان الحديث، فهي اليوم عالقة في "اللامكان" بعد أن خرج البطريرك الحالي، بشارة الراعي، على النهج السيادي الذي سار عليه سلفه البطريرك صفير أكثر من عقدين، وسعى إلى مغازلة محور 8 آذار والانفتاح على "حزب الله"، وعلى النظام السوري، في لحظة اندلاع ثورة الشعب السوري في 2011. وها ان الكنيسة اليوم تتقلب في مواقفها ذات اليمين وذات الشمال، لا دورا وازنا لها وطنيا، ولا على صعيد الرعية التي باتت تتنازعها ميول ونزوات أصولية وظلامية غير مسبوقة!
في المقابل، لا يبدو أن لدى القوى المسيحية الأخرى مشروعاً واضحاً ومقنعاً. فهل إن وقوفهم في المعسكر الاستقلالي يعفيهم من لعب دور ريادي، خصوصاً في هذا الظرف المفصلي، وسط كل ما يجري من تغييرات جذرية وتفاعلات على صعيد المشهد العربي والاقليمي؟ أم إن الأهم هو التنافس على كسب الساحة المسيحية بشعارات طائفية وشعبوية تحرض على الشريك المسلم؟ عام 1955 كتب ميشال شيحا، واضع الدستور اللبناني: "ان ما نراه ضرورة للبنان اليوم انما هو حيازة معرفة وفهم كافيين لوضعه الجغرافي ولما يرزح تحته من أثقال، ثم شمول هذين المعرفة والفهم طبيعة الجماعات المختلفة التي يتشكل من شراكتها الشعب اللبناني. فلا يمكن ان توجد نظم وقوانين أساسية او عادية قابلة للحياة في لبنان ما لم تضع في حسابها هذه المعطيات الواقعية العميقة". ويصيف: "لبنان بلد لأقليات طائفية متشاركة فلا امكان لصموده السياسي مدة طويلة من غير هذا التشارك في مجلس نيابي يكون مكان لقاء وتوحيد الطوائف. فحين نلغي المجلس ونلغي الشراكة نكون قد نقلنا الجدل حتما الى المحراب..."!
الشراكة اذا، وليس الغلبة او الاستقواء بمحاور خارجية أو السعي لاقامة "حلف لأقليات طائفية". عندما كان فؤاد شهاب في سدة الرئاسة التقى عام 1958 جمال عبد الناصر تحت خيمة على الحدود اللبنانية-السورية كي يسجل عدم انحياز لبنان الى جانب أهم زعيم عربي، فيما أصر كمال جنبلاط على القول لعبد الناصر عندما ذهب للترحيب به وبالوحدة مع سوريا ان "الوحدة تقف عن حدود لبنان"! ويبدو واضحا ان هاجس الرجلين، كل من موقعه ودوره، كان التأكيد على سيادة لبنان، وعدم انحيازه، والحفاظ على وحدته والعيش المشترك بين مكوناته.
فإذا كانت ل"حزب الله" دولة إقليمية تحميه، فليس أمام المسيحيين غير خيار الدولة؟ ألم يدركوا بعد أن زمن "الطائفة المميزة" قد ولى، وإن الهم المسيحي لا يمكن أن يكون ذاتياً أو فئوياً. ان دورهم ليس في "الالتحاق" بالشيعة أو بالسنّة، وليس، في الوقت عينه، بالوقوف على الحياد، بل في دور مركزي وجامع لكل اللبنانيين، عبر السعي إلى إعادة بناء الدولة.
ان أدق وأجمل تعبير عن لبنان دولة التعدد والتنوع والعيش المشترك يختصره برأيي كتاب آخر للمؤرخ الصليبي عنوانه "بيت بمنازل كثيرة"!