أريد في البداية تحديد معالم الوضع اللبناني الحالي في أربع نقاطٍ أو ظواهر:
أولاً: تبلْور راديكالية شيعية في لبنان يقودها حزب الله، بلغت ذروة تمركُزها ونفوذها في السنوات الأخيرة بالسيطرة على المؤسسات الدستورية الثلاث: رئاسة الجمهورية، ورئاسة المجلس النيابي، ورئاسة الحكومة.
إنّ هذه الراديكالية التي صارت منذ العام 2005 هي القيادة السياسية للطائفة الشيعية، تحالفت منذ العام 2006 مع الراديكالية المسيحية بقيادة الجنرال عون والتيار الوطني الحر، والذي صار بدوره منذ العام 2014 على الأقلّ هو القيادة السياسية الجديدة للمسيحية اللبنانية – هاتان الراديكاليتان استطاعتا تغيير مسار النظام اللبناني على شتى المستويات بدءًا بالدستور والمفاهيم التوافقية للعيش المشترك وعلاقات لبنان العربية والدولية، وانتهاءً بالنظام الاقتصادي والمالي، وترتيبات الوظيفة العامة، والقضاء وحكم القانون؛ وتارةً بالقوة مثل الاغتيالات السياسية واحتلال العاصمة بيروت، وطوراً بقلب الحكومة مثلما حصل عام 2011 أو باكتساح انتخابات العام 2018 من خلال قانون الانتخابات العجيب!
ثانياً: إفلاس الدولة اللبنانية الذي قادت إليه سياسات الإنفاق الهائل من جانب الحكومات، ومن جانب اشتراعيات المجلس النيابي، ومن جانب المصرف المركزي وقطاع المصارف- وإلى جانب تلك السياسات غير الرشيدة، هناك الهدر الهائل، والفساد الهائل، الذي ما شهد له العالم المعاصر مثيلاً أو مثائل.
ثالثاً: الإصرار حتى الآن من جانب الراديكاليتين بالدرجة الأولى، على عدم الموافقة على الدخول في إصلاحات حقيقية، تُوقِفُ النهب في المال العام أو بقاياه، وتتجاوز التقاسم والمحاصصات، وتسعى للعودة لحكم المؤسسات، وحكم القانون، ومعايير الشفافية والمساءلة، ومخاطبة العرب والعالم من أجل التضامن والمساعدة. تصوروا بعد كلّ ما حصل ويحصل، أن تدعونا الراديكاليتان للدخول في جنتي إيران والنظام السوري!
رابعاً: إنّ شقاء الشعب اللبناني ويأسه هو الذي قاد لثورته في 17 تشرين الأول الماضي. وهي ثورة بالفعل – وأنا أُسميها كذلك- لأنها تجاوزت الطائفية التقسيمية، وتجاوزت بل وانتفضت على الراديكاليتين المهيمنتين. وقد استطاعت الراديكاليتان، واستطاعت قوى أُخرى متنفذة أن تُشرذم الحراك لكي يقع الإسكات أخيراً في هجمة كورونا. وهناك عودةٌ قريبةٌ كما علمت من بعض المشاركين. وهناك مجموعتان صغيرتان قامتا أخيراً بالعمل الصحيح: الدعوة لتطبيق القرار الدولي رقم 1559 ضد الجماعات المسلحة غير الشرعية - والذهاب باتجاه القصر الجمهوري للاحتجاج على الراديكالية الأُخرى. كان الشعار الرئيسي للحراك: كِلُّن يعني كِلُّن! إنما ما كان هناك برنامج ولا قيادة تنسيقية. ولا متابعة مستمرة لهدفٍ واحد أو رئيسي. وكل ذلك سوف يحصل، لأنّ الأمر متعلق بالشعب اللبناني ودولته ومستقبله، وهو أمل وعمل كل شباب وشابات لبنان.
ما العمل اليوم وغداً؟
ما بقي أحدٌ من الوطنيين من غير أهل السلطة إلاّ وحاول أن يفعل شيئاً. وقد تشكلت عدة مجموعاتٍ سياسية، كلها لديها حيويات وفعاليات. ونحن من جانبنا الدكتور فارس وأنا أطلقنا حركة المبادرة الوطنية منذ ما قبل الانتخابات النيابية. وقد قامت بعشرات النشاطات. لكنّ المطلوب كبير وكثير، لأنّ الوضع شديد البلاء والسوء.
ولذلك قررتُ مع مجموعاتٍ من الكهول والشبان معظمهم من أهل السنة، إقامة تجمع وطني؛ وذلك لسببين: السنة هم الأكثر تذمراً وشعوراً بالفقدان لضياع الدولة والنظام، واستيلاء الراديكاليتين عليهما- ولأنّ السنة في جمهورِهِم وليس في نُخَبهم فقط هم الأكثر وعياً وإفصاحاً وبكل وضوح عن الولاء لوثيقة الوفاق الوطني والدستور والحرص على مقتضيات العيش المشترك، والأكثر رفضاً للسلاح غير الشرعي، وللاستئثار الباسيلي بمقادير الدولة والنظام حتى في مناطقهم. طرابلس والبقاع وصيدا هي بيئات الحراك السلمي ووروده الربيعية النامية، ولا يجوز أن تُترك لألاعيب الأجهزة، ولا لالتماس التشبه بعنف الراديكاليتين- نحن وطنيون لبنانيون مقتنعون بالعيش المشترك، وبنهائية الكيان اللبناني، وبالمواطنة الكاملة، وبالشرعيات الثلاث: الشرعية الوطنية الدستورية والديمقراطية، والشرعية العربية، والشرعية الدولية، وهي الشرعيات التي تأسس عليها لبنان، واجتاز بها سائر الأزمات. ويعمل الراديكاليون على التنكر لها مرةً بالدعوة لإلغاء الصيغة والكيان، ومرةً بالدعوة للفيدرالية.
نحن نريد ونعمل في التجمع الوطني على التحول في سائر الأنحاء إلى مجموعات تحفيز وبناء تنموي وسياسي. وهناك أمرٌ قد لا يعرفه كل الحاضرين- منذ العام 2011 قامت في سائر المدن والبلدات السنية عشرات الجمعيات الخيرية والتنموية الجديدة وليس للأهداف العادية للجمعيات الخيرية فقط؛ بل ومن أجل الكفاية والكفاءة والتفكير بالحاضر والمستقبل. وقد قمنا في الشهور الماضية بعملياتٍ تشاوريةٍ واسعةٍ مع الجمعيات والأفراد ووجدنا استجابةً عارمةً، وسيكون لنا ودائماً بالتشاور والتنسيق صوتٌ وفعاليةٌ في كل حدثٍ مناطقي أو وطني. ونتطلع إلى أن يكون لنا أصدقاء وحلفاء، ولا شرط لدينا للعمل معاً على المستوى الوطني إلاّ الاتفاق على الشرعيات الثلاث، ومعارضة السلاح غير الشرعي، واعتماد النظام اللبناني على قوة التوازن، وليس على توازن القوى المتقلب، والمسبب لانعدام الاستقرار.
إنه تحدٍ تاريخي كبير للبنان الكيان والنظام والعيش المشترك. ولا سبيل للخروج من المأزق إلاّ بتكاتف سائر الجماعات الوطنية من أجل الإنقاذ، فالمشكلة وطنية عامة، وليس لها إلاّ حلٌّ وطني. والتجمع الوطني الإسلامي اللبناني هو جهدٌ جديدٌ من أجل لبنان الدولة والوطن والدستور والعيش المشترك.